Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آخر أيام عصر التدخل

أفغانستان وأوهام نظرية الأفعال القصوى

جندي من سلاح مشاة البحرية الأميركي (مارينز) أثناء تأمين "مطار حامد كرازاي الدولي" في كابول نهاية أغسطس 2021 (رويترز)

 يجب أن تصنف التأرجحات الباهظة الثمن لتدخل الولايات التحدة في أفغانستان في عداد أكثر الحوادث سوريالية وإثارة للقلق في السياسة الخارجية الحديثة، إذ انتقلت من طفرة في عدد القوات كلفت 1 تريليون دولار (734 مليار جنيه استرليني) إلى انسحاب كامل، وبلغت ذروتها الختامية مع إعادة إرساء حكومة "طالبان" في السلطة بعد 20 عاماً من هجمات 11/9.

ويقف الهوس بالخطط الشاملة والموارد الهائلة في القلب من مأساة أفغانستان، إذ أعاق [ذلك الهوس] حصول تقدم متواضع وهادف، كان ممكناً تحقيقه بعدد أقل بكثير من القوات وكلفة أخف أيضاً.

في المقابل، إن هذا الفشل في رسم مسار وسطي بين الاستثمار المفرط المدمر وبين الاهمال الكامل لا يدلنا على ما كان ممكناً تحقيقه في أفغانستان، بقدر ما يعبر عن أوهام أولئك الذين تدخلوا هناك.

وبالاسترجاع، لقد بدأ عصر التدخل في البوسنة سنة 1995 ثم تسارعت وتيرته مع المهمات التي جرت في كوسوفو وأفغانستان والعراق، وخلال تلك الفترة طورت الولايات المتحدة وحلفاؤها رؤية ذاتية تُصورهم كأنهم رؤساء تنفيذيون [لشركات] للتغيير، إذ امتلكوا الاستراتيجية والموارد لإصلاح الأمور والفوز بالمكافآت، ثم الخروج في أسرع وقت ممكن.

تجسد رمز ذلك العصر في الجنرال الأميركي الذي يستيقظ في الرابعة فجراً ويركض ثمانية أميال قبل أن يعمل على إصلاح دولة فاشلة.

ولو حاول المسؤلون الأميركيون والأوروبيون أنفسهم تحسين الأوضاع الحياتية للناس الفقراء في إحدى بلدات مناجم الفحم الحجري السابقة في شرق "كنتاكي"، أو سعوا إلى العمل مع قبائل الأميركيين الأصليين في "ساوث داكوتا"، لصاروا أكثر تشكيكاً بشأن المخططات الأولية العالمية في تبديل المجتمعات، ولأظهروا أيضاً مزيداً من الانتباه لتاريخ المجتمعات المحلية والصدمات التي تعرضت لها، ولأضحوا أكثر تواضعاً بخصوص وضعهم كأجانب [في البلدان التي يتدخلوا فيها كي يغيروها].

وكذلك لربما أدركوا أن الفوضى أمر لا بد منه، والفشل محتمل والصبر أساس، ولربما فهموا أيضاً لماذا يعتبر التواضع أفضل من "بصمة القدم الثقيلة" [العملية العسكرية الكبيرة والوجود الواسع]، ولماذا يعد الاستماع أفضل من إلقاء المحاضرات؟

  مع ذلك، ففي دول البلقان وأفغانستان والعراق، وهي أماكن تعرضت لصدمات أكثر وإفقار أشد وتضرر أوسع من أي مكان آخر [في أميركا أو أوروبا]، أصر المسؤولون الأميركيون والأوروبيون على إمكان وجود صيغة للنجاح و"مهمة محددة بوضوح"، وكذلك "استراتيجية للخروج".

ورأوا أنه من الممكن تحميل مسؤولية أي انتكاسة لمجرد النقص في التخطيط الدولي أو شح الموارد.

ألحقت تلك الأفكار الضرر بالبوسنة وكوسوفو، وكذلك أثبتت أنها فتاكة بالنسبة إلى التدخلين في أفغانستان والعراق، وكلاهما بدأ كخليط هجين كثير التقلب من لإحسان ومكافحة الإرهاب، ثم سرعان ما أصبح مزيجاً هجيناً أكثر تقلباً مؤلفاً من بناء الدولة ومكافحة التمرد، ومنذ لحظة بداية جاءت الخطط الدولية سوريالية الطابع ومنفصلة عن الواقع المحلي. وعلى ذلك النحو، وصف الأفغان في المسودة الأولى لاستراتيجية التنمية لأفغانستان التي وضعها مستشارون دوليون سنة 2002، بأنهم ملتزمون بإنشاء "حكومة تمثيلية قابلة للمساءلة، تستند إلى قاعدة واسعة متعددة الإثنيات" وترتكز على "احترام حقوق الإنسان"، وفي تلك السنة نفسها زعمت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس أن الإرهاب الآتي من أفغانستان يمثل "تهديداً وجودياً لأمننا".

جرى تصميم تلك الإدعاءات المغرقة في المغالاة التي تضاعفت أعدادها مع كل استراتيجية أو خطة جديدة، بغرض الحصول على مزيد من الموارد والدفاع داخل الوطن [في أميركا وأوروبا] عن تلك التدخلات، ومن خلال المبالغة في توصيف احتمال النجاح من جهة وأخطار الفشل من جهة ثانية، بات من الصعب مقاومة الدعوات إلى إرسال مزيد من القوات، وحينما لاقى جنود حتفهم (وقد قتل منهم أكثر ممن سقطوا في أي وقت آخر منذ حرب فيتنام)، أملت السياسات المحلية على المسؤولين تقديم بيانات عن تلك المهمات [التدخلات] تكون أكثر تشدداً وصخباً، وخططاً متضخمة  بشكل متزايد مع نشر قوات إضافية أيضاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

 

أخيراً، انهار مخطط "بونزي" [بمعنى احتيالي] الخطابي المنمق، ولكن باعتبار أنهم فشلوا في تحقيق أوهامهم وتفعيل قوتهم كمنقذين، بدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، غير قادرين الآن على الاعتراف أو تقويم التقدم الذي حدث بالفعل على الأرض، ويعود ذلك جزئياً إلى أنه كان بطيئاً وغريباً وغير منسجم مع خططهم في الغالب.

لقد بالغ القادة السياسيون كثيراً في عرض قضيتهم إلى درجة أنه بمجرد الكشف عن خطئهم لم يعد بوسعهم العودة لمخطط وضع بصمة القدم الخفيفة [العملية العسكرية المحدودة مع حضور خفيف]، وعوضاً من ذلك انتقلوا من التطرف المفرط إلى الإنكار والانعزاليه والانسحاب، وفي النهاية انسحبوا وعمدوا إلى تحميل المسؤولية عن الفوضى التي أعقبت انسحابهم إلى الفساد ونكران الجميل والجبن المفترض لدى شركائهم السابقين.

 

عصر التدخل

بصورة جزئية، جاء الهوس بالخطط العالمية المدعومة بالموارد الثقيلة التي أدت إلى الفشل في أفغانستان والعراق انطلاقاً من سوء فهم نجاح سابق، إذ شكلت عملية حلف الناتو في البوسنة، الفعل الأول والفاعل إلى حد بعيد في عصر التدخل الذي صار عمره 20 عاماً.

لم يقتصر الأمر على إنهاء الحرب والحفاظ على السلام عشرات السنين من دون أن يرتب ذلك أي كلفة تقريباً على الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، لكنه حقق أيضاً أشياء بدت مستحيلة قبل فترة غير طويلة، كحماية المدنيين وحل الميليشيات الشرسة والعودة الآمنه للاجئين إلى مناطق التطهير العرقي وسجن مجرمي الحرب.

وإذ لا تزال دولة البوسنة حالياً هشة ومنقسمة عرقياً وفاسدة، فإنها أيضاً بلاد تنعم بالسلام.

واستطراداً، لقد أسيء تفسير ذلك النجاح الذي نجم عن وجود دولي كبير ومقيد للغاية، إذ قدم [النجاح] بوصفه حجة تبرر تدخلات دولية جريئة ترتكز على قوالب عالمية في بناء الدولة، تكون مدعومة بموارد هائلة، وأكد السياسي البريطاني الذي كان الممثل الدولي الكبير في البوسنة والهرسك بادي آشدون أن البوسنة أظهرت سبع "أعمدة لصنع السلام" يمكن أن "تطبق بشكل أو بآخر عالمياً".

يقف الهوس بالخطط الشاملة والموارد الهائلة في قلب المأساة من أفغانستان.

وقدم آشدون خطة عن إنشاء كل شيء من الأمن إلى إمدادات المياه والسجون واقتصاد السوق الفاعل، وفي رأيه ثمة حاجة لإدارة دولية ذات سلطه تنفيذية مطلقة لتحقيق تلك الأشياء، كذلك ينبغي تجنب الانتخابات أو المشاوارات المحلية. وبحسب آشدون، فإن على القوى المتدخلة أن "تعمل بصرامة من البداية" بهدف ترسيخ حكم القانون بأسرع ما يمكن وبالشكل الأكثر حسماً، حتى لو "فعلت ذلك بوحشية تامة".

تبنى كثيرون رؤية آشدون وطوروا مخططات أولية مماثلة، فمثلاً شارك جيمس دوبينز، وهو مبعوث أميركي خاص سابق إلى البوسنة سيصبح في ما بعد ممثلاً خاصاً لأميركا في أفغانستان وباكستان، [شارك] في تأليف كتاب بعنوان "دليل المبتدئين إلى بناء الأمة"، نشرته "مؤسسة راند".

وأكد الكتاب أن العمليات "الثقيلة" في فرض السلام تتطلب 13 جندياً لكل 1000 نسمة، فيما "تتطلب عمليات حفظ السلام الخفيفة " اثنين من الجنود. وتالياً قدم أشرف غني الذي سيصير رئيساً لأفغانستان، نسخة مطابقة عن ذلك الرأي في كتاب دراسي شارك في تأليفه بعنوان "إصلاح الدول الفاشلة"، وحدد كتاب غني 10 وظائف للدولة، ووضع مخططاً عالمياً في بناء الدولة يمكن تطبيقه من القرن الأفريقي إلى جبال الأورال.

واستكمالاً، ففي كوسوفو والعراق نشرت قوات تزايدت باستمرار بهدف دفع مثل تلك الخطط إلى الأمام، وتمتعت إدارة الأمم المتحدة في كوسوفو بسلطة تخولها سجن أي شخص وتغيير الدستور وتعيين المسؤولين والموافقة على موازنة الحكومة (على الرغم من أنها استخدمت تلك السلطة بحذر نسبياً).

وفي العراق، فقد تولى بول بريمر، الرئيس الأميركي للإدارة المؤقتة للتحالف السلطة التنفيذية بالكامل، وأرسل مسؤولين أميركيين وبريطانيين، كنت أحدهم، لحكم المحافظات العراقية.

لقد أعاد هؤلاء كتابة المناهج الجامعية وشكلوا الجيش من جديد وطردوا من العمل مئات الالآف من أعضاء "حزب البعث" الذي تزعمه صدام حسين، واعتقلوا آخرين يقدر عددهم بعشرات الالآف.

في سياق متصل، شكلت أفغانستان، وهي الثالثة بين تدخلات عصر التدخلات الأربعة الكبرى، الاستثناء، وهناك اقترح الأخضر الإبراهيمي، وهو مسؤول كبير تابع للأمم المتحدة، ومن دونالد رامسفيلد وزير دفاع الولايات المتحدة، "بصمة خفيفة".

ومع أن كلاً منهما جاء من خلفية سياسية مختلفة تماماً (كان الإبراهيمي زعيماً مناهضاً للاستعمار في الجزائر)، إلا أنهما سخرا من كوسوفو باعتبارها مهزلة استعمارية جديدة.

وكذلك خشي كلاهما من أن اللجوء إلى "البصمة الثقيلة" في أفغانستان سيجعل الحكومة تعتمد بشكل كبير على الأموال والقوات الأجنبية، مما سيؤدي إلى تمرد.

وفي البداية، أعطى رامسفيلد الإذن بنشر 2000 جندي من القوات الأميركية، ومنع بذل أي جهد في بناء الأمة.

لم تُبذل أي محاولة لإنشاء أي شيء يمكن مقارنته بالمهمة التي نفذت في كوسوفو أو العراق لاحقاً، وفي المقابل منع الإبراهيمي فتح مكاتب ميدانية للأمم المتحدة في عدد من المقاطعات بهدف ضمان عدم إغراء موظفيه المثاليي التفكير في الأمم المتحدة، بإدارة أفغانستان، وأُسندت القيادة بدلاً من ذلك إلى الحكومة الانتقالية الأفغانية التي قادها الرئيس حامد كرزاي.  

وفي سنة 2004، بعد ثلاث سنوات على بدء التدخل، نَعُم الشطر الأكبر من أفغانستان بقدر أكبر من الأمن والحرية والازدهار، فيما توفرت خدمات وفرص أفضل مما حصل في 30 عاماً.

في المقابل، كان هناك جانب قاتم في تلك القصة متمثلاً في الفساد الذي حدث بشكل أسوأ مما كانه خلال الاحتلال السوفياتي أو حكم "طالبان" [قبل التدخل في 2001]. وكذلك تصرفت الشرطة بوحشية، ولم يخدم النظام القضائي سوى مصالح أولئك القادرين على دفع الرشاوى، وحلق عالياً إنتاج نبات الخشاش الذي يستخرج منه الأفيون، فيما تدفقت الأرباح على كبار المسؤولين الحكوميين، علماً أن حركة "طالبان" [في فترة توليها السلطة قبل سقوط حكمها في 2001] قد قضت على إنتاجه تقريباً مع حلول سنة 2000.

 في ذلك الإطار، ربما مثلت ولاية هلمند حال الإخفاق الأكبر، إذ أُديرت من قبل زعماء أقوياء محليين ممن ثبتهم كرزاي في مناصب حكومية، والذين كانت عائلاتهم تدير الولاية في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين، وقد استغل أولئك الزعماء سلطتهم الجديدة لإشعال فتيل حرب أهلية استمرت سنوات طويلة حول الأرض والمخدرات. (في ذلك الوقت، أنتجت هلمند 90 في المئة من الأفيون الأفغاني وجزء كبير من الهيروين، وقد وجدت تلك المخدرات طريقها إلى أوروبا).

وباعتبار أن الأفغان في بعض أجزاء تلك الولاية تعرضوا بانتظام للسرقة والتعذيب على يد أولئك القادة، فقد باتوا يشعرون بالحنيين إلى أيام "طالبان".

وكذلك ألقى عدد من المعلقين مسؤولية الانتكاسات على كون عملية التدخل في أفغانستان جاءت من نوع "البصمة الخفيفة"، وحاججوا أن العراق قد شغل الولايات المتحدة، ففشلت في التخطيط بشكل مناسب، ولم تنشر ما يكفي من الموارد أو القوات، ودعا مسؤولون في الأمم المتحدة ومشرفون على برامج مكافحة المخدرات وصحافيون وناشطون في مجال حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، إلى إطاحة أمراء الحرب. وحذر أكاديميون من أن الافتقار إلى الحكم الرشيد سيؤدي إلى جعل السكان المحليين ينفرون، وسيفضي أيضاً إلى تقويض صدقية الحكومة الأفغانية، وافترض الجميع عملياً وجود خطة واقعية لإصلاح الحكم في أفغانستان، وأن العناصر الناقصة في إنجاحها تتمثل في مزيد من الموارد والقوات الدولية، وكذلك جادل تقرير أصدرته "مؤسسة راند" في 2003 بأن "الأمم المتحدة وحلفاءها قد رصدوا أموالاً أكثر بـ25 مرة وجنوداً عددهم أكبر بـ50 مرة، بالنسبة إلى كل نسمة من السكان، في مرحلة ما بعد الصراع في كوسوفو، بالمقارنة مع ما رصدوه في مرحلة ما بعد الصراع في أفغانستان، ويفسر ذلك المستوى المرتفع من المدخلات إلى درجة كبيرة ذلك المستوى المرتفع من المُخرجات الذي جرى قياسها بمقاييس المؤسسات الديمقراطية والنمو الاقتصادي".

وبالتالي، حملت تلك الأفكار حلف شمال الاطلسي على تنفيذ تدخل ثان [في أفغانستان] جاء في الواقع أقوى من الأول، إذ تمثل في عملية تغيير للنظام لم تستهدف هذه المرة "طالبان"، بل تركزت على هياكل السلطة التي أنشأت من قبل كرزاي شريك التحالف الدولي.

ومع حلول سنة 2005 ظهرت "فرق إعادة الإعمار الإقليمية" في أنحاء البلاد، وبدأت الأمم المتحدة في نزع سلاح أمراء الحرب ومليشياتهم وحلها، وأخذ عدد قوات الناتو بالارتفاع، وتوقع قائد القيادة المركزية الأميركية آنذاك، الجنرال جون أبي زيد، أن يكون 2005 "العام الحاسم".

ومع حلول 2006 جرد أعتى أمراء الحرب في هلمند من مناصبهم، ونشرت المملكة المتحدة آلاف القوات في الولاية، ولم يكن هدف أولئك الجنود محاربة "طالبان" التي نُظر إليها على أنها قوة ضعيفة. بالأحرى، ركزت تلك القوات على تحسين الحكم والعدالة والقضاء المبرم على الفساد والمخدرات. وأطلق على تلك الخطة اسم "المقاربة الشاملة"، وقد تطلبت "بصمة ثقيلة" دولية أقوى من أي وقت مضى. وبدا أن قلة شككت في جدوى تلك الخطة، وكذلك شدد الجنرال البريطاني ديفيد ريتشاردز، قائد العملية التي شنها حينذاك حلف الناتو، على أن المهمة "قابلة للتنفيذ إذا توصلنا إلى الصيغة الصحيحة، وجرى توفير الموارد المناسبة لها"، وقد رفع ريتشاردز عديد القوات الموجودة تحت إمرته من 9000 إلى 33000 جندي، وادعى أن 2006 سيكون "عام السحق".

وعملياً، في 2006، ازدادت هجمات "طالبان" بالقنابل خمسة أضعاف، وارتفع عدد الضحايا البريطانيين 10 أضعاف، وقد حملت المسؤولية في ذلك أيضاً للخطة غير المثالية والموارد غير الكافية. وأعلن جنرال جديد في سنة 2007 عن استراتيجية أخرى تتطلب مزيداً من الموارد أيضاً. وحدث الشيء نفسه في 2008. وبعدما رفع الناتو عديد قواته حذت أميركا حذوه وزادت عديد قواتها أيضاً.

وفي 2009 أعلن الجنرال الأميركي ستانلي ماك كريستال عن خطة جديدة لـ 130 ألف جندي من قوات أميركا وحلف الناتو، مدعياً أنه "في خضم معمعة العام الحاسم ".

مع ارتفاع عديد القوات باتت مشكلة الحكم الرشيد هي مشكلة تمرد.

 

الفشل ليس خياراً

في ذلك الوقت، قتل آلاف من جنود القوات الأفغانية والدولية، وصارت أفغانستان أقل أماناً بكثير مما كانته في 2005. في المقابل، أصر المتدخلون على وجود صيغة في مكان ما، في بناء الدولة ومكافحة التمرد يمكن أن يحالفها النجاح، وبدأ خبراء مكافحة التمرد يقترحون أنه ربما تستطيع قوات مؤلفة من 700 ألف جندي أن تحقق ذلك.

وفيما عززت الولايات المتحدة وجودها في أفغانستان، ارتفعت حرارة الخطاب السياسي في واشنطن، وحين قُتل 30 جندياً أميركيا في أفغانستان سنة 2003، بدا ممكناً تبرير المهمة بوصفها واحدة من العمليات الأميركية الصغيرة المتعددة التي تمتد ميادينها من آسيا إلى القرن الأفريقي، ولكن مع الوصول إلى سنة 2008، ونظراً إلى مقتل خمسة أضعاف ذلك الرقم من الجنود الأميركيين سنوياً وإنفاق عشرات المليارات، فإن تفسيرات أكثر تطرفاً باتت مطلوبة. وجادل مسؤولون حينذاك بأنه إذا سقطت أفغانستان في أيدي "طالبان" فستليها باكستان، وبالتالي سيضع المتطرفون أيديهم على أسلحة نووية، وأصر الرئيس باراك أوباما على أن القبض على أسامة بن لادن يتطلب "الفوز" في أفغانستان، ولم يكن الفشل خياراً.

ليس في ذلك كله شيء من الصحة، بطبيعة الحال، إذ شكلت باكستان مع جزء كبير من الشرق الأوسط تهديدات أكبر من حيث الإرهاب وعدم الاستقرار الإقليمي، ولم يتطلب القبض على ابن لادن سوى القبض على ابن لادن.

في المقابل، فإن رياح الرأي العام الهمجية والتي تتغير جهتها على الدوام طالبت بمزيد من التصريحات التي تتسم بالتعالي والبارانويا [أوهام اضطهادية] أكثر من أي وقت مضى، وصارت خطط الولايات المتحدة المتعلقة ببناء الدولة ومكافحة التمرد عبارة عن غطاء يستعمل للمراوغة وتلطيف التعابير، مع العلم بأنها خطط يبررها منطق ملتو، ويجري تقديمها على شكل إحصاءات جزئية تزين صورتها تشبيهات خاطئة.

لم يكونوا مرنين، بل اتصفوا بالضحالة والتفاؤل بشكل مفرط، وبدوا واثقين من أنفسهم إلى حد بعيد، ولأن هاجس تلك الخطط بقي متمثلاً في إجراء إصلاحات في المناطق التي تسيطر عليها "طالبان" في جنوب أفغانستان، فقد حولوا إليها الاستثمار من المناطق المستقرة غير العدوانية في وسط وشمال أفغانستان، حيث وجدت إمكانية فعلياً في تحقيق تقدم تنموي كبير.

واستطراداً، احتوى كثير من تلك الخطط المتفاءلة على تنبؤات غير واضحة بالفشل، بل لم تكن مستترة إلا بالكاد، ومثلاً أكد ماك كريستال ألا قوة عسكرية توفرها الولايات المتحدة بصرف النظر عن حجمها، تستطيع أن تؤمن الاستقرار في أفغانستان "طالما بقي الفساد المتفشي واستغلال الناس، صفتين ملازمتين للحكم"، واعترف أوباما نفسه بأنه من المرجح أن السلوك السيئ من ذلك النوع لن يتغير، لكنه مع ذلك أعطى الإذن بالاستجابة إلى طلب أخف قليلاً من ذلك الذي قدمه ماك كريستال، تضمن إرسال حوالى 40 ألفاً من القوات الإضافية.

وبينما واصلت الولايات المتحدة العمل على تحسين خططها، عمدت "طالبان" إلى تطبيق رؤيتها الخاصة في تحقيق الأمن والحكم وسيادة القانون، وقد أطلق عناصر "طالبان" على خطتهم اسم الشريعة، ولم يروجوا لها من حصن عسكري بل عبر البنى القبيلية، ساعين إلى التقرب من العادات الريفية واستغلال المراجع الدينية، وذلك بلغة الـ"باشتو".

وكلما زادت القوة العسكرية التي نشرها المتدخلون ضدهم تزايدت قدرة أفراد "طالبان" في تقديم أنفسهم بأنهم قادة الجهاد في سبيل أفغانستان والإسلام ضد احتلال أجنبي.

وبالنسبة إلى الأميركيين وحلفائهم، بدا مستحيلاً أن تتمكن مجموعة من مقاتلي العصور الوسطى ممن عاشوا في أكواخ من الطين وحملوا بنادق يعود تصميمها إلى أربعينيات القرن الماضي وركبوا أحصنة قزمة، من الوقوف في وجه القوات المسلحة الأميركية بما لديها من أساطيل الطائرات الحربية وقدرات الحرب الإلكترونية والخطط المتطورة في مكافحة التمرد وبناء الدولة، ومليارات الدولارات التي تنفقها على شكل مساعدات، وأمعن المتدخلون في الاعتقاد بأن المجتمع الدولي يمكنه أن ينجح في بناء الدولة في أي مكان في العالم، شرط أن تكون لديه الخطة الصحيحة والموارد  الكافية.

لا يعود النجاح النسبي في البوسنة إلى قوة الوجود الدولي بل ضعفه نسبياً.      

 

الدروس الكاذبة من البوسنة

لقد عبر ذلك الرأي عن سوء قراءة مأساوي للتجربة في البوسنة التي شكلت تدخلاً أكثر حذراً، بل مقيداً بأكثر مما يتذكره كثيرون، إذ بلغ عدد القوات الدولية هناك أكثر مما وصله حين ابتدأت الحرب في أفغانستان.

في المقابل، فرضت قيود شديدة على قدرة الجنود والمدنيين الأجانب في البوسنة. (إن رؤية آشدون عن وجود مُشيد عالمي للدولة يكون كلي القدرة، فيستطيع إلغاء الأصوات المحلية وتنفيذ الخطة المثالية، تجسد ما تمنى حصوله وليس ما وجده).

ومع استمرار تذكر الندوب التي خلفتها ذكريات فيتنام والتدخل الفاشل الأخير في الصومال، لم يرغب كبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين في الانجرار إلى النزاع الإثني التاريخي الطويل في دول البلقان، الأمر الذي جعلهم يقاربون الصراع بمنتهى الحذر، وحين نفذت الولايات المتحدة في وقت متأخر تدخلها العسكري، تركزت حملتها على العمليات الجوية من أجل قصف مرابض مدفعية صرب البوسنة الموزعة حول مدينة "ساراييفو"، وخاضت سلطات البوسنة قتالاً على الأرض إضافة إلى جنود كرواتيين تدربوا على يد مقاولين من الولايات المتحدة، وحين نُشرت القوات الدولية في أعقاب إبرام اتفاقات "دايتون" للسلام، فإنهم أمضوا الشطر الأكبر من وقتهم في قواعدهم، وقد تعرض جنود أميركيون لإصابات أثناء ممارستهم الرياضة أكثر من إصاباتهم في إطار الأعمال القتالية. 

وكذلك تمتع مكتب الممثل السامي للبوسنة والهرسك بصلاحيات أقل بكثير مما سيحوزه المكتب المشابه في كوسوفو، ولم يكن بوسع الأول أن يعطي الأوامر للعسكريين أو عناصر الشرطة من أجل تنفيذ المراسيم التي يصدرها. وسلم "اتفاق دايتون" 49 في المئة من أراضي البلاد إلى صرب البوسنة المعتدين، وكُرست سلطتهم في المناطق التي عملوا على تطهيرها عرقياً. وفي بادئ الأمر، عمد الوجود الدولي الحذر إلى ترك القوات شبه العسكرية الكرواتية وتلك التابعة لصرب البوسنة، وقوى الشرطة الخاصة وأجهزة الاستخبارات لديهما، على حالها من دون أن يجردها من أسلحتها، وبدلاً من اللجوء إلى ما يعادل "اجتثاث البعث"، على غرار ما فعل بريمر في العراق، أو إطاحة أمراء الحرب على غرار ما فعلته الولايات المتحدة وقوات التحالف في أفغانستان، طُلب من الممثل السامي للبوسنة والهرسك أن يعمل مع مجرمي الحرب.

هكذا سُمح لرادوفان كاراديتش زعيم صرب البوسنة المسؤول عن مذبحة "سريبرينيتشا" [قتل آلاف بسبب ديانتهم]، بالمشاركة في الانتخابات (وفاز في أول انتخابات أُجريت بعد الحرب سنة 1996).

ولم يجر التحول في البوسنة في نهاية المطاف بأيد أجنبية، بل من طريق حلول محلية فوضوية وغير متوقعة، تلقت الدعم في أحيان كثيرة من الدبلوماسية الدولية، وجاء الاختراق الأول حينما انشقت بيليانا بلافسيتش رئيسة صرب البوسنة عن مرشدها مجرم الحرب كاراديتش، ثم طلبت الدعم الدولي.

وكانت بلافسيتش نفسها مجرمة حرب، ووصفت مسلمي البوسنة بأنهم "مواد مشوهة وراثياً"، إلا أن القوى الدولية تعاونت معها على نزع سلاح قوات الشرطة الخاصة التي تألفت وحداتها من صرب البوسنة، وخدمت كميليشيات بحكم الأمر الواقع.

وفي وقت لاحق، أدى موت الرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان وإطاحة رئيس صربيا سلوبودان ميلوسوفيتش إلى إضعاف وكلائهما في البوسنة، ولم يكن أي من هذين الحدثين جزءاً من استراتيجية جرى التخطيط لها من قبل المجموعة الدولية، لكنهما ساعدا "محكمة جرائم الحرب" في لاهاي التي كانت بادئ الأمر صغيرة وبلا أسنان، على توسيع عملياتها، مما أدى في نهاية الأمر إلى إلقاء القبض على كاراديتش ومحاكمته، ليس وحده وإنما بلافسيتش نفسها أيضاً، وتمخضت التسويات الحذرة في النهاية عن التهدئة وليس عن العدالة.

في إطار مماثل، لا يعود الفضل في وقف مسار التطهير العرقي في البوسنة في قسطه الأكبر إلى الخطط الدولية، وعلى الرغم من الالتزام الذي نص عليه "اتفاق دايتون" بإعادة اللاجئين، اعتبر عديد من الخبراء الدوليين أن السماح للاجئين بالرجوع إلى القرى التي أُحرقت تماماً واحتلتها ميليشيات معادية، عمل ينطوي على التهور، ومع ذلك حاولت مجموعات صغيرة من البوسنيين العودة لديارهم، وإذ طُرد بعض العائدين على الفور من قبل مجموعات مسلحة فإن بعضهم الآخر صمدوا وأقنعوا القوات الدولية أن تتبعهم وتوفر لهم الحماية، وفتحت تلك المبادارات الصغيرة بقيادة البوسنين الباب على عودة ما يزيد على مليون لاجئ، على الرغم من أنها مرتجلة وتدريجية ولا تتبع خطة دولية.

وفي غضون عقد واحد من التدخل أُعيد ما يزيد على 200 ألف منزل إلى أصحابها، وجرى نزع سلاح أكثر من 400 ألف جندي من ثلاثة جيوش، وبنت البوسنة جيشاً موحداً مؤلفاً من 15 ألف جندي، وألقي القبض على جميع مجرمي الحرب الرئيسين وقدموا للمحاكمة، كذلك انخفض معدل جرائم القتل في البوسنة إلى أقل من مستواه في السويد، وتحقق كل ذلك بشكل كاد ألا يكلف الأميركيين وحلف شمال الأطلسي أي خسائر في الأرواح.

وبحسب ما جادل جيرالد كناوس، رئيس "مبادرة الاستقرار الأوروبية"، وهي مؤسسة فكرية أوروبية متخصصة في دول البلقان، فإن تلك النجاحات لا تعود إلى قوة الوجود الدولي بل إلى ضعفه نسبياً، إذ أجبر التدخل المقيد نسبياً السياسيين المحليين على أخذ زمام المبادرة، واستلزم في كثير من الأحيان تنازلات غير مريحة، وجعل المدنيين والقوات الأجنبية يتصرفون بحذر أثناء تنفيذ مبادرات محلية غير متوقعة وارتجالية. 

 

الطريق الوسط الآخذ بالتلاشي

هل كان من شأن "بصمة خفيفة" عسكرياً في أفغانستان أن تؤدي في نهاية المطاف إلى نجاح مماثل؟ ربما، لكن مع مقدار أكبر من الصعوبة.

لقد كانت أفغانستان أفقر بكثير، في الوقت الذي غزتها فيه الولايات المتحدة، من البوسنة حين تدخل حلف الناتو فيها.

وبلغ متوسط العمر في أفغانستان حوالى 48 عاماً، مع موت واحد من كل سبعة اطفال قبل سن الخامسة، ولم يكن معظم الرجال (وجميع النساء تقريباً) قادرين على القراءة والكتابة، وتميزت المجتمعات الأفغانية بأنها محافظة أكثر بكثير، وأشد تديناً وارتياباً بالأجانب، بالمقارنة مع المجتمعات البوسنية (يرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى جهود "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية التي سعت إلى تطوير هويتهم كمقاومين بطوليين ضد الاحتلال الأجنبي خلال المرحلة السوفياتية).

إن مقاربة "البصمة الخفيفة" والمستدامة على غرار التدخل البوسني، كانت الأجدر بالاتِّباع في أفغانستان.

في المقابل، استطاع الوجود الدولي المحدود والمقيد بادئ الأمر في أفغانستان، تحقيق تقدم أكبر بكثير مما أقر به معظم منتقدي تلك الحرب.

إذ لم يكن العنف وسوء الإدارة، خصوصاً في ولاية "هلمند" وأماكن أخرى في جنوب أفغانستان وشرقيها، وقد استخدما لتشويه سمعة نهج "البصمة الخفيفة"، يمثلان ما يجري في كل المناطق الأفغانية الريفية. ومثلاً، في "باميان"، الولاية التي تقع في وسط البلاد ويبلغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة، احتفظ العسكريون الأقوياء بالسلطة، لكن ساد سلام في تلك الأرجاء. وأسس السكان المحليون بين عامي 2001 و2004، مدارس ممتازة حتى في المناطق السكنية البعيدة، الأمر الذي مهد أمام معظم الفتيات خوض تجربتهن الأولى مع التعليم الرسمي، وأرسى الأسس في التحاق بعضهن بالجامعة.

وبدأ سكان "باميان" الذي كانوا مجتمعاً مهمشاً منذ فترة طويلة يتولون مناصب رفيعة في الجامعات ووسائل الإعلام والوزارات ووكالات حكومية أخرى. ومددت الحكومة الطرق المعبدة إلى القرى، وأوصلت إليها الكهرباء التي لم ترها من قبل، وكانت الحياة هناك أفضل بكثير مما كانته في ظل حكم جماعة "طالبان" [قبل سقوطها في 2001] التي قادت هجمات نفذت في سياقها أعمال إبادة جماعية ضد مجتمعات "باميان".

(سرتُ هناك في شتاء 2001- 2002 من قرية إلى أخرى، وكانت "طالبان" قد أحرقتها وتركتها أثراً بعد عين)، وتحقق كل ذلك النجاح بوجود مجرد عشرات من الجنود الأجانب في الولاية، من دون وجود إداريين مدنيين دوليين.

على نحو مشابه، حدث تقدم أيضاً في مناطق مركزية أخرى، إضافة إلى مناطق في الشمال تشمل "هيرات" وجزء كبير من "مزار الشريف" ووادي "بنجشير" وسهل شومالي وكابول.

وأدت عملية "البصمة الخفيفة" الدولية في كل تلك المناطق إلى وقوع عدد أقل من الضحايا الدوليين، مما قلل الضغط أيضاً على السياسيين والجنرالات الأميركيين والأوروبيين لطرح إدعاءات مبالغ فيها. كذلك أجبرت [البصمة الخفيفة] المجتمع الدولي على الانخراط في نقاش أكثر تواضعاً مع أبناء الشعب الأفغاني حول نوع المجتمع الذي يرغبون فيه بأنفسهم، وقبول الأفكار والقيم التي لم يشاركهم فيها الأميركيون والأوروبيون دوماً، باختصار فرضت تلك العملية وجود شراكة.

ومع حلول سنة 2005، أضحى الاقتصاد الأفغاني أكبر بمرتين مما كانه في 2001، كذلك تضاعف عدد سكان كابول أربع مرات.

وارتفع عدد المباني الجديدة، وبدا أن المذيعات والمذيعين الشباب الذين أطلوا عبر شاشة التلفزيون يتمتعون بالثقة الكافية كي يسخروا من حكامهم، ولم يقتصر التقدم على العاصمة كابول، بل شمل البلاد بأجزائها كلها، ولا سيما أن 1.5 مليون فتاة ذهبن إلى المدرسة للمرة الأولى، وانتشرت الهواتف المحمولة كالنار في الهشيم، وتحسنت الصحة وارتفع متوسط العمر المتوقع، وحدث عنف أقل مما شهدته البلاد في أي وقت من الأوقات خلال الـ 40 عاماً الماضية، ولم يكن هناك تمرد يمكن مقارنته على الاطلاق مع ما اندلع في العراق.

وربما تمثل الأمر الأكثر تشجيعاً في أنه بالمقارنة مع فرار ملايين الأشخاص في أعقاب غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، اختار ملايين اللاجئين الأفغان العودة إلى ديارهم خلال تلك الفترة.

ماذا كان سيحدث لو حاولت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الاحتفاظ بـ "بصمة خفيفة" عسكرياً ونهج منضبط في أفغانستان بعد 2005؟

ماذا لو نشروا عدداً أقل من القوات، واستثمروا في مساعدات إنمائية سخية، وقاوموا محاربة تجارة المخدرات، والإطاحة بأمراء الحرب مع استمرارهم في دعم انتفاضة تمرد ضد "طالبان"؟

سيعتمد الجواب حينذاك إلى حد كبير على مبادرات الفاعلين المحليين والتنافس في ما بينهم، والتطورات في الدول المجاورة، وأيضاً على الحظ.

 

ولقد شكلت تلك الأمور تماماً العناصر التي اعتمدت عليها النتيجة في البوسنة، وكان ممكناً في أجزاء كثيرة في أفغانستان وجود فقر ونقص في التمثيل الديمقراطي وحكم الرجل القوي، ومن المحتمل ظهور رعب مستمر في المناطق التي يسيطر عليها أباطرة المخدرات ويعصف بها الاقتتال الداخلي البشتوني والتدخل الباكستاني، خصوصاً إذا واصلت قوات العمليات الخاصة الأميركية ووكلائها البحث عن الإرهابيين.

في مقابل ذلك كله، كان مستطاعاً في الشطر الأكبر من البلاد، من "باميان" إلى "بنجشير"، حدوث تحسينات مستمرة في الصحة والتعليم والتوظيف، لا سيما إذا لم تؤد الزيادة الطموحة في عدد القوات إلى انتقال أموال التنمية بعيداً من تلك المناطق كي تنفق في مناطق التمرد، وبالنسبة إلى ملايين الأشخاص في "هيرات" وكابول، كان ممكناً أن يقترن ذلك التقدم بإقامة مجتمع مدني ديمقراطي ومنفتح بشكل متزايد.

وربما الأهم من ذلك أنه كان مستطاعاً تجنب عدد من المشكلات التي سببها الوجود الدولي المكثف والزيادة في عدد القوات.

وعلى الرغم من حسن النية، إلا أن محاولات عزل أمراء الحرب المحليين باسم الحكم الرشيد، خلقت فراغات في السلطة في بعض أكثر المناطق عصياناً وصعوبة على القيادة في البلاد، إضافة إلى أنها نفرت الحكومة المنتخبة وقوضتها، ودفعت أمراء الحرب وميليشياتهم إلى التحالف مع "طالبان"، وأدت حملات مكافحة المخدرات إلى نفور كثيرين ممن فقدوا مصادر رزقهم.

وفي ملمح مختلف حاولت الولايات المتحدة العودة لنهج" البصمة الخفيفة" عسكرياً في 2014، لكن حين حل ذلك الوقت، كان الضرر الهائل قد حصل فعلاً. وأدت الزيادة في عدد القوات إلى تشكيل جيش أفغاني اعتمد بالكامل على التكنولوجيا والطائرات الأميركية الباهظة الثمن، وكذلك خلقت مجموعة جديدة من عصابات الرأسماليين التي تغذت على العقود العسكرية الأجنبية والفساد الفائق، وتسببت العمليات العسكرية في مقتل آلاف الأشخاص بمن فيهم عديد من المدنيين، مما أدى إلى تعميق الكراهية.

وقد أتاح وجود أكثر من 100 ألف جندي دولي في القرى الريفية، لحركة "طالبان" التي كانت مجموعة ضعيفة وهشة، تقديم نفسها بوصفها حركة تقاتل من أجل أفغانستان والإسلام ضد احتلال أجنبي.

في سنة 2005 أخبرني محلل استخباراتي بريطاني عن وجود ما يتراوح بين 2000 و3000 مقاتل من "طالبان" في أفغانستان، على الرغم من اتباع مقاربة "البصمة الخفيفة" آنذاك، وبعد ست سنوات ومقتل عشرات الآلاف من الأفغان وإنفاق نصف تريليون دولار، قدر الجنرال البريطاني ريتشارد بارونز من أن هنالك 36 ألف مقاتل تابع لمجموعة "طالبان" في أنحاء البلاد.

 من جهة أخرى، وعلى غرار ما شكل اتباع مقاربة "البصمة الخفيفة" في المراحل الأولى، خطة أفضل من الطفرة في عدد القوات، فإن الاعتماد على "البصمة الخفيفة" المتأخرة كانت أفضل من الانسحاب الكامل، وفي تلك الحال فإن وجود بضعة آلاف من القوات الدولية التي تدعمها العمليات الجوية سيكون من شأنه منع "طالبان" من السيطرة على أي عاصمة ولاية، إضافة إلى منعها من الزحف على كابول، ومن خلال منع استيلاء "طالبان" على السلطة تقدر تلك القوات على شراء وقت ثمين كي تستثمره في تحسين النتائج الصحية والتعليمية واستمرار المساعدة الإنمائية وتنامي المداخيل والفرص وترسيخ الحقوق بشكل أكبر بالنسبة إلى ملايين الأفغان.  

وعلى الرغم من أن ضخامة كلفة الطفرة في عدد القوات، فإن كلفة البقاء إلى ما بعد 2021 كانت ستعتبر ضئيلة، إذ كان في إمكان الولايات المتحدة أن تدعم 2500 جندي في أفغانستان إلى أجل غير مسمى تقريباً، ومن دون مجازفة تذكر.

وطالما بقيت القوة الجوية الأميركية والدعم للقوات الأفغانية على حالهما، لم تكن "طالبان" لتمثل سوى تهديد محدود للقوات الأميركية المتمترسة في قواعدها الجوية المحصنة (قتل 18 جندي أميركي في 2019، على الرغم من أنه كان ذلك العام الذي شهد القتال الأكثر ضرواة ربما، قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار).

لم تكن "طالبان" على وشك الانتصار، ولقد انتصرت لأن الولايات المتحدة انسحبت وشلت سلاح الجو الأفغاني أثناء خروجها من البلاد، وتركت القوات الأفغانية من دون دعم جوي أو خطوط إعادة إمداد، وبكلمات أخرى لم يكن القرار بالانسحاب مدفوعاً بالضرورة العسكرية أو مصالح الأفغان أو حتى أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل إن السبب في اتخاذه كامن ضمن السياسة الداخلية الأميركية.

ومع ذلك، رحب عدد من الأميركيين بنهاية حرب الولايات المتحدة في أفغانستان لأن قادتهم لم يشرحوا لهم بشكل مناسب إلى أي مدى أصبح الوجود الأميركي خفيفاً، أو ما الذي سعى إلى حمايته هناك، ويبدو أن السياسة في الغرب تمقت الحلول الوسط، فتمضي متأرجحة بعناد لا فكاك منه، بين المبالغة والتبجح وبين العزلة والانسحاب.

 إن مقاربة "البصمة الخفيفة" والمستدامة على غرار التدخل البوسني كان يجدر بها أن تمثل النهج المتبع في أفغانستان، وواقعياً في تدخلات أخرى كثيرة حول العالم أيضاً.

مع ذلك، بدلاً من الجدال بأن الفشل في أفغانستان لم يكن خياراً، تصرف الرئيس السابق من دونالد ترمب وكأن الفشل في أفغانستان ليس له عواقب، إذ لم يظهر أي قلق بشأن كيفية تأثير انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان على سمعة الولايات المتحدة وتحالفاتها والاستقرار الإقليمي والإرهاب أو حياة الأفغان العاديين، ولم تأت استجابته بشأن الإدعاءات المبالغ فيها حول أهمية أفغانستان على هيئة ادعاءات معتدلة، بل تمثلت في رفض الإبقاء حتى على وجود في غاية الضآلة هناك، أو تحمل أدنى كلفة.

واستطراداً، اتبع الرئيس جو بايدن سياسة ترمب في أفغانستان بكل تفاصيلها، على الرغم من تأييده في خطوة مشهورة حينما شغل منصب نائب الرئيس أوباما، مقاربة "البصمة الخفيفة"، وكذلك جداله ضد زيادة القوات، ويبدو أنه قد اقنع نفسه على مر السنين بطريقة أو أخرى، أن ذلك النهج [البصمة الخفيفة] قد أخفق أيضاً، غير أن "البصمة الخفيفة" لم تفشل. وبالأحرى، فإن من فشل هو الثقافة السياسية للغرب وقدرة البيروقراطيين الغربيين على التخيل.

لقد افتقرت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الصبر والواقعية والاعتدال اللازمين في إيجاد الطريق الوسط.

 

* روري ستيوارت، زميل متقدم في "معهد جاكسون للشؤون العالمية" في "جامعة ييل". وألف مع جيرالد كناوس كتاباً عنوانه "هل يمكن للتدخل أن يجدي؟"، وهو وزير بريطاني سابق للتنمية الدولية، وعمل مسؤولاً في التحالف في العراق، وأدار منظمة للتنمية في أفغانستان.

 

مترجم من فورين آفيرز

نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر(كانون الأول) 2021

المزيد من آراء