Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجوار الأفغاني ... والصراع على "التركة الأميركية"

باكستان وإيران والهند والصين وروسيا كل منها ينظر إلى كابول من زاويته الضيقة

الخروج الأميركي من أفغانستان حرك مخاوف وأطماع دول الإقليم (رويترز)

كشف القرار الأميركي بالانسحاب من أفغانستان والانهيار المتسارع الذي شهدته المنظومة الأمنية والعسكرية سواء التابعة للحكومة الأفغانية، أو تلك التابعة للقوات الأميركية أو حلف "ناتو"، عن وجود خلل كبير في إدارة واشنطن للأزمات خارج حدودها، خصوصاً في دول من خارج المنظومة الغربية في آسيا وأفريقيا، وفي مجتمعات تختلف في مكوناتها وآليات تعاملها عما هو سائد في الغرب.

 كانت النتيجة الأولى لهذا الدخول العسكري، ضرب التوازن الجيوسياسي القائم، كما حصل في العراق أو أفغانستان أو الصومال. وعندما تقرر واشنطن الانسحاب، فإنها تترك وراءها حالة من الفوضى والانهيار تجعل من الجهود والأثمان التي تكبّدتها خلال وجودها وسيطرتها العسكرية المباشرة، خسائر، تحاول لاحقاً البحث عن طرق لتعويضها، كما حصل في الصومال والعراق ماضياً ومستقبلاً، وفي أفغانستان حالياً.

لا شك في أن التدخل الأميركي العسكري في أفغانستان عام 2001 يُعتبر الأول من نوعه في عمق الجغرافيا الآسيوية، خصوصاً في المنطقة التي يصفها الاستراتيجيون الأميركيون بأنها "قلب العالم" أو "أوروآسيا". وهو دخول فرض عليها سلسلة من الإجراءات والخطوات العسكرية بإنشاء قواعد في عدد من بلدان هذه المنطقة، تحديداً دول آسيا الوسطى لتأمين هذا الوجود وتوفير الدعم اللوجستي.

وهكذا أقامت قواعد في باكستان ودول حوض بحر قزوين والقوقاز الجنوبي والبحر الأسود، وصولاً إلى بعض دول أوروبا الشرقية، التي سمحت بتوسيع نفوذها السياسي وتحوّلها إلى قوة أوروآسيوية فاعلة ومؤثرة، الأمر الذي رفع من مستوى الحذر والتوتر والقلق لدى دول تدخل في استراتيجية الاحتواء الأميركي في العالم كروسيا والصين وإيران.

نذر تهديد حقيقي

عودة الفوضى إلى أفغانستان بعد الخروج الأميركي، واستئثار "طالبان" بالسلطة وفشلها في الذهاب إلى شراكة فعلية في السلطة مع القوى الأفغانية الأخرى، ربما تحوّل هذا البلد إلى تهديد وأزمة حقيقية لكل المنطقة، وتعيد فتح هذه الساحة لنفوذ الجماعات المتطرفة كبقايا تنظيم "القاعدة"، وملاذاً آمناً لفلول تنظيم "داعش" الذي يسعى للانتقال إلى هذا البلد بعد الهزائم التي لحقت به في سوريا والعراق، بالتالي مصدر خطر وقلق لدول مثل الصين والهند وإيران وباكستان وحتى روسيا ومنظومتها الآسيوية.

وإذا ما كان النظام الإيراني ودوائر القرار والمؤسسة العسكرية (حرس الثورة) تعاملت بإيجابية مع عودة "طالبان" للسيطرة على أفغانستان، محاولاً وضع الانسحاب الأميركي في إطار الاستراتيجية التي تبنّاها المرشد الأعلى بإخراج القوات الأميركية و"ناتو" من منطقة غرب آسيا، إلا أنها وعلى الرغم من القلق الذي تستشعره جراء التداعيات المستقبلية لهذا المتغير، فإنها وضعت استراتيجية مرحلية وأهدافاً مباشرة في علاقتها مع "طالبان" والسلطة التي ستنبثق منها وتتولى إدارة أفغانستان، وهي استراتيجية تقوم على ثلاثة أبعاد.

المآرب الإيرانية

أولاً، تأمين الحدود المشتركة التي يصل طولها إلى أكثر من 900 كليومتر ومنع عمليات التهريب بمختلف أشكاله، البشرية والمخدرات.

ثانياً، استمرار عمليات التبادل التجاري وتأمين الطرق الدولية التي تصل إيران بالدول ما وراء أفغانستان، خصوصاً أن هذا البلد يُعتبر شريكاً تجارياً واقتصادياً متقدماً لطهران تتعدى عائداته 3 مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن أنه يُعتبر مستورداً مهماً للمشتقات النفطية.

ثالثا، التزام "طالبان" عدم التعرّض للجماعات الشيعية في مناطق انتشارها، وهي سبق أن أبلغت هذه الجماعات والتشكيلات الموالية لها بأنها لا تدعم أي تحرك عسكري أو مواجهة مع الحركة، واعتبرت عبر مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية أن أي صراع بين "طالبان" وأبناء قومية الهزارة الشيعية هو صراع قومي لا علاقة له بأي صراع مذهبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا ما استطاع النظام الإيراني التوصل إلى تفاهم مع قيادة الحركة على هذه النقاط الثلاث لاستراتيجيته قصيرة الأمد في التعامل مع تداعيات الانسحاب الأميركي، فإن ما بعد هذه المرحلة ربما تشكّل قلقاً وتحدّياً حقيقيين في المستقبل، خصوصاً ما يتعلق بمفاعيل الدخول التركي ونفوذه على الحدود الشرقية لإيران من بوابة التفاهم الذي يسعى للتوصل إليه مع "طالبان" حول إدارة مطار كابول وما يعنيه ذلك من إمكانية أن تلجأ أنقرة إلى استخدام هذا الدور لتسهيل عملية نقل وانتقال الجماعات المتطرفة (تحديداً السورية) التي تدور في الفلك التركي والتي سبق أن استخدمتها في الحرب الذي وقعت بين أذربيجان وأرمينيا، وما يمكن أن تشكّله من مصدر خطير على المصالح الإيرانية في هذا البلد أو عبره. بالتالي ما ربما يوسع دائرة التنافس بين طهران وأنقرة لتشمل أفغانستان إلى جانب لبنان وسوريا والعراق وحدودها مع القوقاز الجنوبي مع أرمينيا وأذربيجان.

الارتياح الباكستاني ممزوج بمخاوف

وإذا ما كانت باكستان تبدو الطرف الأكثر ارتياحاً للتطورات الأفغانية وتغلّب "طالبان" على السلطة على حساب حكومة الرئيس المشرّد أشرف غني، فإن ذلك يعود إلى أن مرحلة ما قبل الحركة شهدت توترات كثيرة بين كابول وإسلام آباد على خلفية اتهام الأخيرة لحكومة كابول بدعم الجماعات المتطرفة التي تنشط وتهدد الأمن الباكستاني.

لكن على الرغم من هذا الارتياح النسبي الباكستاني، وإمكانية حصول تفاهم بينها و"طالبان" في المرحلة المقبلة، فإن قلقاً من نوع آخر يسيطر على دوائر القرار في إسلام آباد، ويدور حول المخاوف من إمكانية أن تعود جماعات "طالبان الباكستانية" إلى التحرك داخل البلاد وخلق بؤر توتر في المناطق الحدودية مع أفغانستان، بخاصة في إقليم وزيرستان الذي تغلب عليه قومية البشتون التي تُعتبر الحاضنة القومية لجماعة "طالبان" على طرفي الحدود.

وربما تعتبر باكستان التغيير الحاصل في كابول أبعد وأنهى التهديد الذي مارسه الرئيس غني وإدارته في منع إسلام آباد من الاستثمار داخل الأراضي الأفغانية وتوسيع خطوط الربط بينها وبين دول آسيا الوسطى في إطار الشراكة مع الصين ضمن مشروع "طريق واحد حزام واحد" أو إحياء طريق الحرير التاريخي، وقد يكون هذا الأمر بين الأولويات التي سيبحثها وزير الخارجية الباكستاني في جولته التي ستشمل إيران وتركمنستان وأوزبكستان وطاجيكستان.

استسلام الهند غير وارد

 في المقابل، فإن اللاعب الهندي لن يقف مكتوف الأيدي أمام تداعيات هذه التطورات والمتغيرات، خصوصاً أنه كان يُعتبر حليفاً لإدارة غني وحكومة ما قبل "طالبان"، في إطار محاصرة الدور الباكستاني السياسي والاقتصادي في شراكته مع الصين وسعيه ليكون محور الاتصال بين شبه القارة الهندية ومنطقة غرب آسيا وصولاً إلى الشرق الأوسط وأوروبا، إن كان عبر الممرات البرية، أو من خلال الدور الذي من المنتظر أن يلعبه ميناء "غوادر" على سواحل المحيط الهندي.

 يأتي ذلك في وقت يعتقد الهنود أن مصالحهم الاستراتيجية تقع في دائرة التهديد لما يتركه ذلك من تأثير سلبي في مشروع بلادهم الاستثماري في ميناء "تشابهار" الإيراني، الذي من المفترض أن يكون منافساً لميناء "غوادر" ومنفذاً يربط بين نيودلهي والخطوط الآتية من روسيا وآسيا الوسطى والقوقاز عبر الأراضي الإيرانية، الأمر الذي دفع المسؤولين الهنود إلى الحديث عن إمكانية استبعاد أفغانستان عن هذا المشروع.

ماذا عن الصين وروسيا؟

دائرة تأثير المتغير الأفغاني لا تقتصر على هذه الدول الثلاث، بل تعتبر جزءًا من دائرة أوسع تشمل الصين وروسيا بشكل أساسي، ولعلّ هذين البلدين إلى جانب إيران الأكثر تأثراً سلباً بهذا المتغير في المدى الطويل، على الرغم من المكاسب المباشرة والمرحلية التي حققتها نتيجة ما تصفه بـ "هزيمة أميركية".

 هذه الدول جميعاً ترتبط بسلسلة مصالح وأهداف متباينة بشكل كبير، من الممكن أن تصل حد التضاد والتعارض، ما من الممكن أن يفرض على كل دولة منها التعامل مع هذه المستجدات بمرونة عالية تأخذ في الاعتبار مصالحها القومية والاستراتيجية الخاصة ولا تضرب أو تؤثر سلباً في مصالح الدول الأخرى، إذا أرادت ألا تدخل هذه المنطقة في دائرة صراعات دموية من جديد، لن يكون فيها رابح على حساب الآخرين، بالتالي تسمح لواشنطن باستعادة المبادرة وترميم ما لحق بها من إرباك نتيجة قرارها بالانسحاب من هذه المنطقة بهذا الشكل والأسلوب، واضطرارها إلى عقد اتفاق مع جماعة جاءت قبل عقدين من الزمن لاقتلاعها ومحاربتها والقضاء عليها.

المزيد من تحلیل