Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة أخيرة في حياة ماكس فريش إلى مصر لوداع العالم

سجال سويسري لا ينتهي حول نشر الجزء الثالث من يومياته

ماكس فريش (1911 – 1991) (غيتي)

لم يُعرف عن الكاتب السويسري باللغة الألمانية ماكس فريش إفراط في الكتابة، لا من ناحية عدد المسرحيات والروايات والنصوص الأخرى التي كتبها طوال حياة أربت على الثمانين سنة، ولا من ناحية الأحجام التي اختارها لكتبه فهي غالباً ما كانت تتراوح في عدد صفحاتها بين المئة والخمسين والمئتي صفحة. حتى في هذا المجال كان سويسرياً حقيقياً بأكثر مما كان ألماني اللغة. وهو لئن كان قد أصدر خلال السنوات الوسطى من حياته جزأين يتضمنان ما سماه "يومياتـ"ه، فإنهما بالكاد يغطيان ما حدث فعلاً خلال تلك الحياة، بل إن الجزأين توقفا عند عام 1971، وكان لا يزال أمامه عقدان بكاملهما ليعيش ويكتب ويتجول حول العالم قبل أن يرحل في عام 1991.

يوم مزق مخطوط اليوميات

مهما يكن من أمر نعرف اليوم أن هناك جزءاً ثالثاً من اليوميات صدر لاحقاً بعد رحيل فريش، وتحديداً عام 2010. غير أن هذا الجزء أثار حين صدوره ضجة كبيرة لسبب بسيط، وهو أن فريش كان بنفسه قد مزق مخطوط ذلك الجزء وقد قرر عدم نشره، لأسباب غير واضحة. ولكن يبدو أنه نسي حين أقدم على إعدام النص، أن ثمة نسخة ثانية كانت سكرتيرته محتفظة بها، بالتالي سلمتها إلى ناشره الدائم  "سوهركامب" الذي سارع بنشرها غير آبه باحتجاجات الذين قالوا إنه ليس من الفعل الأخلاقي نشر نص لم يرد المؤلف نشره. بيد أن أحداً لم يبال بالاحتجاجات بل بيعت نسخ كثيرة من الجزء الثالث ذاك من يوميات فريش، ليحاول قراؤه البحث في ثنايا النص عما قد يكون الدافع وراء تصرف الكاتب الأخير في حياته. والحقيقة أن العثور على الدافع لم يكن بالأمر السهل. فالكتاب ينتمي إلى نفس السياق الانتقائي الذي دون به فريش يوميات الجزأين السابقين (الأول صدر عام 1950 ويتناول السنوات 1946 – 1949، والثاني صدر عام 1972 ويهتم بالسنوات 1966 – 1971)، لكنه يبدو أكثر عمقاً وشجناً في تأملاته حول المرض والموت. ومن المؤكد أن لهذا العمق أسبابه كما سنرى بعد سطور.

بين نيويورك ومصر

دون فريش تلك اليوميات الجديدة، والأخيرة كما نعتقد، بين بدايات العام 1982 وربيع العام التالي له، وفي ثلاثة أماكن، شقته في نيويورك وبيته السويسري في مدينة تيسين، ولكن بخاصة وأخيراً في مصر. ولكن لماذا نقول "بخاصة في مصر"؟ ببساطة لأن معظم النص كتب في هذا البلد يوماً بيوم وتحديداً خلال زيارة طويلة قام بها فريش إلى القاهرة بشكل خاص، ولكن إلى مناطق مصرية متنوعة ولا سيما منها مناطق ترتبط بالعصر الفرعوني وتحديداً بـ"كتاب الموتى" الذي يبدو أنه كان قد أعاد قراءته في ذلك الحين متعمداً. فهو كان يرافق في تلك الرحلة المصرية صديقه رجل القانون السويسري المعروف بيتر نول الذي كانت الرحلة من أجله. فهذا الأخير كان مصاباً بسرطان سيقضي عليه بعد حين، ومن هنا كانت الرحلة إلى مصر واحدة من أمنياته الأخيرة. وفريش إذ أبدى حماسته لمرافقته فيها كان كمن يبحث عن علاقة ما بالموت والمرض من خلال ما يعانيه صديقه الذي كانت أوضاعه تتدهور يوماً بعد يوم دون أن يحط ذلك من عزيمته في التجوال بين الربوع المصرية. ولعل الغريب في الأمر أن فريش الذي كان معروفاً للأوساط المثقفة في مصر، وكان عدد من كتبه قد ترجم فيها إلى العربية، لم يشأ أن يمعن في الإعلان عن حضوره هنا. ومن هنا كان لافتاً ولكن مثيراً للتساؤل، تجواله مع رفيقه كعجوزين مجهولين يتناقشان ويتأملان طيلة الوقت ويتصرفان كأن الزمن والموت يداهمانهما.

هل سأموت قبل رفيقي؟

في يومياته سيكتب فريش، "أنا، على عكس رفيقي بيتر لست أعرف بعد كيف سأموت. لكن هذا لا يعني أنني سأعيش أكثر مما سيعيش". ومن هنا، من خلال معايشة الموت البطيء إنما الحتمي لصديقه، يبدو من الواضح طوال الصفحات المخصصة لمصر في اليوميات، أن ثمة قدراً كبيراً من الشجن يهيمن على الكتاب. بيد أن توقعاً للموت وللمرض في أية لحظة أدى إلى نوع من تماه مبدع بين ماكس وبيتر. ولقد رأى النقاد أن ذلك التماهي هو "ما جعل للكتاب سحره الخفي" بحسب أحد النقاد، فيما رأى ناقد آخر أن جزءاً أساسياً من النص يقع تحت رعب أن تختتم الحياة بانفجار نووي كبير. أما السؤال الذي لم يفت كل هؤلاء ملاحظته، فكان ذلك الذي يطرحه فريش ذات صفحة كاتباً، "هل تراني متمسكاً حقاً بالحياة؟ إنني متمسك بامرأة على أية حال فهل يكفي هذا؟".

إبداع على الطريقة السويسرية

ماكس فريش الذي رافق القرن العشرين طولاً وعرضاً كان إلى جانب فردريك دورنمات، واحداً من كاتبين عرفا كيف يعيدان لسويسرا اعتبارها كأمة يمكنها أن تنتج مبدعين، وذلك بالتناقض مع ما كان يقوله عنها غراهام غرين، من أن سويسرا لم تنتج خلال 300 سنة من تاريخ ديمقراطيتها سوى "ساعة الكوكو". ومهما يكن فإن ماكس فريش ولد ابناً لمهندس من أصل نمسوي ولأم سويسرية رسامة، وكان في السادسة عشرة من عمره حين حاول كتابة المسرحية للمرة الأولى، فكتب مسرحية "فولاذ" التي بعث بها إلى ماكس رينهاردت فرفضها، لكن ذلك لم يردع كاتبنا الشاب، إذ سرعان ما عكف على قراءة ابسن ثم كتب مسرحية فكاهية عن الزواج. وفي الوقت نفسه تابع دراسته الجامعية فنال أولاً شهادة التخرج في الأدب الألماني، لكنه انصرف بعد ذلك إلى الصحافة، وبدأ يكتب القصص القصيرة التي عاد وجمعها تحت اسم "أحب ما يحرقني" (1943) ثم تحت اسم "جواب طالع من الصمت". لكنه بعد ذلك عاد ليدرس الهندسة المعمارية التي جعل منها مهنته حتى عام 1955.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على خطى بريخت

بالنسبة إلى المسرح، ظل ما يكتبه ماكس فريش بدائياً وتجريبياً ويشكل نشاطاً ثانوياً بالنسبة إليه، حتى كان لقاؤه ببرتولد بريخت ونمت صداقة بين الرجلين، انتجت لدى فريش رغبة في الكتابة للمسرح، ولكن للإذاعة ايضاً. وهكذا راحت تتتالى مسرحياته التي ترجمت وراحت تقدم على خشبات عديد من البلدان، ما ساعد فريش على تحقيق هوايته بالسفر والتجوال الدائمين. وهو كتب أكثر من 12 تمثيلية للمسرح والإذاعة، بالتواكب مع كتابته للمقالات واليوميات والروايات والقصص.

أول مسرحية كبيرة كتبها فريش كانت "سور الصين" التي سار فيها على خطى مسرح بريخت الملحمي، وقدم فيها شخصيات تاريخية تستخدم الأقنعة والأقوال المأثورة للتعليق على أحداث العالم التاريخية، وفي المقابل وضع فريش شخصية رجل معاصر، راح بدوره يعلق على ما تقوله الشخصيات ذات الأقنعة، ويحاول (عبثاً) أن يبدل من مجرى التاريخ. هذه العبثية المرتبطة بالدور البلاجدوى الذي يلعبه المثقف كانت على أي حال الهاجس الرئيس الذي طبع مواضيع كتابة فريش، إذا استثنينا مسرحيته الواقعية "فيما انتهت الحرب" (1948) التي تدور أحداثها في برلين إثر انفضاض الحرب العالمية الثانية.

أفلتت منه نوبل

الأشهر بين أعمال فريش كانت مسرحيات "بيدرمان" (1958) و"باندورا" (1961) وبخاصة "دون جوان أو عاشق الهندسة" (1953) التي يقدم لنا فيها دون جوان كعالم رياضيات لا وقت لديه يضيعه مع النساء، لذلك يحاول أن يهرب من الدور التاريخي المناط به، لكن النساء يطاردنه مع ذلك، فيجد في نهاية الأمر أن الزواج هو الطريقة الأفضل التي تمكنه من الهرب. أما آخر مسرحية كتبها فريش فكانت "سيرة" (1968) التي وصل فيها إلى ذروة تعبيره عن عجز الإنسان عن تغيير مسار حياته، بعد أن كان قد وصف في مسرحيات سابقة عجز ذلك الإنسان (لا سيما المثقف) عن تبديل مجرى التاريخ. عندما رحل ماكس فريش عن عالمنا، كان يعد واحداً من كبار كتاب المسرح الأحياء، على الرغم من قلة إنتاجه، وكان كثيرون يتنبأون له بأن تكون جائزة نوبل الأدبية من نصيبه ذات عام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة