Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السر المكنون" تكشف أسرار المصحات العقلية في إيرلندا

سبستيان باري يروي المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية وآثارها

الروائي الإيرلندي سبستيان باري (اندبندنت)

 قبل ثلاثة عشر عاماً، صدرت بالإنجليزية رواية "السر المكنون" للروائي والكاتب المسرحي الإيرلندي سبستيان باري. واليوم تصدر بالعربية، في إطار سلسلة "إبداعات عالمية" الكويتية، بترجمة طيبة صادق. وهي تروي وضعية المصحات العقلية في إيرلندا، خلال القرن العشرين. وتقول ما يعتورها من أبنية مزرية، ونزلاء بائسين، وقرارات اعتباطية، وتجاوزات إدارية، تجعلها أقرب إلى المعتقلات الجماعية منها إلى المقرات الصحية. "تلك الأماكن تختلف عن العالم، لا شيء فيها يرتقي للمديح، حيث الأخوات والأمهات والجدات والنساء العانسات، جميعهن كذبة منسية"، على حد تعبير بطلة الرواية.

هذه الأعطاب وغيرها تشي بها الرواية فضاءً، وشخوصاً، وصيرورة. أما الفضاء الروائي المحوري فهو مستشفى روسكومن للأمراض العقلية، وتحف به فضاءات أخرى فرعية. وأما الشخصيتان المحوريتان فهما المريضة العجوز روزان ماكنلتي، والطبيب النفسي ويليام غرين، وتتعالق معهما شخوص أخرى مكملة. وأما الصيرورة فهي المجرى الذي تجري فيه الأحداث منذ البداية حتى النهاية.

  الخلفية التاريخية

 تدور الأحداث بوقائعها في مستشفى للأمراض العقلية، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتعود بذكرياتها إلى العقود الستة الأخيرة من القرن العشرين. وتشكل الحرب العالمية الثانية، والحرب الأهلية في إيرلندا بين الملكيين والجمهوريين، في شقها السياسي، وبين الكاثوليك والبروتستانت، في شقها الديني، الخلفية التاريخية للأحداث. لذلك، تتجاذب هذه الخلفية شخوص الرواية، وتؤثر تموضعاتها السياسية أو الدينية في مساراتها ومصائرها، سواء من موقع قيامها بالفعل أو وقوع الفعل عليها، الأمر الذي ينطبق على بطلي الرواية والشخوص الأخرى فيها.

تشكل العلاقة بين المريضة العجوز ذات المائة عام روزان ماكنلتي، والطبيب الكهل ذي الخمسة وستين عاماً ويليام غرين  محور الأحداث في "السر المكنون"؛ وتتمظهر هذه العلاقة، بشكلها المباشر، في لقاءات دورية في غرفة المريضة، يقوم خلالها الطبيب بطرح الأسئلة أو الإفضاء بما يعتمل في صدره. وتقوم فيها المريضة بالإجابة أو الإصغاء. وتنشأ، جراء هذه اللقاءات، علاقة إنسانية بين الطرفين. يأنس كل منهما إلى الآخر، ويعجب به، ويحتاج إليه. وتبلغ في بعض تمظهراتها حد تبادل الأدوار بينهما، فيغدو الطبيب مريضاً، وتغدو المريضة طبيبة. وتتمظهر العلاقة، بشكلها غير المباشر، في قيام الطبيب بالبحث في تاريخ حياة المريضة لإعداد تقرير تقييمي لحالتها، واستخدامه تقنيات الاستجواب والمقابلة والقراءة والبحث والزيارة الميدانية لاكتشاف ما تخفي من الأسرار، ما يتحقق في نهاية الرواية.

  شهادات ومذكرات

في روايته، يسند سبستيان باري مهمة الروي إلى بطليها، روزان ماكنلتي وويليام غرين، فتروي هي بصيغة شهادات تكتبها في المائة من العمر، لتحكي حكايتها وتفضي بأسرارها وتتحرر مما يثقل كاهلها، ما يشكل نوعاً من العلاج النفسي لها. ويروي هو بصيغة مذكرات يكتبها في الخامسة والستين من العمر، ليحكي هواجسه، وينفس عن حزنه على رحيل زوجته بت وإحساسه بالتقصير إزاءها، وليعالج اكتئابه المنتقل إليه من مرضاه بالعدوى. والمفارق أن كلاً منهما يشغل حيزاً من رواية الآخر؛ فيستأثر غرين بوقائع روزان بينما يستأثر أبوها بذكرياتها. بينما تتمحور حولها وقائع غرين فيما تتمحور ذكرياته حول زوجته الراحلة. وهكذا، تتشكل الرواية من هذا التعاقب بين شهادات المريضة ومذكرات الطبيب.

 من خلال هذا التعاقب النصي، نكتشف المعاناة التي تنوء بها المريضة في مختلف مراحل حياتها؛ وتتخذ معاناتها تمظهرات شتى تختلف من مرحلة عمرية إلى أخرى. ففي طفولتها وصباها، تعرف الجوع والفقر واليتم والخوف، فأبوها، الشرطي السابق في الشرطة الملكية الإيرلندية، يتكتم على ماضيه بعد الإطاحة بالملكية، ويعمل حارس مقبرة وصائد فئران لتأمين كفاف أسرته، ويتم العثور عليه مشنوقاً في بيت ريفي مهجور. وأمها تعاني من اضطرابات عقلية. ولا بد لهذا الإرث الثقيل من التأثير في حياتها. ويأتي انتماؤها البروتستانتي ليزيد الطين بلة وسط أكثرية كاثوليكية تمارس التطرف الديني. وفي شبابها، تنخرط في علاقة حب مع توم ماكنلتي، ابن العائلة الكاثوليكية المتعصبة، حتى إذا ما تكللت العلاقة بالزواج تثور ثائرة الأسرة لا سيما الأم، فتقوم بالتواطؤ مع رجل الدين الكاثوليكي المتزمت الأب غانت بإبطال الزواج بذرائع مصطنعة واهية، والفصل بين الزوجين، والحجر على الزوجة، في كوخ على شاطئ ستراندفيل، لتعيش سنوات منقطعة عن العالم الخارجي.

في مرحلة لاحقة، تنزلق إلى علاقة عابرة مع إينياس ماكنلتي، شقيق الزوج العائد من الحرب، تؤدي إلى حملها منه. وحين تشارف الوضع، تقصد أسرته طالبة المساعدة، فيتم طردها لتعود من حيث أتت. وإذ تضل الطريق في  طقس عاصف، تضع مولودها في العراء، وتغيب عن الوعي، لتستيقظ على عدم وجوده قربها، وعلى مسعفين ينكرون رؤيته، ويأخذونها إلى المستشفى. وهنا، تتواطأ أسرة الزوج وشقيقه مع الأب غانت على إدخالها إلى مستشفى الأمراض العقلية في قريتها سليغو، حتى إذا ما تعرضت للتحرش الجنسي على يد أحد الممرضين، يتم نقلها إلى مستشفى روسكومن لتعيش ستين عاماً في عزلة عن العالم الخارجي، ولم يكن ليخفف من هذه العزلة سوى طبيبها غرين. تعبر روزان عن وضعيتها بالقول: "أنا بقايا شيء مهمل، أطلال امرأة، أنا لا أبدو كإنسان، بل بقايا من الجلد والعظام..." (ص 12).  وهذه الوضعية هي نتيجة طبيعية لتضافر مجموعة من العوامل. نذكر منها: الظروف الاجتماعية القاسية، التعصب الديني الأعمى، كآبة المؤسسات الصحية، انعدام الشرط الإنساني، وغيرها.

 مرض الطبيب

 ومن خلال هذا التعاقب النصي أيضاً، نتعرف إلى الطبيب ويليام غرين الذي هو ضحية هذه العوامل بدوره؛ ينشأ في كنف أبوين بالتبني. تلازمه عقدة التسبب في موت أخيه صغيراً تحت عجلات حافلة. يشعر بالحرمان العاطفي والاضطراب النفسي. ينقطع إلى العمل في المستشفى، طيلة ثلاثين عاماً. يرتبط بمرضاه بعلاقة هي مزيج من الأبوة والأمومة، ويحس بالتقصير إزاءهم، في الوقت نفسه. تنتقل إليه حالة الاكتئاب بالعدوى، فيتحول إلى مريض بدوره، ويحاول أن يتعالج بالكلام والكتابة. يغدو جزءاً من المكان، ويتخذ منه  بيتاً، يلجأ إليه من فشله الزوجي. يقلق على زوجته المريضة، ويحس بالذنب بعد وفاتها والتسبب في تدهور حالتها بعد خيانته لها. على أن رحيل الزوجة وإحساسه بالذنب يدفعان به إلى متابعة البحث في تاريخ مريضته الصحي، بدءاً من الملف المهترئ في مستشفى روسكومن، مروراً بمستشفى سليغو ودار الأيتام فيها، وصولاً إلى مركز بسكهيل للأيتام في إنجلترا. هناك، يكتشف السر المكنون، ويعرف متأخراً ثلاثين سنة أن المرأة العجوز التي كانت تحت رعايته هي أمه، فيسرع في العودة إلى روسكومن ليعتذر منها عن تقصيره، ولتغفر له ذلك التقصير. غير أنه لا يجرؤ على إبلاغها الحقيقة خوفاً على حياتها وهي المشارفة الموت. وهكذا، يمارس القدر سخريته المرة من بطلي الرواية، فيجمع بينهما طيلة ثلاثين عاماً ولا يجمعهما. وحين يفعل ذلك يكون الأوان قد فات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في "السر المكنون"، يرسم سبستيان باري صورة سلبية للأب الديني، من خلال الأب غانت الذي يسيء استخدام صلاحياته الدينية، ويقصر في القيام بواجباته، ولا يتورع عن توبيخ حارس المقبرة لوضعه في موقف حرج، ويعزله من عمله على تواضعه، ويمعن في إذلاله وامتهان كرامته، ويحاول إكراه ابنته على الزواج من الحارس البديل رغم عدم التكافؤ بينهما، ويحكم بإبطال زواجها من توم ماكنلتي لاختلافهما في المذهب، ويحجر عليها في مكان منعزل لسنوات، ويتواطأ مع أسرة الزوج على اختطاف ابنها ووضعها في مستشفى الأمراض العقلية. هذه الوقائع وغيرها تقدم نموذجاً سيئاً لرجل الدين الذي يمارس التعصب ويرتكب الكبائر باسم السلطة الممنوحة له دون وازع من دين أو ضمير.

 في المقابل، يرسم باري صورة مشرقة للأب الطبيعي، من خلال شخصية جو كلير، أبي روزان، الذي يتفانى في أبوته، ويرتضي الأعمال الوضيعة لإعالة أسرته، ويغدق على ابنته الحب والحنان، ويغني لها ويحكي الحكايات، ويعلمها ما علمته الحياة، ويواجه قدره برباطة جأش، حتى إذا ما عثرت عليه مشنوقاً ذات يوم، تلازمها صورته طيلة حياتها، ولعل هذا يفسر تخصيصه بجزء كبير من حكايتها التي كتبتها لتوقف دموعها.

لا بد من ملاحظة أخير في ختام هذه العجالة، تتعلق بمدى ملاءمة المادة المروية للراوي الصادرة عنه، فإذا كان من الطبيعي أن تصدر عن الدكتور غرين مذكرات مترابطة متسلسلة، في الخامسة والستين من عمره، فإنه من غير الطبيعي أن تصدر عن امرأة عجوز في المائة من عمرها، متهمة بالاضطراب العقلي، مثل هذه الشهادات المترابطة المتسلسلة التي تعكس وضوحاً في الرؤية وصحة في التفكير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة