يضيء التاريخ في لحظات، فيبقى وميضها مقصداً للأدباء والكتّاب، تجذبهم نداهتها وتستحوذ عليهم في سراديب السرد. هكذا هي ثورة يناير المصرية، التي (فضلاً عن كونها حدثاً لم يتكرر كثيراً في تاريخ الدولة المصرية) لا يزال الغموض يكتنف حقبةً تلتها، يستعيد أحداثها الكاتب صبحي موسى، في روايته "نادي المحبين" (دار سما).
انطلق الكاتب من عنوان مراوغ "نادي المحبين"، يشي بصبغة رومانسية تهيمن على الأحداث. وواصل المراوغة عبر استهلاله للنص، بأحد أشهر أبيات الصوفي ابن الفارض، الملقب بسلطان العاشقين، "قلبي يحدثني بأنك متلفي/ روحي فِداك عَرفتَ أم لم تعرفِ"، ليؤكد هذه الصبغة، لكن الأحداث ما لبثت أن نفتها، إذ تدفقت في اتجاه آخر، عبر صوت من السرد الذاتي، مارسَ خلاله الراوي ما يشبه الاعترافات، متيحاً للكاتب الكشف عن واقعٍ اجتماعي وسياسي قبيح، وشخوص مزدوجة ومتلونة، تتعايش بمهارة في كل الظروف، وتأكل بشهية على كل الموائد.
قسم الكاتب بناءه إلى قسمين، اختزل في عنوانيهما فكرة اختطاف جماعة الإخوان المسلمين للثورة، وصعودها إلى السلطة "الفقد"، ثم إزاحتها من المشهد السياسي "الاستعادة"، منطلقاً في رحلة سردية مشوقة، قرر عبرها اختراق التابوهات، فمنح شخصيته المحورية "المبهَمة" صفة المثلية الجنسية. وعلى غير المتبع في أغلب النصوص الأدبية التي يخترق مبدعوها التابوه نفسه، لم ينزع موسى إلى إدانة شخصيته أو شيطنتها. وإنما أبدى تعاطفاً معها، منحازاً لفكرة أن الأجساد ملكية خالصة لأصحابها. أو أنها على أقل تقدير، ضحية تستحق الدعم في مواجهة أمراضها. واتسق تجهيله للراوي، مع ما مرَّره عبر هذه الشخصية من صور كثيرة للازدواجية والتدني والانحطاط، فكان اسمها الغائب مؤشراً على نفي الكاتب عنها صفة الإسقاط، والتأكيد على مساحة التخييل داخل النص، وتمرير رؤى أكثر شمولية حول ظواهر اجتماعية من الازدواجية والميكافيلية والتلون.
شخوص متحولة
كانت شخوص الكاتب في أغلبها شخوصاً متحولة، تنتهي عادة إلى نقيض بدايتها. فـ "نادر عزمي" الكاتب والمثقف الحر المنفتح، يتحول إلى شخص يعتنق أفكاراً ظلامية. و"إنعام" المخلصة حد كونها اليد اليمنى للراوي، تخونه وتتآمر عليه، وتقف في صف أعدائه. أما الراوي فكان أكثر الشخوص تحولاً. فهو في أول رحلة السرد، رجل متلون، يُعلي مصلحته الشخصية، فوق المبدأ والقيمة، لكنه انتهي إلى شخص مناضل، تهون حياته في مقابل انتزاع الحق، وهزيمة قوى الشر. وخلال هذا التحول، الذي استغرق زمن النص كاملاً، شهدت الشخصية نفسها، عديداً من التحولات البينية، التي تحددت وجهتها وفق المصلحة الخاصة للراوي، ما جعل منه لاعباً على كل الحبال. ينحاز لطرف وينقلب عليه. ولا ينفك ينحاز وينقلب، حتى تحين لحظة الكشف، التي يعلو خلالها على نوازعه الرديئة. ويعبر إلى الوجهة الأخرى من نفسه، التي تناقض نفسه الأولى، وتسمو عليها.
المتن والحاشية
هيمن الصراع السياسي ومحاولات تيار الإسلام السياسي (الذي كانت تقوده في مصر جماعة الإخوان المسلمين) للاستيلاء على السلطة، على واجهة السرد. وأبرز موسى كل ما اتصل بهذا الصراع من تفاصيل ووقائع، مثل دور التنظيم العالمي للإخوان في دعم الجماعة في مصر، لا سيما بعد ثورة يناير 2011، ومساندة إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لهم، كوسيلة لتحقيق شرق أوسط جديد، باستخدام ما أُطلق عليه "الفوضى الخلاقة". والموقف التركي، ومحاولات تدخل أطراف غربية وعربية في الشأن المصري، خلال تلك الحقبة. أما في الخلفية فقد أبرز عديداً من القضايا الأخرى، بعضها له طابع محلي كعلاقة المثقف بالدولة، واستشراء الفساد، وتراجع الصناعة وانهيار الحِرَف، واعتياد التفاوت الطبقي والاجتماعي حد إعادة إنتاجه، ما جعل المجتمع يفرز كلمة "دكتور" بديلاً عن كلمة "باشا"، على سبيل إعلاء الشأن، كدلالة على شعور عميق لدى فئات بعينها من المجتمع بالدونية، خلق طوعاً شريحة من النرجسيين، تمعن في ترسيخ تلك الدونية وذلك التفاوت في صوره الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. كما تطرق الكاتب لقضايا ذات طابع دولي مثل علاقة الأنا بالآخر، وقدرة وسائل الإعلام، على تشكيل وتحريك الرأي العام العالمي.
ثنائية الزمن
مزج الكاتب بين أسلوبي السرد الأفقي الذي يمضي بالأحداث في تسلسل زمني طبيعي ومنطقي، والفلاش باك، عبر تقنيات الاسترجاع والتذكر، مانحاً الحاضر والماضي الحضور نفسه، والسطوة نفسها، دون أن ينال مزجهما من انسيابية السرد. وعمد كذلك إلى تسريع الإيقاع بما يتناسب مع سرعة مرور الزمن وتلاحق الأحداث، لذا قلل من الاسترحات الوصفية والومضات الحوارية، في حين أبرز "المونولوغ" الداخلي، واعتمد على الحلم في كشف العوالم الداخلية للراوي، دافعاً (عبر لغة مشهدية دالة) بما في قاع النفس إلى السطح، وجعله في متناول العين... "حين خرجا من باب المكتب، أخذتُ أضرب وجهي بقبضة يدي، فلا يمكن أن يكون الجميع أعدائي وأصدقائي في الوقت نفسه، كيف يمكنني أن أفصل بين الأبيض والأسود في تلك اللعبة الحقيرة؟ لعنتُ الجميع في نفسي ودرتُ أنظر في الجدران باحثاً عن أجهزة التصنت المزروعة في المكان" صـ 219.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عبر وصف طبقات الشعور، والولوج إلى العوالم الداخلية للشخوص، استطاع الكاتب أن يهبها أنفاساً وحياة، وعلاقات تفاعلية مع القارئ، تعزز تماهيه مع النص. لا سيما شخصيته المحورية "الراوي"، فتارة يدفعه إلى التصرف على نحو يثير الصدمة والنقمة والصراع. وتارة يجعله مثار إعجاب، عبر منحه القدرة على إنهاء المعارك لصالحه، مثل حال أبطال الملاحم. وتارة يكشف عن ألمه وعذاباته الخاصة. وتارة يعري نوازعه البشرية الدنيئة، فيستحث القارئ على التعاطف معه. وعبر كل تلك الصور نجح موسى في تعميق حالة التماهي مع النص واستلاب القارئ إلى عوالمه.
بين الواقعية والتخييل
على الرغم من اقتناص الكاتب لحظة تاريخية محددة، تدور في فضاء زمني، يبدأ بنهاية نظام سياسي، أزاحته ثورة يناير، ويستمر حتى وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم، ثم انتهاء حكمهم. وعلى الرغم مما استقاه من أحداث ثابتة وقعت بالفعل، فإنه مارسَ لعبة التخييل في تشكيله للشخوص، وفي رسم الأماكن، وفي نسج بعض الأحداث. وأغفل في المقابل أحداثاً وقعت، ليعلن انحيازاً ضمنياً لفنية العمل الأدبي حين تسبق التأريخ. وأضفى على نسيجه مزيداً من القوة والجمالية، عبر تقنيات السرد المختلفة، مثل التناص المباشر وغير المباشر مع الموروث الديني، النص القرآني، والشعر الصوفي والمأثور الإنساني. واستدعاء هذا الموروث أحياناً ضمناً، فحوار الراوي مع "ناجي" القيادي الإخواني الذي كان يرغب في استبعاد محمد مرسي من المعادلة الانتخابية، يحيل إلى "خطبة أنطونيو"، إذ حاول الراوي أن يتخذ موقف أنطونيو نفسه، حين عقّب بعد كل انتقاد لبروتس، بأنه رجل طيب. إذ أراد أن يأتي بمثل فعله من أجل استبعاد مرسي... "يمكننا أن نلعب دورين في دور واحد، حيث نؤكد عجزه ونحن نمتدحه" صـ 276.
كذلك مرر صاحب رواية "أساطير رجل الثلاثاء" التي تقدم سيرة متخيلة لأسامة بن لادن، بعض الحمولات المعرفية عبر السرد، في "نادي المحبين"، حول شخوص تركت بصماتها في التاريخ، مثل طارق بن زياد. وأيضاً حول قضايا كبرى، كصناعة الإرهاب العالمي. وإشكالية الأنا والآخر. إضافة إلى عديد من الرسائل والرؤى الفلسفية، حول قبول النقص البشري، والثورة على مفهوم الشرف، الذي لا يتجاوز في بلادنا حدود الجسد. وضرورة منح الفرص، التي تستوجبها ديمومة الحياة، والفطرة الإنسانية المجبولة على الخطأ.