من المبكر الحديث عن تعافي بيروت وناسها، فبعد مرور عام على انفجار الرابع من أغسطس (آب) 2020، تضاعفت معاناة المواطنين المادية والنفسية، بفعل اجتماع عوامل عدة، من أزمة اقتصادية خانقة، إلى انهيار سعر صرف العملة الوطنية، وبلوغ الطريق المسدود على المستوى السياسي وتشكيل حكومة جديدة تتولّى الإصلاحات.
في الأثناء، تبرز تساؤلات حول السبل لتخفيف تلك المعاناة، للوهلة الأولى ربما يبرز الحديث عن عملية تعويض المتضررين سواء من قبل الدولة أو مساعدات المجتمع الدولي، ولكن لا يمكن إغفال ضرورة تنفيذ شركات التأمين لواجباتها التي التزمت بها ضمن عقود التأمين.
وفي الحالتين، يتوقف مصير ملف التعويضات على تأمين الموارد المالية الكافية لبدء عمليات إعادة الإعمار وتغطية الخسائر التي يقدّرها الخبير في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين بـ 4.5 مليار دولار، فيما تعتقد جهات رسمية أنها تبلغ 5 مليارات دولار، ومن جهة ثانية صدور القرار الظني في جريمة تفجير المرفأ الذي تتذرع به الشركات، انطلاقاً من أنه سيتضمن وصفاً لما جرى في ذاك اليوم المشؤوم، بالتالي سيحدد إذا كنّا أمام استهداف مقصود، أو حادث نتج من تقصير وإهمال.
من يعوضنا؟
بعد عام، عاد ناجي غلام إلى الجميزة لتفقّد مؤسسته ومنزله المدمرين. بالنسبة إليه، لم يتغيّر شيء، باستثناء إزالة الركام من الشارع. يتحسّر على فقدان جنى العمر، الذكريات، والمخططات المستقبلية، فالمحل تدمّر، ومقفل منذ عام، وكذلك المنزل الذي تساقطت أركانه على رؤوس أطفاله الأربعة.
يؤكد الشاب أنه لم يتلقّ أي مساعدة، ولم يُرمّم شيء من قبل الدولة اللبنانية، أو المؤسسات غير حكومية التي "ساعدت بعض الجيران وأصحاب المحال المجاورة". يشير إلى أن "أكثر من سبع مرات جاؤوا لتسجيل البيانات، كان لدينا شعور بأن شيئاً لن يتبدّل، لأن العملية لم تكُن منظمة".
يمثّل غلام شريحة كبيرة من سكان الأحياء الأكثر تضرراً، فهي "لا تمتلك عقود تأمين مع شركات، لأنها لم تتخيّل بأنها ستتعرّض لانفجار نووي في يوم من الأيام"، لذلك تعوّل على خطوات إيجابية تتولاها الدولة.
ويجزم أن العائلات غير قادرة على ترميم منازلها ومؤسساتها، لأنها "تعاني من أزمة سعر صرف الدولار، فمن أين لهم تأمين مبلغ عشرين أو ثلاثين ألف دولار فريش للترميم الأوّلي"، وكذلك "من يمتلك رصيداً مصرفياً، أصبح محتجزاً لدى البنوك ويُصرف له لقاء مبالغ ضئيلة جداً بالعملة الوطنية".
ويشير إلى مساهمات دولية في ترميم بعض الأبنية التراثية المجاورة للحفاظ على طابعها، وتقديم بعض المساعدات العينية كتجهيز المحال، ولكن هذه الإجراءات لم تشمل الجميع.
قصة غلام وعائلته ليست يتيمة، وإنما تتكرر على ألسنة الناس في المناطق المتضررة بصورة مباشرة، وبحسب تقرير المسح الذي أجرته نقابة المهندسين في أعقاب الانفجار وشمل 3040 عقاراً، تضم نحو 2509 مبانٍ، في مناطق الكرنتينا والمدور والمسلخ والبدوي والرميل ومار مخايل والجعيتاوي والسراسقة ومار نقولا والجميزة والصيفي والمرفأ، وبمساحة بلغت مليونين و843 ألف متر مربع، أظهر فداحة الأضرار التي طاولت المباني في المناطق المواجهة للمرفأ، تحديداً التراثية منها.
المؤسسات المؤمنة تنتظر
ما يصلح على المنازل، كذلك يصلح على المؤسسات التي ترتبط بعقود تأمين مع شركات ضامنة، وتؤكد أوساط مؤسسات صحية وإعلامية كبرى متضررة أنها لم تقبض شيئاً من شركات التأمين، وهي ما زالت تنتظر الاستحصال على مستحقاتها.
لذلك ومن أجل تأمين استمرارية العمل، لجأت إلى ترميم ما يمكن ترميمه على نفقتها الخاصة. وعلى ضفة شركات التأمين، بدأ عدد قليل من الشركات بتعويض زبائنهم بصورة جزئية، في حين تنتظر الغالبية العظمى منهم القرار الظني لقاضي التحقيق طارق البيطار، لأنه في حال ثبت أن الانفجار ناجم عن عمل تخريبي، فإن الشركات المرتبطة ببوالص تأمين عادية لن تلتزم تغطية الأضرار الناجمة عن هذه الفرضية. هذا التأخير كان دفع وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال راوول نعمة إلى الطلب من البيطار ووزيرة العدل ماري كلود نجم، إصدار تقرير رسمي يستبعد الأعمال الإرهابية والحربية من بين الأسباب التي أدت إلى الانفجار، وهو أمر عرّضه لانتقادات لاذعة. كما طالب بعض الأحزاب السياسية القاضي البيطار بالتعجيل بإعلان نتائج التحقيق من أجل صرف التعويضات للمتضررين.
عقود التأمين
تدفع عملية الربط هذه بين وضع عقود التأمين موضع التنفيذ، وصدور القرار القضائي للحديث عن مدى صدقها من وجهة النظر القانونية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد المحامي بول مرقص، رئيس منظمة "جوستيسيا" الحقوقية أنه "لكي تنفذ شركة التأمين موجباتها، لا بد من تحرّي السبب المؤدي للحادث، وتحديد إذا كان عملاً إرهابياً أم لا؟"، مضيفاً أن "ما يحدّد طبيعة هذا العمل هو القرار القضائي ولغاية اليوم لم يصدر قرار يوصّف ما حدث في 4 آب". لذلك، يكتسب توصيف العمل الذي أدى إلى الانفجار أهمية كبرى لناحية التزام شركات التأمين التعويض من عدمه، ويتوقف التعويض على "الوصف الجرمي للحادث في القرار الظني".
في المقابل، يرفض مرقص الدعوات للإسراع في التحقيق، لأن "القضاء لا يستعجل بتحقيقاته تحت أية أسباب أو معطيات خارج إطار التحقيق، ويجب أن يستغرق الوقت الكافي لبلوغ الحقيقة. من هنا، لا يمكن إخضاع التحقيقات لأي ضرورة أو حاجة معينة"، مستدركاً "ولكن عدم الضغط على القضاء، لا يجب أن يُفهم منه عدم وصول هذا الأخير إلى نتيجة إلا بعد سنين طويلة".
وعما إذا كان بإمكان الشركات المماطلة إلى حين صدور القرار، يجيب مرقص "نعم، للأسف ممكن التذرع بهذا السبب".
الشركات ولعبة المخاطر
لا تتوقف برأي بعض الخبراء عملية التأخير في دفع التعويضات على صدور القرار الظني، وإنما تتجاوزها إلى "تشابك المصالح مع القطاع المصرفي".
وتشير الخبيرة في القانون المصرفي سابين الكك إلى أن "شركات التأمين هي جزء من منظومة المؤسسات المالية، وتلعب دوراً في التمويل والاستثمار"، مسلطةً الضوء على أن "الأزمات المصرفية ترتبط بأزمة في قطاع شركات التأمين، وهذا ما حدث فعلياً بالنسبة إلى أزمة 2008 العالمية التي أدت إلى إفلاسات كبيرة".
تتحدث الكك عن أن "شركات التأمين متورطة بسندات اليوروبوندز، لذلك فإن هناك أزمة سيولة لديها، إلى جانب الأزمة التشغيلية، بسبب عدم القدرة على الوفاء بالتزامات إعادة التأمين في الخارج بالدولار الفريش".
وتعتقد الخبيرة المصرفية أن هناك مشكلة في إدارة المخاطر لدى الشركات المالية والتأمين، بسبب التفتيش عن زيادة الأرباح. وتقرّ الكك بأن هذه المخاطر "احتمالية"، ولكنها تطالب في المقابل بالتزام المؤسسات المعايير الدولية لمواجهة الأزمات وتأمين واجباتها تجاه الضامنين والدائنين، و"أن تُرصد سيولة واحتياطات مقابل كل توظيف، إضافة إلى تنويع التوظيفات، والتزام معايير الشفافية لاستعادة الأموال التي تستثمرها في مشاريع أو سندات سيادية"، وفي الدور الوسيط الذي تلعبه خلال توظيف أموال الضامنين بصورة متنوعة لدى الشركات الاستثمارية وشركات إعادة التأمين.
تجيب الكك عن الطرح الذي يضع انفجار بيروت في مصاف "القوة القاهرة"، "بالتأكيد أن انفجار مرفأ بيروت هو حالة استثنائية، ولكن ذلك لا ينفي أن هذه الشركات كانت في وضع ماليّ سيّء في المرحلة التي سبقت حدوثه"، كما أنه "يجب أن ندقق إذا رصدت هذه الشركات لاحتياطات في موازنتها لمواجهة ما يحدث في بلد معرّض لخضّات وانفجارات وحروب واغتيالات".
أمام هذا الواقع المأزوم في مجال التحقيقات والتعويضات، أصدر مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت تقريراً بشأن مسارات التحقيق على الصعيدين المحلي والدولي، تضمن انتقاداً صريحاً لغياب آلية واضحة في ميدان التعويضات واكتفاء الدولة بتعويضات رمزية لبعض المتضررين وعدم شموليتها في ظل ارتفاع تكاليف العلاج والترميم.