Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قيود كورونا تثير الضجيج على شاشات العالم الرقمي

المبالغة في استخدام التواصل الاجتماعي من دون تمكين للقيم ملأ تفاصيل الحياة الواقعية بالخوف والقلق

وسائل التواصل الاجتماعي تلقي بأعباء نفسية ثقيلة على مدمني الإنترنت  (أ ف ب)

الجرعة المصغرة الأولى صباحاً وقبل الإفطار وقهوة أو شاي الصباح، "لا حول ولا قوة إلا بالله. رحل عن عالمنا اليوم فلان. ادعوا له بالمغفرة"، "صورتي أثناء حفل زفاف ابن ابنة خالتي"، "أرجو ممن لا يرى سوى تدويناتي المبهجة وصورى المشرقة ألا يعتقد أن حياتي كلها متعة وسعادة. وها هي صورة قدمي في الجبس بعدما وقعت وكسرت كاحلي"، "أفغانستان ستجر منطقتنا كلها إلى الخراب والدمار والاحتراق"، "أحلى وصفة دجاج برياني من مطبخي"، "كلبي الغولدن رتريفر عضه كلب ضال في الشارع اليوم، ماذا أفعل؟"، "جمعة مباركة على كل الأصدقاء. أستحلفكم بالله اقرأوا هذا الدعاء 10 مرات وأرسلوه لـ 10 من أصدقائكم، لا تجعلوه يتوقف عندكم"، "أبي في ذمة الله، فقدت السند والظهر والقلب الحنون"، "رزقت اليوم بابنتي حسناء وهي الثانية بعد شيماء وأسماء"، "تربية الكلاب محرمة. إياكم والاقتراب من هذه الكائنات النجسة"، "لبنان يسير نحو الهاوية والعراق لم يعد دولة وسوريا لن تقم لها قائمة والمنطقة كلها إلى فناء"، "صباح الخير على عيون الأصدقاء. قبلة كبيرة ووردة حمراء وفنجان قهوة مني لكم. يومكم مسك وعنبر وفل وزنبق".

ملايين التوليفات

التوليفة السابقة واحدة ضمن ملايين التوليفات التي تطالع الملايين من رواح وسكان منصات التواصل الاجتماعي التي يتجرعها الجميع كل صباح. والمثير أنها تتجدد وتتطور كل دقيقة، فتصبح قادرة على "لصق" المتابع على شاشته ساعات وساعات لا يدرك هو نفسه حجمها إلا لو كان يتلقى الإشعار المرعب عبر هاتفه الذي يخبره أنه أمضى اليوم 10 أو 12 أو 15 ساعة ملتصقاً بالشاشة.

يقولون إنها تطبيقات تساعد المستخدم في علاج نفسه من إدمان الهاتف الذكي، لكنها في حقيقة الأمر تخبره بخيبته القوية وإرادته البلاستيكية، والأهم من ذلك تواجهه بحاضره ومستقبله المحتجزين، وصارا رهينتا الشبكة العنكبوتية لحين إشعار آخر لا يبدو أنه قريب.

موقع "ستاتيستا" المتخصص في أبحاث السوق والمستهلكين حول العالم يشير إلى أن كل منصات التواصل الاجتماعي شهدت ولا تزال انتعاشاً كبيراً في ظل الوقت المتزايد الذي تمضيه مليارات البشر في بيوتها بسبب وباء "كوفيد-19"، الأرقام تشير إلى زيادة كبيرة في أعداد المستخدمين وكذلك كثافة الاستخدام على كل المنصات في عام 2021 مقارنة بعام 2019.

المنصة التي شهدت فورة في أعداد مستخدميها ومتابعيها هي "تيك توك" التي شهدت زيادة بنسبة 38 في المئة، وجاءت "بينترست" في المكانة الثانية، وبعها "رديت"، لكن هذا لا يعني أن المنصات الكلاسيكية مثل "فيسبوك" و"تويتر" خارج الفورة بل في القلب منها، إذ شهدت زيادات كبيرة على مدى الـ21 شهراً من عمر الوباء.

وقت أطول

عربياً، الوضع لا يختلف كثيراً بل ربما يزيد، فبحسب دراسة عنوانها "كيف يستخدم الشرق الأوسط السوشيال ميديا" (2021) الصادرة عن "أكاديمية الإعلام الجديد" في الإمارات، "فإن أكثر من نصف مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط قالوا إنهم يمضون وقتاً أطول على هذه المنصات منذ بداية الوباء. نحو 75 في المئة قالوا إن استخدامهم لمنصات مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" و"تيك توك" زادت بشكل كبير منذ ظهور منظومة التباعد الاجتماعي، وهذه النسبة تفوق المتوسط العالمي المقدر بنحو 52 في المئة، الأدهى من ذلك أن المستخدم الواحد لهذه المنصات في المنطقة لديه في المتوسط نحو 8.9 حساب.

هذا الكم من الضخ الذي يدور على مدى الدقيقة بفضل أو بفعل أو بذنب الوباء وقيوده الجديدة يشير إلى تغيرات جذرية في حياة البشر على ظهر الكرة الأرضية.

التغيير الجذري كالعادة من نصيب الشباب والصغار، وهذه الفئات الأصغر سناً والأوسع حلماً والأكبر طموحاً والأكثر حركة والأعتى استعداداً لخوض مضمار الحياة والبحث عن التحديات والمغامرات في بلاد الله، أرض الله الواسعة تجد نفسها هذه الآونة "محلك سر".

"محلك سر" عبارة أوجدت لها كورونا معنى ثالثاً غير التحرك في المكان كنوع من الإحماء في التدريبات الرياضية أو كناية عن عدم تحقيق تقدم حقيقي، وباتت "محلك سر" عبارة تعكس موقف ملايين الشباب حيث التصاق بالشاشات منه ما يهدر الساعات والأيام، ومنه ما يحاول إيجاد فائدة من انقلاب أوضاع العالم رأساً على عقب وإغلاق حدود السفر والتتقل والحركة الفعلية أو تقييدها، وفتح حدود التحليق الافتراضي.

التحليق الافتراضي

التحليق الافتراضي فيه الكثير. تقول فيروز مهند (19 عاماً) ضاحكة إنها عرفت أغنية "اثبت مكانك" التي ذاعت وقت أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 باعتبارها أغنية شبابية ثورية تحث على الإصرار والمطالبة بالحقوق ومقاومة القهر والظلم، وتضيف أن "الحال الآن أصبحت "اكبر مكانك". تشير مهند إلى مبادرة أطلقتها منظمة يونيسف بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة في مصر لتدريب المراهقين والشباب على اكتساب مهارات جديدة من شأنها أن تمكنهم مالياً واجتماعياً، وتطوير حياتهم المهنية أثناء البقاء في البيت لفترات طويلة.

المبادرة افتراضية من ألفها إلى يائها، وتتضمن أنشطة ومقاطع فيديو تفاعلية عن 20 موضوعاً ومجالاً مختلفة تساعدهم في اكتساب مهارات بينما هم مثبتون أماكنهم أمام الشاشات، لكن الثابتين أماكنهم أمام الشاشات يتزايدون بمرور الأيام، وتزيد الساعات التي يمضونها ومن ثم المنتج أي المحتوى الذي تحفل به عشرات المنصات. هذا المحتوى يغير من دون أدنى مبالغة قواعد المعيشة ومعايير اتخاذ القرارات وتحديد الأولويات ورسم ملامح المستقبل بعدما ألقى بكل ثقله على معالم الحاضر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

معالم الحاضر

معالم الحاضر تقول إن التطورات التكنولوجية، لا سيما الرقمية، وفي القلب منها منصات التواصل الاجتماعي، أكدت خلال ما يزيد على عام ونصف العام من عمر الوباء أنها أداة لتقديم المعلومات القيّمة وإبقاء البشر على تواصل في زمن عزّ فيه التواصل الفعلي، إلا أن هذه الأدوات ذاتها تحولت أيضاً إلى وباء معلوماتي مستمر ألقى بظلال وخيمة على قدرة العالم على التعامل مع الوباء الفيروسي، إضافة إلى إسهامات غير قليلة في نشر الوباء عبر تصرفات البعض الخاطئة على متن هذه المنصات.

الدراسة التي أجرتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع عدد من الجهات البحثية تحت عنوات "التواصل الاجتماعي وكوفيد-19: دراسة عالمية حول تفاعل الأزمة الرقمية بين أبناء جيل زد وجيل الألفية" (2021) أشارت إلى أنه على الرغم من أن الشباب ما زالوا الفئات الأقل عرضة للإصابة بالفيروس وتحوراته، إلا أن النشاط الكبير والوقت الطويل لهما على منصات التواصل الاجتماعي عامل رئيس في تقليص انتشار الوباء أو المساعدة في مزيد من الانتشار، لا سيما أن متوسط عدد المنصات التي يستخدمها وينشط عليها الشاب الواحد هي خمسة وأبرزها على رأسها "تويتر" و"تيك توك" و"وي تشات" و"إنستغرام".

معلومات قيمة ولامبالاة

الدراسة التي خضع لها شباب من الجنسين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 عاماً في 24 دولة بشتى مناطق العالم أثبتت أن المعلومات ذات الطابع العلمي تلقى رواجاً بينهم على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أن الدراسة أثبتت درجة كبيرة من الوعي لديهم بحجم وأضرار الأخبار الكاذبة والمفبركة المتداولة على الـ "سوشيال ميديا" إلا أن لديهم في الوقت نفسه درجة كبيرة من اللامبالاة في شأن الفيروس والوباء والإصابة.

وتشير الدراسة إلى أن قوائم أولويات هذه الفئة العمرية تختلف كثيراً عن قوائم الأكبر سناً وقوائم الطواقم الطبية والعاملين والمهتمين بالشأن الصحي، وعلى الرغم من أن 90 في المئة منهم أظهروا قلقاً بالغاً في شأن الفيروس واحتمالات الإصابة، إلا أن القلق لم يكن بسبب احتمال مرضهم بل احتمال مرض من يحبون من أهل وأصدقاء.

غارقون في الأثير

لكن واقع الحال يشير إلى الأهل والأصدقاء والشباب من كل الفئات والأعمار غارقون تماماً في الأثير العنكبوتي، وحتى مع عودة أغلب الدول العالم للحياة العادية بمقاييس زمن الوباء حيث فتح جزئي مع عودة أو استعداد لعودة لصفوف الدراسة وبعض أماكن العمل بغض النظر عن كم التحديات والأخطار، إلا أن درجات الالتصاق بالشاشات والانفصال عن العالم الخارجي والالتحام بواقع افتراضي يختلف حتى عن الواقع الافتراضي الذي كان سائداً قبل الوباء تزيد وتتضاعف.

ومع هذه الزيادة في العدد والكثافة، يزيد المحتوى ويزيد معه كمّ التضارب والتناقض والشد والجذب والإدلاء بآراء وإعادة تدوير نظريات باعتبارها معلومات ومبالغة في عرض تفاصيل الحياة الشخصية، وإفراط في اختلاق أكاذيب وانهيار حدود دنيا لما يصح وما لا ينبغي أن يكون.

"في الداخل"

وكونInside  أو "في الداخل"، وهو عنوان المسرحية الموسيقية للمثل والموسيقي والكاتب وصانع الأفلام الأميركي بو بيرنهام، البالغ من العمر 31 عاماً، تتصدر مشاهدات "نيتفليكس" لأيام عدة لا يأتي من فراغ، فالمسرحية التي لا يظهر فيها سوى بيرنهام تتناول بالسخرية اللاذعة ما جرى خلال عام ونصف العام من عمر الوباء وعمر الإنسان الذي بات يعيش على منصات التواصل الاجتماعي خلال هذه المدة. وعلى الرغم من أن بيرنهام نفسه بدأ مسيرته الفنية من على "يوتيوب" في عام 2006، حتى أنه حظي بنحو 475 مليون مشاهدة حتى سبتمبر (أيلول) الحالي، إلا أنه يتناول إغراق البشر في الحياة الافتراضية على منصات التواصل الاجتماعي بسخرية لاذعة ودعابة سوداء مخيفة، فالبطل لا يبرح بيته الصغير ذي الإضاءة الخافتة، ويظل يتنقل من ركن إلى آخر ومن مقعد إلى كنبة إلى المطبخ ومنه إلى الحمام، مدلياً برأيه في حدث ما أو مقلداً مجموعات من المؤثرين والمؤثرات أو سائلاً إن كان في الإمكان أن يلتزم الجميع الصمت التام والامتناع التام عن الإدلاء بالرأي في كل شيء وأي شيء على وجه البسيطة.

الـ "سوشيال ميديا" مواد مخدرة

البساطة المتناهية التي تمكن الملايين من طرح منتجهم من الهراء من دون مساءلة أو محاسبة أو حتى مهادنة، تحولت إلى الدب الذي قتل صاحبه.

الكم المذهل من الضخ اليومي للآراء والمواقف والمعارك والمحتوى المرئي والمسموع والمقروء والمرسوم على أثير العنكبوتي دفع الملايين إلى الوجود المكثف على الأثير لدرجة الإدمان، ولم تعد المسألة تقتصر على تحذير الإعلام الكلاسيكي بمغبة مشاهدة التلفزيون لأكثر من ساعاتين يومياً أو متابعة الأخبار لما يزيد على ثلاث ساعات، وإلا أصبح الشخص مدمن تلفزيون أو مواقع خبرية، أصبح إدمان منصات التواصل الاجتماعي في زمن الوباء والإغلاق والتخوف من الانتقالات غير الضرورة خارج الأسوار أمراً علمياً معترفاً به في العديد من مراكز علاج الإدمان.

ويشير موقع "مركز الإدمان" الأميركي إلى أن إدمان منصات التواصل الاجتماعي هو إدمان سلوكي يتسم بالاهتمام المبالغ فيه بالـ "سوشيال ميديا" تحركه رغبة عارمة غير خاضعة للسيطرة في فتح الشاشة والوصول إلى صفحة التواصل الاجتماعي، مع تخصيص وقت طويل ومجهود عارم لدرجة تؤثر سلباً في مناحي الحياة الأخرى، أما أعراض إدمان الـ "سوشيال ميديا" فهي لا تختلف كثيراً عن أعراض إدمان المواد المخدرة الأخرى، بل إن العلاج من إدمانها يمر بمرحلة "أعراض الانسحاب" المعروفة، وهو نوع من أنواع الإدمان الذي يغذيه الوباء وقيوده.

التواصل الاجتماعي يقتلنا

وإذا كانت صرخة الرئيس الأميركي جو بايدن في يوليو (تموز) الماضي بأن منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" "تقتل الناس" عمدت إلى جزئية المعلومات الخاطئة فيها، إلا أن إدمان المعلومات الخاطئة وتشاركها والإغراق، إضافة إلى إدمان الإفتاء في كل كبيرة وصغيرة تمنح هذه المنصات قوة قتل ثلاثية.

قوة الـ "سوشيال ميديا" المستمدة من تمكين الأفراد العاديين من وسائل المعرفة والاطلاع ومنصات التعبير بدأت تؤتي ثماراً عكسية ضاعف منها فرط الاستخدام بسبب قيود الوباء مع توسيع دائرة التمكين، وإتاحة أدوات القتل الثلاثي في أيدي الجميع.

الواقع الأليم

وحتى أشهر قليلة مضت، كان الجميع يتعامل مع شبكة الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل أكثر تحديداً باعتبارها طوق نجاة الألفية الثالثة من مشكلات البطالة وانعدام العدالة وتضاؤل الفرص وغيرها، وصارت المنصات الاجتماعية قبلة حياة في زمن الحياة الواقعية، لكن المبالغة في الاستخدام والتمكين من الأدوات من دون تمكين من القواعد والقيم، وظهور الوباء عوامل أدت إلى واقع أليم ألا وهو انضمام منصات التواصل الاجتماعي إلى قوائم مسببات القلق ومحركات الخوف في المستقبل القريب.

قلق وخوف

وما يثير القلق أكثر ويحرك الخوف بقدر أسرع هو أن التوقعات المستقبلية تتنبأ بمستقبل أكثر ازدهاراً لمنصات التواصل الاجتماعي، فالمتوقع هجرة مجالات بأكملها مثل عمليات البيع والشراء، وجوانب من التعليم المدرسي والجامعي، ومجالات عمل مختلفة لا تحتاج إلى الوجود الفعلي وتخصصات طبية، ناهيك عن استشارات المحامين والمهندسين، من أرض الواقع إلى أثير العنكبوت ومنصاته المخصصة للتواصل الاجتماعي، كما يتوقع أن يتضاعف استخدام سكان الأرض لهذه المنصات.

وبحسب موقع "الابتكار والأداء الأفضل" الخاص بكل ما هو عنكبوتي وابتكاري افتراضي، فإنه من المتوقع أيضاً اتساع رقعة الإتاحة، أي أن ملايين إضافية من البشر ستدخل بكل قوتها العوالم الافتراضية، لا سيما أن كل الابتكارات والأجهزة المتصلة بالشبكة العنكبوتية ستصبح محمولة أي يسهل التنقل بها من مكان إلى آخر، كما أن التطور السريع الحاصل في تقنيات التطبيقات واقتناء الأجهزة المتصلة بالإنترنت ستعمل على إلصاق مزيد من البشر بالشاشات، حتى الرسائل النصية القصيرة، فستختفي لتحل محلها تماماً تطبيقات التواصل المختلفة.

أما الطامة الكبرى فهي توسع المحتوى ونموه على سحب المحتوى، وسيتواكب هذا ويتزامن مع تحلل البشر تدريجياً من الارتباط النفسي بفكرة امتلاك المحتوى، وهو ما سيمثل إضافة كبرى لمبدأ مشاركة المحتوى، وهذا يعني تفاقم الفائدة من تشارك المعلومات والمناقشات المفيدة، لكنه سيفاقم معه محتوى الهراء لا سيما في زمن الوباء.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات