Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد الحيّاني لا يزال نجم الغناء المغربي بعد ربع قرن على رحيله

صوت متفرد عاش زاهداً وبسيطاً والملك الحسن الثاني ردد أغانيه وبكى لرحيله

المطرب المغربي محمد الحياني على غلاف أحد ألبوماته (موقع المطرب على فيسبوك)

مر ربع قرن على رحيل المطرب المغربي المتفرد محمد الحيّاني (1996-1947)، ومرت أربعة عقود على أغنيته الجميلة "غابو لحباب". غاب جسد الحيّاني بعدما أنهكه المرض، قبل أن يكمل عامه الخمسين، غير أن صورته وصوته سيظلان حاضرين في ذاكرة محبيه وقلوبهم داخل المغرب وخارجه. كان الحياني يغني بسلطنة هائلة وبنخوة كبيرة، حتى أن وقفته الهادئة على خشبة المسارح كانت ترجمة لشخصه ولروحه ولأسلوبه ليس في الغناء فحسب، بل في الحياة عموماً. فقد عُرف بأناقته وهدوئه وجنوحه إلى الجمال.

 فتنه عالم الغناء باكراً، وجذبه إليه في السنوات الأخيرة من طفولته، إذ غادر المدرسة باكراً، في المرحلة الإعدادية، متعقباً الألحان والكلمات، مشدوداً إلى نماذج الطرب العربي الأصيل، ومفتوناً بالنصوص الشعرية الرفيعة، سواء التي كُتبت بالعربية الفصحى أو باللهجة الدارجة في المغرب. التحق في بداية شبابه بمعهد الموسيقى، واختار آلة العود، ثم عمل مع جوقة الإذاعة الوطنية، ليخرج بعدها من صف الكورال ويتقدم إلى المايكروفون بأغانيه الخاصة. كان الوحيد في عائلته الذي ولج عالم الفن، وقوبل خياره بالرفض، خصوصاً من لدن والده الذي قام بكسر العود الذي كان يعزف عليه ابنه.

 وخلال دراسته في المعهد تنبأ له الموسيقار عبد القادر الراشدي بمكانة كبيرة في الحياة الفنية، ما جعله لاحقاً يغدو بالفعل أحد الأسماء الأساسية في تاريخ الغناء في المغرب، وأحد أكثر الفنانين قرباً من محبي الأغنية المغربية المعاصرة.

انطلقت أغاني الحياني تتلمس طريقها في مغرب يعرف الخروج من التقليد، ويراهن على وصول أصواته إلى خارج البلاد، فذاعت أغاني الحياني الشهيرة "بارد وسخون يا هوا" و"وقت آش تغني يا قلبي؟" و"يا سيدي أنا حر" و"من ضي بهاك". ووجد الحيّاني أسلوبه الفريد في الغناء بالفصحى إثر لقائه بالملحن الكبير عبد السلام عامر الذي شاءت السماء أن تعوضه نعمة البصر بموهبة مضاعفة في التلحين. وشرع حينها في تقديم أولى أغانيه مع عامر، "قصة الأشواق" وأعقبتها "غنت لنا الدنيا" التي قدمها آنذاك على شكل فيديو كليب صُور بين القاهرة واليونان. ثم خرجت إلى الوجود سنة 1970 أغنيته الأشهر "راحلة" التي لحنها عامر أيضاً. وظل الجمهور على مدار ثلاثة عقود يطلب من الحياني أن يغني "راحلة" حيثما حل، حتى أن اسمه صار مرتبطاً بها.

الكلمات قبل كل شيء

 كانت الكلمات بالنسبة إلى محمد الحيّاني البوابة الأولى لكل أغانيه، فقد كان حريصاً على جودة النص أو ما كان يسميه أهل الميدان "القطعة". فالقطع التي أداها كانت في مجملها زاخرة بمقومات النص الشعري، من صورة وبلاغة وجماليات أدبية. يمكن التمثيل لذلك بأغنيته الأكثر تداولاً "راحلة" التي كتبها شاعر مشهور في المغرب هو عبد الرفيع الجواهري، ولحنها أسطورة التلحين في المغرب الراحل عبد السلام عامر، "وأنتِ قريبة، أحنُّ إليكِ، وأظمأ للعطر، للشمس في شفتيكِ، وحين تغيبين، يغرق قلبي في دمعاتي". لم تكن جودة الكلمات مرتبطة لديه بالقصائد الفصيحة فحسب، إذ يمكن تقديم نموذج آخر من أغنية باللهجة المغربية عنوانها "ما كاين باس"، كتبها الراحل علي الحداني أحد أشهر الشعراء الغنائيين في المغرب، "يا دموعي يا اغلى ما عندي، سيلي رخيصة ما كاين باس، حتى نذوب حتى يتقادى جهدي، ونولي دموع في عيون الناس"، ويمكن ترجمتها إلى الفصحى على هذا النحو، "يا دموعي، يا أغلى ما لدي، سيلي رخيصة فلا بأس، إلى أن أذوب وأتعب، وأغدو دموعاً في عيون الناس".

 عُرف عن الحياني أنه كان يرفض أن يؤدي أغاني كثيرة لا تتلاءم كلماتها وذائقَته الأدبية، على الرغم من الإغراءات المادية، خصوصاً مع مطلع التسعينيات، حين اجتاحت العالم العربي موجة "الأغاني الخفيفة". لم يكن صاحب "مستحيل" ليستسيغ هذه الخفة. لذلك عاش في المقابل وضعاً مادياً لا ينسجم وشهرتَه وحضوره في الحياة الفنية في المغرب.

صوت  بين الشجن والإشراق

 الكلمات التي كان ينتقيها الحياني لأغانيه يصقلها صوته الجميل والمختلف، فقد كان عشاقه يطلقون عليه لقب "عندليب المغرب"، والراجح أن الملك الراحل الحسن الثاني هو أول من ناداه بهذا اللقب، وإن كان تشبيه الحياني بعبد الحليم حافظ لا يضيف بالضرورة شيئاً إليه، هو الذي راهن على أن يكون له صوته الخاص وأسلوبه الفريد في الأغنية العربية المعاصرة. عبد الحليم أيضاً أعجب بصوت الحياني ورآه الأقرب إليه، بل إنه صرح أن صاحب "راحلة" هو من سيخلفه في عالم الغناء. كان الحياني يردد أغاني عبد الحليم في جلسات خاصة، لكن بلمسته وبأسلوبه. فلم يكن ثمة صوت يشبه صوته، ولم يكن ثمة في المغرب من يغني بطريقة الحياني وأسلوبه.

 يجمع صوت الحيّاني بين الشجن والإشراق، إنه صوت الابتهاج بالحياة، وهو في الآن ذاته صوت الالتياع بغدرها وخذلاناتها غير المنتهية. عبر صوته تصل المعاني إلى قلب المستمع وتقع منه موقعاً عميقاً، دون تكلف ودون الحاجة إلى وساطة تقنية. فطالما أمسك العود وشرع يعزف ويغني وحيداً، أو لجلسائه بصوت يخترق المكان، ويصل بكامل صفائه دون مكبرات صوت أو معدلاته. إنه صوت العاشق الأنيق الذي يعتد بذاته ويحافظ على أنفته. ثمة مسحة من الرصانة تغلف هذا الصوت، وثمة الكثير من الحكمة فيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 كان الملك الراحل الحسن الثاني معجباً كبيراً بأغاني محمد الحياني، وكان يردد بعضها معه في المناسبات التي يحتضنها القصر، وحين مرض الحياني تكفل الملك بعلاجه طيلة خمس سنوات، ويُروى أنه حين هزمه المرض وفارق الحياة بكى الملك وقال، "مات ابني".

 وعلى الرغم من قربه من القصر الملكي وعلاقته بالملك الراحل الحسن الثاني ومكانته لدى كبار المسؤولين في البلاد، لم يكن يستغل هذه "الحظوة" لتحقيق مآربه الشخصية. عاش زاهداً وبسيطاً، ولم يخلف بعد رحيله ما يخلفه عادةً معظم المشاهير. تروي ابنته الوحيدة حسناء، التي فارق الحياة وعمرها إحدى عشرة سنة، أنه كان كتوماً قليل الكلام، كثير السهر، كريماً ومحباً للخير، قارئاً لكتب الأدب والفكر، عزيزَ نفس وذا أنفة، وعلى الرغم من كثرة أصدقائه، لم يعد أحد يسأل عن أهله بعد رحيله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة