Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل الإنسان حر؟ (الجزء 13)

القيمة يجب ألا تقتصر على الحياة الدنيا بل تمتد إلى ما بعدها وإلا تساوى الصالح والطالح بالموت

جان بول سارتر (أ ف ب)

تناولنا في الحلقة الماضية رأي أندريه كونت سبونفيل في مشكلة الحرية، إذ يراها لغزاً وغاية ومثالاً، ونعجز عن كشف سرها كلياً. ولكن، مهما عجزنا من بلوغ الغاية بالكامل، فإن هذا لا يمنعنا من المضي نحو كشف الحرية، وأن نتعلم كيف نتحرر. فربما هذه الحرية ليست إلا اسماً ثانياً للحرية. ومع أن سبونفيل يدنو من عدمية جان بول سارتر، لكنه يؤكد أن "حرية الفكر هي حرية العقل".

الحرية كما نفهمها

من النصوص المتشعبة والمتنوعة التي عرضناها في مشكلة الحرية من فلاسفة اليونان إلى الفلسفة الإسلامية والعصر الحديث وصولاً إلى زمننا الراهن، نود في هذا الموضوع أن ندلو بدلونا أيضاً. فالإنسان باستطاعته أن يدرك قيمة وجوده من خلال الحرية، التي يختار بها ما يشاء أن يتخذ من فعل أو قرار ذاتي إرادي دونما أن يكون عليه من رقيب إلا نفسه، ولا دافع خارجياً يجبره على فعل ما يشاء ويختار غير نفسه. وبذلك تكون له هذه الحرية حافزاً ضرورياً لكي تجعله مسؤولاً عما يختار ويفعل. وأن نتيجة عمله تقع عليه وحده، سلباً أو إيجاباً. وهنا، تتجلى عدالة الله الخالق تجاه مخلوقه الذي وهبه هذه الحرية.

وبما أن الروح قوة محضة تجسدت بعد الخلق عقلاً في الإنسان، فإن هذه الحرية ضرورية لقيمة ذلك الخلق. وهذه القيمة تتعلق بذات الإنسان فحسب. وذلك من ناحية سبب خلقه في هذا العالم الطبيعي والوجود الكوني. إذ من خلال التفكير العقلي يدرك الإنسان حريته الفكرية والإرادية والفعلية، التي يستقل بها عن سائر الكائنات الأخرى. وهي حقيقة وجود الإنسان. فقد خلقه الله لكي يفكر في نفسه وفي ما يحيط به من أشياء وظواهر طبيعية وكونية. وبمجرد أن يفكر الإنسان فإنه يمارس الحرية من حيث وجوده الحقيقي. وهكذا، تكون الحرية ضرورية الوجود، لكي يشعر الإنسان ويعي بأنه كائن حر، ويدرك قيمته الحقيقية في هذا الوجود، والسبب من وجوده في هذا الخلق الإلهي.

كذلك، يجب علينا أن نعلم أن الحرية التي منحها الله إلى الإنسان لا تعني أن الله يكون منفصلاً عن فعله، بل إن الله هو الخالق. لذا، فإنه يعلم مسبقاً ما يختار ويفعل الإنسان بالحرية التي خصه بها. إلا أن الله أعطى الإنسان هذه الحرية ليتخذ قراره الفردي بخالص إرادته في ما يختار ويفعل. إذ تنعكس النتيجة عليه وحده بالخير أو الشر. وهذا هو منتهى عدل الله في الحساب بالثواب أو العقاب.

ورُب سائل يقول: إذا كان الله يعلم مسبقاً أفعال الإنسان، فلماذا يحاسبه؟ وما فائدة الحرية وجدواها؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الواقع، لو تكون حرية الإنسان إحدى متطلبات وجوده الذاتي من دون محاسب له، فهنا معنى الحرية سيقتصر على الإنسان باعتباره ذروة التطور للمادة. وبذلك تكون الحرية خاضعة له من دون أن تكون هناك قوة موجودة في الخارج. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه يتوجب علينا أن ندرك بشكل تلقائي جميع المفاهيم ومنها مفهوم الحرية، كونها نتاجات المادة ذاتها. فالحرية فعل محض نقوم به بخالص إرادتنا. والإرادة هي أيضاً فعل داخلي محض يتعلق بالوعي والشعور والنفس. لذلك، كيف تكون الحرية نتاج تطور مادي، والمادة جامدة لا واعية ولا مدركة؟ وعليه، فإن الحرية هي فعل بين الأفعال المحضة توجد فينا عبر قوة توجد في الخارج. والدليل في الاختلافات والتفاوتات ما بين الأفكار والتصورات، التي هي تعبيرات عن الحرية ذاتها. وإلا لكان كل شيء فينا موجوداً بشكل متساوٍ بين الجميع قاطبة، لأننا نتاج مراحل تطور المادة. وهذا هراء بحق العقل وافتراء على قدرة الله المطلقة.

من هنا، يجب أن تكون للإنسان مزايا خاصة ينفرد بها عن سائر المخلوقات الطبيعية، ومنها ميزة الحرية التي تتمثل في وجوده باعتباره كائناً حراً، إذا أخلَّ أخطأ، وإذا أصاب أحسن، وما بين هذين الفعلين المتنافرين في قدرة الإنسان العملية على العمل وضده، فإن الله على علم مسبق بما يفعل الإنسان. إلا أنه تعالى منحه حرية الفعل والاختيار ليتحمل مسؤولية نفسه.

إن الحرية هي مسؤولية أخلاقية أيضاً، تجاه الآخرين والقانون والدولة. وبما أن الأخلاقي يُكافأ على حسن تصرفه، وأن اللاأخلاقي يُحاسب على سوء سلوكه، فإن قيمة الحرية يجب ألا تقتصر على هذه الحياة الدنيا، بل تمتد إلى ما بعدها، وإلا تساوى الصالح والطالح بالموت، ويكون الشرير الذي تنعّم بالملذات المادية أفضل من الخيّر الذي تحمل التقشف وشظف العيش. وعليه، فإن ثمن الحرية وممارستها في الدنيا يشمل تقييمها في الآخرة أيضاً. وهذا جانب من جوانب العدل الإلهي.

وعندما نقول إن الله وهب الإنسان الحرية وبموجبها يحاسبه ثواباً أو عقاباً، وهذا هو منتهى عدل الله، فإن الله تعالى لا يتدخل في حرية الإنسان إلا إذا شاء، ويكون تدخله لمصلحة الإنسان، لأنه يعلم النية قبل الفعل. فهو الخالق المُطلع على الظاهر والباطن. وهذا التدخل الإلهي لا ينفي تصرف الإنسان وفق الحرية التي منحها له الله، فهي كذلك جزء من عدالته الإلهية.

ومن خلال هذه الخطوط العريضة، نفهم الحرية بشكل مبسط من غير الحاجة إلى الغوص في تفاصيل تقودنا إلى تفاصيل أخرى، ويزداد التعقيد النظري أكثر فأكثر في مشكلة الحرية. وثمة مَن لا يتفق مع ما نطرحه، ويهدف إلى تبيان الحرية بطريقة يراها أصح وأدق. وبهذا كلٌ يمارس الحرية بحسب الفعل الذي يختاره. وهذه الفردية في الحرية إنما هي توكيد على أن الإنسان كائن حر.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء