بعد نحو أسبوع سيبصر النور كتاب "الخطر" الذي ألفه الصحفيان الشهيران في صحيفة "واشنطن بوست"، بوب وودوارد وروبرت كوستا، لكن بعضاً مما تكشف عن فحوى الكتاب كان كفيلاً بتفجير عاصفة مبكرة من الجدل حول مدى ثبات الصحة العقلية للرئيس السابق دونالد ترمب خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، ومدى أحقية ونجاعة تصرف رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي بالاتصال مرتين بنظيره الصيني لطمأنته بأن الولايات المتحدة لن تهاجم الصين عسكرياً أو نووياً، وهى الخطوة التي كان ميلي يخشى أن يتخذها ترمب، والتي يبدو أن بكين أيضاً كانت تتحسب لها، فما حجم الضرر الذي يمكن أن يلحق بترمب؟ وهل التزم رئيس الأركان ببروتوكولات المهنة أم أنه خان السلطة السياسية الأعلى بما يستوجب إقالته ومحاسبته؟
كشف الأسرار
يكشف كتاب "الخطر" الذي من المقرر نشره يوم 21 سبتمبر (أيلول) الحالي عدداً من الأسرار التي أحاطت بأيام الرئيس السابق دونالد ترمب الأخيرة في البيت الأبيض، وكذلك الأشهر الأولى لرئاسة الرئيس الحالي جو بايدن وقرار الانسحاب من أفغانستان، غير أن أهم ما يكشفه الكتاب الجديد كيف اتصل رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي بنظيره الصيني مرتين لتجنب صراع مسلح بين الولايات المتحدة والصين، وهو أمر يثير كثيراً من الجدل بين الديمقراطيين والجمهوريين وفي وسائل الإعلام الأميركية المختلفة.
وفقاً للكتاب فقد جرى الاتصال الأول في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية التي خسرها ترمب بثلاثة أيام، والثاني يوم 8 يناير (كانون الثاني) الماضي أي بعد اقتحام أنصار ترمب مبنى "الكابيتول" بيومين، في محاولة لوقف آخر خطوة إجرائية في الكونغرس تسمح بتنصيب الرئيس الجديد جو بايدن، وخلال مكالمتين هاتفيتين سريتين، أكد الجنرال ميلي لنظيره الصيني الجنرال لي زوتشنغ أن الولايات المتحدة لن توجه ضربة عسكرية أو نووية ضد الصين.
سبب الاتصال
يعود الاتصال الأول إلى وصول معلومات استخباراتية إلى رئيس الأركان الأميركي تشير إلى أن الصينيين يعتقدون أن الولايات المتحدة كانت تستعد للهجوم، ووفقاً لما ذكره المؤلفان في الكتاب فإن هذا الاعتقاد كان مبنياً على التوترات التي صاحبت التدريبات العسكرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي في ذلك الوقت، وعمّقها خطاب ترمب العدواني تجاه الصين في الأسابيع الأخيرة قبيل الانتخابات، ولهذا أكد ميلي لرئيس أركان جيش الشعب الصيني أن الحكومة الأميركية مستقرة وأن الولايات المتحدة لن تهاجم الصين أو تجري عمليات عسكرية ضدها، بل ذهب ميلي إلى حد التعهد بأنه سينبه نظيره عبر قناة خلفية في حال الاستعداد لشن هجوم أميركي حتى لا تكون مفجأة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المكالمة الثانية فقصد ميلي من ورائها معالجة مخاوف الصين بشأن أحداث اقتحام مبنى الكونغرس والتي اهتزت لها الولايات المتحدة على وقع صدمة كبيرة لم تكن متوقعة، لكن محاولات ميلي طمأنة الصينيين بأن كل شيء على ما يرام وأن الديمقراطية يمكن أن تختل في بعض الأحيان، لم تهدئ من انزعاج رئيس الأركان الصيني وفقاً للكتاب.
مطالب بالإقالة
بحسب ما ذكره المؤلفان وودوارد وكوستا، فإن ترمب لم يبلغ بهذين الاتصالين ولم يصدر أي أمر بمهاجمة الصين، وفي أول تعقيب له على فحوى الكتاب وصف ترمب على شبكة تلفزيون "نيوزماكس" المحافظة، تصرفات ميلي بأنها "خيانة"، مؤكداً أنه لم يفكر مطلقاً في مهاجمة الصين، فيما كتب السيناتور ماركو روبيو، والذي يشغل أعلى منصب جمهوري في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، رسالة إلى الرئيس بايدن يحثه فيها على إقالة رئيس هيئة الأركان المشتركة، قائلاً إنه قوض القائد العام للقوات المسلحة وسرب معلومات سرية بقدر من الخيانة إلى الحزب الشيوعي الصيني لتحذيرهم من صراع مسلح محتمل.
كما دعا ألكسندر فيندمان، وهو ضابط جيش متقاعد وكان أحد الشهود الرئيسين ضد ترمب خلال إجراءات مساءلته الأولى، إلى عزل ميلي لأنه اغتصب السلطة المدنية وكسر التسلسل القيادي وانتهك المبدأ المقدس للسيطرة المدنية على الجيش بما يعد سابقة خطيرة، وشن جون راتكليف رئيس مجتمع الاستخبارات الأميركية السابق خلال عهد ترمب تصرف الجنرال ميلي نافياً أن يكون رئيس هيئة الأركان المشتركة قد تبادل أية معلومات مع أجهزة الاستخبارات الأميركية على الرغم من خطورة هذا الاتصال مع الصينيين.
مبالغة أم حقيقة؟
وفيما نقل موقع "بوليتكو" عن شخصين مطلعين على الموضوع أن المزاعم التي تناولها الكتاب مبالغ فيها إلى حد كبير، كما نقل الموقع عن مسؤول دفاعي قوله إن التوصيف المتعلق بالاتصال مع رئيس الأركان الصيني به خطأ فادح، لأن ميلي لم يخرج عن البروتوكول في إجراء المكالمة كما يشير الكتاب، فقد طلب ميلي الإذن بالاتصال مع رئيس الأركان الصيني من القائم بأعمال وزير الدفاع حينذاك كريس ميللر قبل إجراء المكالمة،
غير أن ميللر قال إنه إذا كان تقرير وودوارد وكوستا دقيقاً فسيتعارض ذلك تماماً مع الإشراف المدني على الجيش، وستكون مخالفة للدستور إذا كانت ذلك صحيحاً، لكنه نفى علمه بصحة الكلام المنشور في الكتاب.
تدهور عقلي
غير أن الكتاب يشير إلى أن ميلي (62 سنة) والذي اختاره ترمب لهذا المنصب عام 2018، كان يعتقد أن الرئيس عانى من تدهور عقلي بعد الانتخابات، وهي وجهة نظر أبلغها إلى رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في مكالمة هاتفية يوم 8 يناير (كانون الثاني) الماضي، ووافق على تقويمها بأن ترمب كان غير مستقر في هذا التوقيت، وفقاً لنسخة من المكالمة حصل عليها المؤلفان.
وبناء على هذا الاعتقاد اتصل ميلي بالأدميرال المشرف على القيادة البحرية العسكرية الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، وأوصى بتأجيل التدريبات العسكرية المقررة هناك، كما استدعى ميلي كبار الضباط في وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) لمراجعة إجراءات إطلاق الأسلحة النووية، قائلاً إن الرئيس وحده من يستطيع إصدار الأمر بإطلاقها، ولكنه طلب أن يكون جزءاً من هذا الأمر إذا صدر قرار بذلك، وتأكد من أنهم فهموا رسالته.
قاعدة شليزنغر
ووفق ما وصفه المؤلفان فإن ميلي كان يعلم أنه يعيد تفعيل ما يعرف بـ "قاعدة شليزنغر"، وهي القاعدة الإجرائية التي اتخذها جيمس شليزنغر وزير الدفاع الأميركي في أغسطس (آب) 1974 حين طلب من القادة العسكريين التواصل معه ومع رئيس هيئة الأركان المشتركة قبل تنفيذ أي أوامر عسكرية أو إطلاق صواريخ نووية من الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي كان يواجه آنذاك مساءلة العزل من منصبه في مجلس النواب عقب فضيحة "ووترغيت" الشهيرة.
وعلى الرغم من أن ميلي ذهب بعيداً في السعي إلى تفادي أزمة أمن قومي، إلا أنه شارك أعلى المناصب في الإدارة الأميركية بحسب ما يكشف المؤلفان، اللذان استشهدا بتحذير مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل حين قالت لميلي، "نحن في طريقنا لانقلاب يميني".
التزام بالواجب
وعلى الرغم من الدعوات المتنامية بين عدد من الجمهوريين بإقالة رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إلا أن ميلي الذي لم ينف اتصاله بنظيره الصيني، حظي بدعم واسع من سياسيين وعسكريين، إذ قال مسؤولون في "البنتاغون" لموقع "بوليتيكو" إن مكالمات ميلي مع الصينيين وآخرين كانت متماشية مع هذه الواجبات والمسؤوليات الدفاعية، وأنه كان ينقل الطمأنينة إلى الصينيين من أجل الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي.
وجاء الدعم الأهم من البيت الأبيض حين قال بايدن للصحافيين إن لديه ثقة كبيرة في الجنرال ميلي، لينهي بذلك التكهنات بأن مهمة ميلي قد تنتهي قريباً، كما ساند جون بولتون الذي عمل مستشاراً للأمن القومي في عهد ترمب الجنرال ميلي، قائلاً في بيان إن وطنيته لا جدال فيها.
مساءلة منتظرة
وزاد الجدل من المساءلة التي يواجهها بايدن وميلي وغيرهما من كبار القادة العسكريين في شأن انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان، والذي انتقده الجمهوريون وبعض الديمقراطيين ووصفوه بالفوضى وخيبة الأمل، ومن المقرر أن يدلي ميلي بشهادته حول جهود الإخلاء من أفغانستان في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ في وقت لاحق من هذا الشهر، إذ من المؤكد أيضاً أنه سيواجه أسئلة حول محادثاته مع رئيس الأركان الصيني.