كشفت وفاة الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة، عن الأثر العميق الذي خلفته فترة حكمه في نفوس الجزائريين، إذ اختلطت المشاعر بين مَن رفضوا الترحم على روحه، ومن لم يروا في خبر رحيله حدثاً، وأولئك الذين عبروا عن تعاطف محتشم من باب تذكر محاسن الموتى، وترك الخلق للخالق، كونه من يملك حق المحاسبة.
وأقيمت، الأحد 19 سبتمبر (أيلول)، جنازة رسمية للرئيس الجزائري السابق، حضرها مسؤولون كبار، لكن لم تحظَ باهتمام يذكر مثلما كان يحدث في مناسبات مماثلة.
وسحبت عربة مدرعة مغطاة بالورد نعشه الملفوف بالعلم الوطني من منزله في زرالدة، غرب العاصمة، إلى مقبرة العالية في الجزائر العاصمة، حيث دُفن خمسة من أسلافه.
قبل اندلاع حراك 22 فبراير (شباط) 2019، الذي أزاحه من الحكم، لم يكن أحد يتوقع أن يرحل بوتفليقة من دون ضجيج، وبشكل باهت، بل ظلت التوقعات تقول إنه سيحظى بجنازة تاريخية، كما حلم بذلك دوماً، يحضرها رؤساء دول غربية وعربية، وتصطف الحشود بالملايين لوداعه.
لكن الواقع أن موته صاحبه خلو ظاهر من مشاعر التعاطف الشعبي والرسمي، وكأن الأمر لا يتعلق بالرجل نفسه الذي استبشر الجزائريون باسمه، وعلقوا آمالاً كبيرة عند توليه مقاليد الحكم بإخراج البلاد من نفقها المظلم، هو المتغلغل في زواريب الحكم منذ شبابه، والعارف بخباياه.
طموح شاب وإغراءات السلطة
الآراء حيال بوتفليقة منقسمة، إذ يقول عمار، أستاذ تعليم ابتدائي، "تاريخ عبدالعزيز يتقاطع كثيراً مع الرئيس المصري أنور السادات، ولو أن نهاية الاثنين تبقى مختلفة، فأغلبية الشعب استبشر بقدوم بوتفليقة في الفترة العصيبة التي كانت تمر بها الجزائر، فأحب المواطن ذلك الرئيس المفعم بالحيوية والفصيح اللسان المدافع عن القضايا الدولية العادلة، لكن كثيرين مُحيت من ذاكرتهم تلك الصورة بعد أن شعروا بأن الأمور بدأت تنحدر للأسوأ بعد لجوء الرئيس لفتح العهدات سنة 2008، ورغبته في الترشح لعهدة رابعة وخامسة".
وعلى الرغم من مساوئ فترة حكمه، والأخطاء المثيرة التي ارتكبت خلالها، فإن للرجل حسنات، وفق السيدة حياة بلهادي، التي ترى أنه كان "خطيباً جيداً يعرف كيف يستميل شعبه ويقنعه، وهذه ميزة مهمة".
وتضيف، "في زمن بوتفليقة، كان للجزائر سُمعة دولية لا بأس بها، وأتحدث خصوصاً عن العهدتين الأولى والثانية، فحنكته السياسية وخبرته الطويلة جعلتاه واجهة مشرفة للبلد الذي ارتبط اسمه بالإرهاب قبل توليه سدة الحكم".
ولا ترى حياة مانعاً في الترحم عليه، قائلةً إنه "ليس من الإنسانية أن ننهش لحم جثة".
الشعبوية كآلية للحكم
بالعودة إلى الأرشيف المصور، نلحظ أن بوتفليقة انتهج في عهدته الأولى الشعبوية كآلية للحكم، إذ كان الظرف حينها يتطلب رفعاً لمعنويات الشعب المثقل بالهموم، وهو ما جعله يستخدم عبارات وكلمات تستعطف الجزائريين المنهكين من أتون حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، وخلفت 200 ألف قتيل، أفقدتهم ابتسامتهم وجعلتهم يشتاقون إلى الأمن والاستقرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خرجات الرئيس السابع للجزائر حظيت باستقبال حار من طرف جموع غفيرة كانت تنتظره بالساعات لإلقاء التحية عليه والهتاف: "تحيا الريس"، و"رانا معاك"، أي نحن معك، وهي الأقوال التي كان بوتفليقة يقابلها بابتسامة عريضة. هذا الترحيب رفع من منسوب خرجاته داخلياً بزيارات تفقدية إلى ولايات الوطن، وخارجياً بلقاءات دولية واجتماعات مع رؤساء دول، حتى إنه كان من بين أكثر الرؤساء ركوباً للطائرة.
استغل بوتفليقة تلك الحماسة الشعبية والالتفاف الجماهيري حوله، وكانت عدسات التلفزيون الحكومي تركز في تغطياتها على صور تظهره وهو يمسح دمعة أرملة، ويعزي ابناً يتيماً، ويخاطب رجلاً مثقلاً بالهموم في حشد شعبي غفير بعبارة "ارفع راسك يا با (والدي)"، لتنفجر القاعة بالتصفيق وزغاريد النسوة.
كل هذه المشاهد رفعت من شعبية بوتفليقة يوماً بعد آخر، وأكسبته حضوراً طاغياً، كان سمةً من سمات حكمه، إلا أنها بدأت تتآكل تدريجياً مع بداية صعود المنتفعين، وتفشي الفساد بشكل رهيب في دواليب الحكم، واستقواء رجال المال والأعمال وتراجع الحريات والحق في التظاهر السلمي.
تسليم المشعل
ولعل من بين الأشياء التي قلصت من شعبيته هي تخلف بوتفليقة عن وعده بتسليم الحكم إلى الشباب، إذ استرجل في خطاب شهير ألقاه بولاية سطيف، شرق الجزائر، في مايو (أيار) 2012، حين قال، "حنا جيلنا طاب جنانو"، بمعنى "أن جيل الثورة قد هرم، وحان موعد تسليم الحكم"، لكن ما حدث جاء مخالفاً لتلك الأقوال، فعلى عكس تصريحه، استمر بوتفليقة في الحكم، وزاد نفوذه، وارتفع منسوب الصراع بين أجنحة السلطة (الرئاسة والجيش)، وترشح لعهدة رابعة، وطمع في الخامسة.
شعر الجزائريون بأن بوتفليقة تلاعب بمشاعرهم، وباتت شريحة واسعة منهم تعتقد أن حبه للسلطة لم يعد طبيعياً، ونشأ جيل من الشباب لم يعرف رئيساً غيره في كرسي المرادية، هم أنفسهم سيخرجون للمطالبة برحيله من سدة الحكم في ما بعد.
ويمثل الشباب نسبة 70 في المئة من سكان الجزائر، البالغ عددهم 40 مليوناً. ويطمح هؤلاء لاستغلال ثروات بلدهم من النفط والغاز بالعدل، وتحقيق تنمية شاملة في البلاد، التي تعتبر أكبر بلدان القارة الأفريقية.
"الكادر" يوقع شعبيته أرضاً
يعتقد الجزائريون أن محيط بوتفليقة والمنتفعين من فترة توليه السلطة، هم من تلاعبوا بشعبيته، وأضروا بسُمعته داخلياً وخارجياً، عندما قالوا إنه قادر على الحكم وهو في وضع صحي حرج.
وتفننوا في إهانته، ومعه الشعب الجزائري، عندما استنجدوا بـ"كادر"، صور ثابتة للرئيس يتم استعراضها وكأنه بوتفليقة، وهو ما حدث في أحد التجمعات، حيث اجتمع رؤساء أحزاب ووزراء ورفعوا صورته، وأعلنوا ترشحه لعهدة خامسة، ما استفز عقول الجزائريين، وحطّ من قدرهم بين الأمم.
وهنا تقول حكيمة (32 عاماً)، وهي موظفة حكومية، "الأمر الأخطر في عهد حكم بوتفليقة هو وصول كل الفاسدين للمناصب العليا. شرعنة الفساد في تلك الفترة كانت واضحة، وتطرح تساؤلات عدّة. هناك أسماء كثيرة كانت قريبة من بوتفليقة، اليوم هي في السجون بتهم ثقيلة، والجزائر وجدت نفسها في أزمة رجال بعد استقالته، وهذا فعلاً مُريب".
وتضيف، "خروجه كان من الباب الضيق، مع أنه رجل يصعب تصنيفه، ذكي وقوي، وكل الشهادات تقول إنه كان يبذل جهداً عظيماً، لكن اختياراته للرجال المقربين منه توجد نوعاً من الشك".
وهناك سياسيون ومثقفون، وحتى إعلاميون، ممن كانوا يطلقون على بوتفليقة "أبو الجزائريين"، ويمجدون ما يصفونها بإنجازاته، أصبحوا أول من أداروا ظهورهم له، وراحوا يعلنون معارضتهم لترشحه بمجرد خروج الشعب إلى الشارع، وتغير موازين القوى.
اليوم، وبعد رحيل بوتفليقة من الحياة، يحمل الجزائريون في ذاكرتهم الجماعية تلك الاحتجاجات العارمة ضده، والتي أنهت فترة حكمه بدعم من المؤسسة العسكرية، التي دعا قائد أركانها حينها، القايد صالح، إلى تفعيل المادة 102 لإعلان شغور موقع الرئاسة. ويقول متابعون للشأن السياسي، إن بوتفليقة كان رئيساً محظوظاً من ناحية الظروف، لا سيما المالية منها، إذ عرفت أسعار النفط ارتفاعاً ملأت بموجبه الجزائر الخزانة العمومية، لكنه أضاع موعده مع التاريخ، بانشغاله بصراعات السلطة بدل إطلاق ورشات البناء والتشييد، فكانت النتيجة تلك الهوة التي تكوّنت بينه وبين الجزائريين وظهرت مع رحيل صامت ووداع باهت وكأنه لم يكن هنا أصلاً ليأخذ معه كماً كبيراً من الأسرار.