Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أرجوك، أرجوك أن تساعدني"... شهادة مراسل على النهاية المريرة لحرب أفغانستان

بعد عقد من التغطية الصحافية من أفغانستان، يتأمل كيم سنغوبتا في سلسلة إخفاقات الغرب والمستقبل الغامض الذي ينتظر المتروكين لمصيرهم في أفغانستان

طائرة تابعة لسلاح الجو الأميركي تتحضر للإقلاع من مطار كابول يوم الاثنين (غيتي)

جرى الانسحاب النهائي للقوات الغربية من أفغانستان وسط مجزرة على الأرض، وتراشق للاتهامات القاسية في واشنطن ولندن، وحالة من الإحباط والخوف في أوساط من تُركوا في هذه الأرض المحطمة.

 تحل الذكرى العشرون للحادي عشر من سبتمبر (أيلول) مطبوعةً بهزيمة مذلة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفائهما، وهبوط الظلام على الأفغان وهم يشاهدون المكاسب الصعبة التي تحققت خلال العقدين الماضيين وهي تُسلب منهم فيما يواجهون مستقبلاً قاتماً.

دق الهجوم على مطار كابول الذي شنه تنظيم "داعش في خراسان" الأسبوع الماضي، وذهب ضحيته 169 أفغانياً، كما انتشار مجموعات متطرفة أخرى، منها "القاعدة"، ناقوس الخطر من احتمال عودة الحرب الأهلية المتوحشة التي تبعت انسحاب القوات الروسية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي- مع كل ما تحمله هذه العودة من دمار.

عملت على تغطية أحدث الحروب الأفغانية منذ بدايتها وشهدت بأم العين فظائع يبدو أنها قدر هذه البلاد. وبالفعل، بدا واضحاً جداً بالنسبة إليَّ عندما شهدت سقوط كابول وما تبعه من مأساة كبيرة للاجئين الذين يحاولون الفرار من قبضة "طالبان" على امتداد الأسابيع الماضية أنه بالنسبة إلى كثير من الأفغان، بدأ الكابوس بالفعل.

قالت لي شقيقة صديقي، أفسانة أنصاري، التي أعرفها منذ عشر سنوات، يوم دخول عناصر "طالبان" إلى كابول "كنت أفكر هذا الصباح بأنني أبلغ 20 سنة من العمر، وقد وُلدت في العام الذي انتهى فيه حكم حركة طالبان. والآن، وبعد مرور 20 عاماً على ذلك، انتهت [فرصي بـ] الحياة التي أردتها لنفسي".

وأضافت أفسانة، الطالبة في جامعة كابول "أردت أن أصبح فنانة وأعمل على دمج الفن الأفغاني والغربي. كما أنني ناشطة في القضايا الجندرية [المساواة بين الجنسين]. لا أعتقد ذلك ممكناً بعد اليوم، ليس في أفغانستان. لا يسعني التصديق بأن هذه الكارثة قد حلت بنا وأن حياتنا تدمرت بهذه البساطة".

بالنسبة إلى أشخاص آخرين، يمتزج اليأس بالذهول إزاء تخلي الغرب عنهم. وردني اتصال من بينيش أليوال، ناشطة في مجال حقوق الإنسان عمرها 28 سنة، في اليوم الذي طلبت فيه حركة "طالبان" من الأفغانيات العاملات أن يلازمن المنازل، فيما رفض جو بايدن تمديد المهلة النهائية لعمليات الإجلاء. غادر آخر عناصر القوات الأميركية العاصمة كابول قبل أيام، وقالت "لا يفاجئني أن نتعرض لهذا الكم من الأذى من طالبان ومن الرئيس الأميركي خلال اليوم نفسه. أظن أن هذا الأمر كان محتوماً منذ إعلان السيد بايدن عن نيته سحب الجنود، وهو ما شكل إشارة لطالبان كي يهجموا".

فرت عائلة بينيش إلى باكستان خلال حكم "طالبان" وعادت بعد سقوط نظام الملا محمد عمر في أعقاب اجتياح القوات الأميركية والبريطانية في عام 2001. وأرادت التشديد على أن "الأميركيين والأوروبيين شجعوا النساء من أمثالي على التعلم والقتال في سبيل تحصيل حقوقنا وحقوق الآخرين".

"والآن، هذه هي الأمور التي تجعلني هدفاً لعناصر طالبان. والأمل الوحيد الذي لدينا هو الرحلات الجوية، وبلوغها يقتضي المرور بنقاط تفتيش طالبان، لكن صدقني، لن يقدر كثير من الناس على النجاح في الوصول إليها".

سادت حالة من الفوضى والاضطراب عملية الإجلاء منذ البداية، وهو أمر لا مفر منه في ظل المهل الزمنية القصيرة والشروط المفروضة على العملية. صحيح أن الآلاف نُقلوا جواً إلى بر الأمان، لكن كثيرين تُركوا، وبعضهم يختبئ من الجهاديين الذين يبحثون عنهم طلباً للانتقام.

يسود شعور الغضب بين العديد من عناصر القوات الأميركية والبريطانية والغربية الأخرى إزاء ما حصل، وهم يعلمون بأن الأشخاص الذين عملوا معهم، غالباً في ظل ظروف خطرة، يُتركون لمصيرهم.

وما شهدوه، فيما حاول الناس الهرب من عناصر "طالبان" وصولاً إلى مكان عمليات الإجلاء الجوية، شكل تجربة حركت مشاعر كثيرين. خلال أحد الأيام الصعبة بشكل خاص، حين توفي سبعة أشخاص سحقاً بسبب تدافع الحشد والحر، اقترب مني جندي من كتيبة المظليين خارج مقر القوات البريطانية في فندق بارون ليقول "هل تعلم، مضى على وجودي في الجيش 12 عاماً وما يحصل هنا هو أسوأ التجارب التي مررت بها". فيما اكتفى جندي أصغر سناً بالقول "لم أرَ جثة في حياتي، عندما التحقت بالجيش توقعت أن أرى الناس يموتون لكن ليس هكذا، لم أتوقع هذا".

في اليوم نفسه، طلبت مني فتاة صغيرة من [قومية] الهزارة تبلغ من العمر حوالي ثماني سنوات، فقدت يدها نتيجة انفجار عبوة ناسفة بدائية الصنع، أن أحاول العثور على والدتها. قالت: "أشعر بالخوف الشديد ، ليس لدي أحد". بحثنا لكننا فشلنا في العثور على والدتها وسط الحشد المتضخم. بعد ذلك بقليل، تجولت الفتاة إلى حيث تم وضع الجثث المغطاة وأغمي عليها. كانت إحدى الجثث جثمان والدتها.

كل صحافي أجنبي في الميدان تلقى مناشدات يائسة من الذين يحاولون الهروب، وبذل الجميع أقصى جهدهم، وأخرجوا بعض الأفراد والعائلات بمساعدة بعض العناصر والمسؤولين المتفهمين الذين أظهروا صبراً وتعاطفاً.

واستمرت المناشدات حتى بعد انتهاء عمليات الإجلاء الجوية. وهي تأتينا من أشخاص نعرفهم جيداً وآخرين لا نعرفهم أبداً. فيما أكتب هذه الكلمات، تصلني اتصالات هاتفية من شخص تعرفت عليه في هرات منذ أسبوعين. قال لي الرجل "أرجوك، أرجوك أرجوك أن تساعدني، وأرجوك أن تطلب من حكومتك المساعدة، يريدون قتلنا". لديه أسباب وجيهة لكي يخاف.

هناك قلق كبير على زملائنا الإعلاميين الأفغان. فهم الأبطال الحقيقيون في تغطية هذا النزاع. أما نحن، المراسلين الأجانب، فقد جئنا إلى هنا على مر السنين، وأتممنا مهماتنا، ثم عدنا من حيث أتينا.

لكنهم واصلوا عملهم حتى عندما حولت الساحة الدولية أنظارها عن أفغانستان، واستمروا بتدوين فظائع حركة التمرد، وفضح الفساد داخل الحكومة. ودفعوا ثمناً باهظاً لقاء عملهم، بحيث تلقى عدد كبير منهم التهديدات، أو تعرضوا للاختطاف أو الاعتداء، وفقد البعض حياته.

ترك الوضع في أفغانستان هذا التأثير الكبير في كثيرين -من عمال إغاثة إلى عسكريين وإعلاميين ودبلوماسيين- إلى حد ما لأننا شهدنا جميعاً الولادة الجديدة لأمة منذ عقدين والآن نشهد دمارها أمام أعيننا.  

جلبت نهاية حكم "طالبان" معها أملاً هائلاً. فقد استُبدل بالحكم الإسلامي الرمادي الخانق ألوان ونور. صدحت في المكان الموسيقى، وفُتحت المتاجر، وظهرت اللافتات الملونة وخلعت النساء الحجاب. كما ظهرت مدارس الفتيات ومدارس اللغة، وأُدخلت مواد حديثة إلى مناهج الكليات والجامعات.

هربت قيادة "طالبان" إلى معاقلها الآمنة في باكستان. وفي هذه الأثناء، في قندهار، جال السكان المحليون في منزل الملا عمر بثرياته المطلية بالذهب، وألواح جدرانه من خشب الفورمايكا، والمسجد المزخرف بمراياه الخضراء والزرقاء اللون، بحثاً عن هدايا تذكارية. كان أمراء الحرب قد قبلوا على مضض اضطرارهم إلى حل جيوشهم الخاصة.

في ذلك الوقت، أكد جورج دبليو بوش للأفغان بأنهم "يمكنكم الاعتماد على الولايات المتحدة، سوف نبقى لضمان الأمن". فيما صرح توني بلير "هذه المرة، لن نتخلى عنكم"، كما فعل الغرب بعدما استخدم المجاهدين من أجل طرد الروس.

لكن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هجرتا المكان مجدداً، لتخوضا هذه المرة كارثة العراق في عام 2003. تحولت وجهة الأموال المخصصة لإعادة الإعمار. وتقلص عديد القوات العسكرية الضئيلة أساساً. ثم تغير هدف عملاء وكالة الاستخبارات المركزية والقوات الخاصة ليصبح البحث عن صدام حسين وكبار مسؤولي حزب البعث.

التقيت أحدهم، واسمه أليكس، وهو جندي سابق في الجيش الأميركي لديه 19 عاماً من الخبرة، ويتكلم اللغات الدرية والبشتوية والأوردية بطلاقة، في "مخيم فيكتوري" القريب من مطار بغداد في نهاية عام 2003. هز رأسه بقرف وهو يقول "كنا على وشك تحقيق نتيجة فعلية، ثم أتتنا أوامر الانتقال إلى هنا. اضطررنا إلى ترك عملائنا الأفغان، وقد اغتيل بعضهم. كنت خبيراً في الشأن الأفغاني، وقضيت سنوات طويلة مع المجاهدين. لا أتكلم العربية حتى، لكنهم ما عادوا يهتمون بأفغانستان في العاصمة واشنطن. لا يعلمون حجم المشاكل التي يراكمونها".

صب الإعلام وقتها تركيزه على العراق الذي بدأ سقوطه نحو الهاوية بعد "التحرير". لكن الزيارات العابرة إلى أفغانستان بينت أن عناصر "طالبان"، بمساعدة العناصر الذين غذوهم في الجيش وفي وكالة الاستخبارات الباكستانية، كانوا ينتقلون من جديد لملء الفراغ الأمني، ويستولون على المحافظات الريفية ويشنون هجمات داخل المدن.

بدا السياسيون الأميركيون والبريطانيون غير مدركين لما يحدث. قال لنا دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي في تلك المرحلة، في مزار الشريف إن الحرب قد انتهت. وصرح بقوله "قُضي على حركة طالبان، لقد تهمشت ولن تلعب أي دور في أفغانستان في المستقبل".

في عام 2006، ومع تدهور الوضع الأمني، عاد الغرب إلى أفغانستان مع تأسيس القوة الدولية للمساعدة الأمنية (إيساف) التي ترأسها الجنرال البريطاني، السير ديفيد ريتشاردز. أما المملكة المتحدة فنشرت قواتها في هلمند، فيما أعلن وزير الدفاع حينها جون ريد أن مهمتها هناك "ستنتهي (على الأرجح) من دون إطلاق رصاصة واحدة".

وأحد أسباب اختيار هلمند موقعاً لنشر القوات البريطانية كان التصدي لمشكلة [زراعة] الخشخاش: فقد كانت هذه المحافظة مسؤولة عن 90 في المئة من مخدر الهيروين الموجود في شوارع بريطانيا، و25 في المئة من محصول الأفيون في أفغانستان. بعد مرور 20 عاماً، أصبحت هلمند تنتج نحو 62 في المئة من المحصول المحلي.

كان الجيش البريطاني حذراً للغاية من التورط في خلق طبقة جديدة من الأعداء في أوساط المزارعين الذين تعتمد معيشتهم على زراعة هذا المحصول، ولم يحصل على توضيح كافٍ من لندن بشأن السياسة المتبعة في هذا الموضوع.

 فيما انتشرت القوات، سألني المقدم هنري ورزلي، الضابط البريطاني المسؤول عن لشكر كاه، عاصمة محافظة هلمند، إن كنت في طريقي إلى كابول "هل تذهب إلى السفارة البريطانية في كابول؟ إن كنت ستذهب، هل يمكنك أن تستعلم عن سياسة الحكومة البريطانية بشأن القضاء على الخشخاش؟ لم يخبرنا أحد ما هي".

وفي هذه الأثناء، بدأت الشركة الأميركية دين كورب (DynCorp) بالقضاء على حقول الخشخاش وانتظر المزارعون الحصول على التعويض الموعود. ثم سرعان ما بدأ المتعاقدون يأتون إلى القاعدة العسكرية لتناول العشاء مع نظرائهم الأميركيين. وفي إحدى الليالي، أثناء وجودنا في المكان، لحقتهم سيارة مليئة بالمتفجرات واقتحمت البوابة الرئيسة. كان ذلك أول هجوم انتحاري يقع في لشكر كاه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

توفي المقدم ورزلي، وهو رجل شجاع وساحر ومتواضع، في عام 2016، فيما كان على وشك تحقيق إنجاز تاريخي عبر إنهائه رحلة السير إرنست شاكلتون إلى القطب الجنوبي. كان يجمع المال لصالح صندوق إنديفور المخصص للجنود المصابين، رجالاً ونساءً. في السنوات التي سبقت مقتله، كنا نتحدث بين الفينة والأخرى عما جرى، من خطأ وصواب، في تلك الأيام الأولى في هلمند.

بحلول صيف عام 2006، ما عاد الخشخاش مصدر القلق الوحيد للبريطانيين. اشتعلت هلمند، وحاصرت "طالبان" الوحدات البريطانية الصغيرة داخل قواعدها. كانت هذه القواعد قد أُنشئت نزولاً عند إصرار الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي اشتكى من تنامي وجود "طالبان". وكان ذلك فعلياً بمثابة دعوة لـ"طالبان" إلى ساحة القتال. قبلت الحركة التحدي وارتفع عدد الضحايا، ولا سيما عندما بدأ المتمردون باستخدام العبوات المزروعة على جوانب الطرقات بشكل هائل.

أصبحت المتفجرات اليدوية الصنع نقطة تحول في مسار اللعبة [الأمور]، وأوقعت أكثر من 90 في المئة من الضحايا.

في عام 2010 في بابجي، قال لي الرقيب الأول للسرية ستيف تايلور، من فوج حراس كولدستريم (Coldstream Guards) في الجيش البريطاني، لدى وصولي "في فرقة من 130 جندياً، تكبدنا أربع وفيات و35 إصابة، منهم أربعة بُترت لهم الساقان واثنان بُترت لهما ساق واحدة. رأيت شباناً يتوسلون طالبين عدم إرسالهم على متن الدورية، لكنك تقول لهم (يا بني، عليك أن تقوم بهذا، فهذا عملنا). لقد خرجوا وأدوا وظيفتهم. وما كنت لأطلب منهم أكثر من ذلك".

سرعان ما شهدت ما يواجهونه في بابجي. خلال جولة إحدى الدوريات، أصيب رقيب في انفجار عبوة مفخخة عندما هرع لمساعدة جندي مصاب. وعندما عدنا برفقة فوج الإسعاف، انفجرت عبوة أخرى زُرعت إلى جانب طريق أزيلت منه كل العبوات قبلها بساعات قليلة، وأوقعت المزيد من الإصابات. وفي بعض القواعد مثل سانغين، عاشت القوات، والصحافيون الذين يرافقونها، تحت حالة من الحصار، والهجمات المتتالية.

وفيما تواصل النزاع بين القوات الغربية وحركة المتمردين، أطلق عناصر "طالبان" حملة من الاغتيالات، وأصبحت النساء بشكل خاص أهدافاً للعمليات الانتقامية.

كتبت عن خمس نساء أصبحن رمز وجه أفغانستان الجديد والشجاع. قُتلت أربع منهن لاحقاً، فيما هربت الخامسة، وهي نائبة عن قندهار، إلى كابول بعد إصابة عائلتها في كمين مات فيه زوجها.

قُتلت صفية أماجان، التي نجت من سنوات حكم "طالبان" وهي تدير صفوفاً سرية للفتيات، بعمر 65 سنة في سبتمبر 2006. التقيت القاتلَين وهما في مطلع العشرينيات من العمر، داخل سجن سابروزا في قندهار. نفذا عملية الاغتيال مقابل خمسة آلاف دولار أميركي عرضها عليهما أحد الملالي في باكستان.

أما مالالاي كاكار، أبرز شرطية في البلاد، التي ترأست فريقاً من عشر شرطيات عملن على إنقاذ النساء اللواتي يتعرضن للاعتداءات، وقادت التحقيق في مقتل أماجان، فقد قُتلت بدورها بعد شهر عندما وقعت في كمين استُدرجت إليه بعد تلقيها إفادة كاذبة عن احتجاز إحدى النساء رهينةً.

دخلت النائبة زرغونة كاكار المعترك السياسي بعدما تابعت حديث شيري بلير ولورا بوش على التلفزيون عن أهمية اضطلاع النساء بدور في الحياة العامة في أفغانستان المستقبل. وقد شاركت في ذكرى وفاة مالالاي.

أصدرت "طالبان" حكماً بالقتل بحق النائبة نفسها، غير أنها لم تحصل على أي حماية لا من القوات الأفغانية ولا من قوات "إيساف". بعد فترة قصيرة، تعرضت وعائلتها لهجوم في سوق محلية. قُتل زوجها، محمد ناصر، فيما أصيبت بجروح في رأسها. هربت زرغونة بعد ذلك إلى كابول مع أولادها.

كانت الشخصيات العامة عرضةً للاستهداف. التقيت أحمد والي كرزاي، الشقيق القوي للرئيس الذي تسلم إدارة قندهار، بعد استهداف منزله في قندهار بوابل من الصواريخ. وقال لي وهو يلوح بيده، مشيراً إلى الأضرار "لقد حاولوا قتلي تسع مرات إلى الآن، عليهم أن يبذلوا جهداً [يبلوا بلاء أفضل] أفضل من هذا".

كان الرجل المعروف بلقب "أ.و.ك" مشجعاً لنادي تشيلسي لكرة القدم ومعجباً كبيراً باللاعب جون تيري، وتساءل إن كنت أقدر على إحضار قميص موقع من قائد فريق تشيلسي له. تمكنت من الحصول على قميص بفضل مساعدة زميلي في قسم الرياضة في "اندبندنت" وهاتفت كرزاي لأخبره بأنني سأعطيه إياه خلال زيارتي التالية إلى أفغانستان. بعد أسبوع على المكالمة، أرداه أحد حراسه الشخصيين قتيلاً.

استمر النزاع، واستُقدمت "أعداد إضافية" من القوات في ظل حكم القائدين الأميركيين الجنرال ديفيد بترايوس والجنرال ستان ماك كريستال، تمكنت من استعادة بعض المكاسب من "طالبان". لكن جو بايدن، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب نائب الرئيس باراك أوباما، عارض بشدة إرسال المزيد من القوات، إنما خسر هذه المعركة.

وصل الموضوع إلى طريق مسدود في نهاية المطاف، حيث وضعت حركة "طالبان" يدها على مساحات كبيرة في المناطق الريفية، فيما ظلت الحكومة التي يدعمها الغرب، مسيطرة على المدن والبلدات. أنهت "إيساف" عملياتها العسكرية في عام 2014، ولم يبقَ في البلاد سوى قوة صغيرة الحجم نسبياً.

لكن تلك القوة المصغرة -وقوامها نحو 2400 جندي أميركي، وما يقرب من الألف جندي من قوات "الناتو"، و750 جندياً من المملكة المتحدة- شكلت ضمانة ضد المتمردين وداعميهم الباكستانيين. إنما بددت إدارة ترمب شبكة الأمان هذه خلال مفاوضات اتسمت بغياب الكفاءة، عُقدت في قطر بقيادة ممثل وزارة الخارجية الأميركية زلماي خليل زاده، وأسفرت عن إبرام اتفاق الدوحة المليء بالعيوب الذي لبى كل مطالب حركة "طالبان" تقريباً.

والآن بايدن منهمكٌ بالادعاء بأنه ورث الصفقة السيئة عن دونالد ترمب. لكن خلال الحملة الرئاسية الانتخابية الأميركية، أكد مرة بعد مرة أنه لن يتراجع عن قرار الانسحاب. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض لم يفعل أي شيء إزاء الانتهاكات المتكررة للاتفاق من جهة "طالبان"، التي كانت لتسمح للولايات المتحدة بمراجعة موقفها.

واتخذ المسؤولون الأميركيون والبريطانيون مثال نجيب الله لازمةً. لم يكن الرئيس الأفغاني الذي تركه الروس وراءهم دميةً بيد الكرملين في نهاية الأمر، كما زعم الغرب سابقاً، بل قائد محنك نجح في منع التمرد من التقدم طيلة ثلاث سنوات إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي وتوقف تدفق الأموال كما توقفت إمدادات النفط. لكن ذلك لن يحدث مع حكومة أشرف غني في ظل استمرار الدعم الغربي. 

لكننا ظللنا نسمع من الزملاء والمسؤولين والجنود الأفغان منذ منتصف يوليو (تموز) بأن الأمور تسوء جداً. عندما وصلت إلى أفغانستان منذ شهر، كان عناصر "طالبان" قد شنوا هجمات كبيرة على ثلاث مدن رئيسة هي قندهار وهرات ولشكر كاه.

شكل انهيار القوى الأمنية الأفغانية التالي ضربةً مذهلة وصاعقة فعلاً. بعد أن رافقتهم في السابق لتغطية مهمات كثيرة، حاربوا فيها ببسالة واحتراف، تفاجأت كما الجميع بالأحداث ولا سيما بعدما قضيت بعض الوقت في هرات برفقة القوات الأفغانية والمقاتلين الذين حاربوا تحت إمرة قائد المجاهدين المخضرم إسماعيل خان، وقدموا أداءً جيداً بمساعدة القصف الأميركي.

قد يوفر ما حدث في هرات توضيحاً لما حدث في البلاد. دخل أحد عناصر "طالبان" مدينة هرات حين كانت تحت سيطرة الحكومة، مما شكل بالتالي مخاطرة شخصية ضخمة بالنسبة إليه، لكي يشرح لنا أنا وزميلي الأفغاني وجهة نظر "طالبان".

كان كئيباً، إذ حدث ذلك في أعقاب معاناة "طالبان" من انتكاسة كبيرة. وقال وهو يشتكي من انتهاك الأميركيين اتفاق الدوحة عن طريق استمرار العمل العسكري "نخشى شيئان فحسب، الله والقصف الأميركي".

ومع ذلك، وقعت هرات في قبضة "طالبان" بعد ذلك بيومين فقط. كنت عندها قد أصبحت في كابول. وقال لي مقاتل "طالبان" عبر اتصال هاتفي أنه وزملاءه لا يعرفون ما الذي حدث. "دخلنا المدينة ببساطة، ولم نضطر إلى إطلاق رصاصة واحدة حتى، فقد اختفى رجال الحكومة وإسماعيل خان بكل بساطة".

يتحدث جنود أفغان حاربوا هناك وفي مدن أخرى مثل لشكر كاه ومزار عن الأوامر التي تلقوها من قادتهم بالانسحاب عندها كانت الأفضلية لهم في المعركة. عند سؤاله عن رأيه في ما حدث، أجاب نقيب في الجيش بلا تردد "المال. دُفع الكثير من المال. لا تملك حركة طالبان الكثير من المال، لكن من يدعمونها يملكونه".

أقلعت آخر الرحلات الجوية الأميركية من كابول على وقع الصواريخ التي أطلقها تنظيم "داعش" على المطار. وفي هذه الأثناء، أفيد عن مقتل عشرة مدنيين في الأقل، منهم ستة أطفال، في غارة أميركية باستخدام طائرة من دون طيار يُزعم أنها استهدفت سيارة مفخخة. العنف والضغينة اللذان طبعا أطول الحروب الأميركية مستمران حتى النهاية المريرة.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات