استعاد المنشد الصوفي اللبناني الشيخ أحمد حويلي حفلاته الإنشادية، وقدم أمسية بعنوان "طريق العشق" على خشبة مسرح "دوار الشمس" في بيروت، بعد انقطاع دام عامين جراء تفشي وباء كورونا، بالإضافة إلى الظروف السياسية والاقتصادية المتردية التي يمر بها لبنان.
قدّم حويلي هذه الأمسية مع فرقته ودرويشين من دراويش التصوف لمساعدة مرضى السرطان العاجزين عن شراء أدويتهم بسبب ظروف خارجة عن قدرتهم وطاقتهم، في محاولة منه للتمثل بأستاذه شمس الدين التبريزي (582 - 645)، المعلم الروحي لجلال الدين الرومي من بين الكثير غيره من المتصوفين.
المتصوف بين العزلة والمجتمع
في مقابلة أجريناها معه قبيل أمسيته تحدث حويلي عن علاقته بأهل التصوف وبسر تفضيله التبريزي الذي يسميه أستاذه، قائلاً، "أنا مُتبنٍ في تدريسي وحياتي طريقة شمس الدين التبريزي الذي أرى فيه نقلة هائلة في طرق التصوف، فهو لم يجعل حركة التصوف حركة تنسك وزهد وبعد عن المجتمع، بل أرادها انغماساً في وجع الناس ومرآة لمآسيهم وزلاتهم. جعل التبريزي الاحتكاك بالآخر والبقاء إلى جانبه من أسس التصوف، فالتعامل مع الآخر يساعد المتصوف على معرفة نفسه واكتشافها". ويضيف حويلي قائلاً: "يميل المتصوف إلى الخلوات والانقطاع عن المحيطين به ليتفرغ لذاته، ولهو من السهل الانعزال عن الناس والانهماك بالذات، إنما مجاهدة النفس داخل المجتمع أقسى وأصعب منها في الخلوة. إن وضع البلد اليوم صعب جداً، لقد قمت بعرض أول منذ شهر تقريباً بعد نحو سنتين من الانقطاع، وكان إقبال الناس جميلاً ومشجعاً وغير متوقع، فقررت أن أقدم هذه الأمسية مع فرقتي لمرضى السرطان العاجزين عن الحصول على أدوية لعلاجهم. سيكون المال بكامله مخصصاً لتأمين أدوية وعلاجات لمرضى السرطان، من خارج لبنان، فهؤلاء المرضى أهلنا وناسنا وهم يشعرون بوطأة الظروف القاسية التي نمر بها اليوم أكثر من غيرهم على الأرجح، وهذا أقل ما يمكنني أن أقدمه لهم ولوطني".
قدّم حويلي في أمسيته نحو اثنتي عشرة أنشودة وقصيدة في ساعة ونيف من العشق والانعتاق والدفء. فبين ابن عربي وابن الفارض وجلال الدين الرومي، بين رابعة والحلاج وحافظ الشيرازي، قصائد ودرويشان وحالة عشق وذكر بالقلب والصوت والموسيقى.
وكان لنا كذلك حديث مع أويس مزرزع الراقص المولوي الدرويش الذي كان أحد الراقصين اللذين رافقا أحمد حويلي في أمسيته. يفسر مزرزع رقص الدراويش بقوله إنه رقص صوفي قديم يعود للمؤسس الأول جلال الدين الرومي، ويسمى رقص التسابيح، فهو يعكس حركة الكون الذي يدور حول نفسه. ويضيف مزرزع، "نشأت في عائلة صوفية، فوالدي مؤسس فرقة مدائح صوفية، وكان جو الأناشيد ومشايخ الصوفيين مسيطراً على البيئة والبيت اللذين تربيت فيهما منذ صغري. ووجدت نفسي أحب قراءة الشعر الصوفي وأميل إلى كتابته بالفطرة. إن الرقص الصوفي لا يمثل شيئاً واحداً بعينه، هذا الرقص هو مرآة الحب والعشق، العالم بأسره يدور على نفسه، الكواكب والنجوم، الأطفال أنفسهم بحركتهم العفوية يدورون حول أنفسهم في لعبهم. إن الرقص هو حالة تسمى بلغة التصوف "حالة جذب"، وخلال الرقص هناك ذكر وتفكر فهو رقص تسابيح وتفكير بالقدير والعالم والحب والسلام. كل ثوب وكل لون وكل حركة لها معنى ولها صدى في الروح".
التصوف في عالمنا اليوم
قصة أحمد حويلي مع التصوف لم تكن سهلة، شأنه في ذلك شأن قدامى المتصوفين. انتقل حويلي من الأناشيد الدينية إلى الأناشيد الصوفية وشكلت قفزته هذه مفاجأة عظيمة لمحبيه وللذين كانوا يحضرون المجالس الدينية التي كان ينشد فيها، وقد عانى حويلي من هذه المسألة لسنوات.
وفي وصفه حال أهل التصوف في عالمنا العربي اليوم يقول أحمد حويلي، "ما زال التصوف وأهله يعانون الاضطهاد والرفض في مناطقنا، وهذه هي الأسباب التي جعلتني أبتعد عن لبنان. أنا في حاجة إلى سلام لأؤدي رسالتي، ولم أعد أملك هذه الرفاهية للأسف، لقد استنزفت المشاحنات والنقاشات مع الرافضين للصوفية، الكثير من طاقتي وألهتني عن الجوهر فاخترت الابتعاد. لبنان للأسف لا يعرف الكثير عن التصوف، حتى تاريخياً لم يصل إلينا الشيء الكثير منه، وهنا تكمن المشكلة. لا يتقبل المجتمع اللبناني التصوف بسهولة، وأكثر بعد، هو يجهله في الأساس ويحكم عليه بقسوة ولا يرى منه سوى كتاب "قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاك وملابس الدراويش. نحن اليوم نعاني الهبوط والانحطاط على المستوى الثقافي والفكري، ويعاني التصوف تبعات هذا الأمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عن حاجة مجتمعنا إلى التصوف فيقول حويلي، "كل شيء في الوجود يقدم صورة عن الذات الإلهية الكبرى. الله حاضر في كل مكان وفي كل كائن وكل شيء. الحب وإن اختلفت طرقه، واحد، ولله طرائق بعدد أنفاس الخلائق. إن التصوف هوية عشقية متعلقة بسلوك فردي وتجربة شخصية بعيداً عن الإسقاطات. العشق هوية وكل امرئ يجد طريقه في قلبه. لقد بات مجتمعنا اليوم مادياً في مختلف تفاصيله، وأراه يفتش عن أي أمر يرفعه من السقوط الذي هو فيه، ومن هنا انجذاب كثيرين إلى التصوف والعلوم الباطنية والمعرفية، فهي تجذب، ولكنها تخيف في الوقت نفسه".
ويقدم حويلي إلى جانب فرقته، وعلى رأسها محمد نحاس على القانون، وخليل البابا على الكمان، بجو من الدفء والحزن والهيام، قصائد من روائع الشعر الصوفي كقصيدة "أخفي الهوى ومدامعي تُبديه" لابن الفارض التي يفتتح فيها حويلي الأمسية وقصيدة "ألا يا أيها الساقي" لحافظ الشيرازي التي يختار أن ينهي بها. وبين ابن الفارض والشيرازي عشق وجوى وصبابة وذكر ومخاطبة لمشاعر الحب والسلام وتقبل الآخر، فكما يقول الدرويش أويس مزرزع، "التصوف حالة موجودة في كل إنسان، هو حب، هو بحث عن شيء ضائع. كل إنسان متصوف بدرجات، كل إنسان عاشق".