لم ينجُ أيّ من مباني بيروت من زلزال 4 أغسطس (آب) المدمر، إذ تضررت كلّها بدرجات متفاوتة، سواء التي بُنيت حديثاً أو تلك التي يعود بناؤها إلى أكثر من 150 سنة. يُقدّر عدد الأبنية المتضررة بعشرات الآلاف، منها 650 أثرية يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، وتركزت معظمها في مناطق الجميزة ومار مخايل والأشرفية والجعيتاوي على مقربة من موقع الانفجار. شهدت هذه الأبنية حروباً كثيرة استطاعت أن تقف بوجهها، إلا أن انفجار مرفأ بيروت لا يشبه كل ما مرّ سابقاً، فلم تصمد أمامه. مشهد الدمار مرعب، فقد تحوّلت تلك المباني التراثية التي كانت أشبه بلوحات فنية لم يدمرها الزمن ولا مصالح البعض ولا الحروب، إلى حطام يُغرق مدينة بيروت اليوم في حزن واضح بعد الانفجار المدمر.
معالم تاريخية شوهها الانفجار
لطالما كانت بيروت نقطة التقاء ثقافي وحضاري، مما انعكس على عمرانها. وترك تاريخها المتنوع ثقافياً أثراً واضحاً في مختلف زواياها بعد أن تعاقبت عليها حضارات عدة. لكن ذلك اليوم الذي لن يُمحى من ذاكرة اللبنانيين، أتى ليشوه المعالم التاريخية والثقافية بكل ما فيها من تعددية. في لحظة واحدة تبدل جمال بيروت بالسواد والحزن والدمار.
المباني المتضررة بالعشرات لا بل بالمئات، لكن الأضرار التي لحقت بباقة منها تعكس حجم الكارثة التي حلّت بالمدينة، سنشرح في ما يلي أبرزها.
قصر الليدي كوكرن
بني قصر سرسق، أحد أقدم أبنية بيروت وأبرز معالمها، في حقبة ما بين الحكم العثماني في لبنان والانتداب الفرنسي أي بين عامي 1860 و1870. وتملكه منذ ذاك الوقت، عائلة سرسق البيروتية الأرستقراطية ولا تزال تعيش فيه إلى اليوم. وكانت صاحبة القصر الليدي إيفون سرسق كوكرن (98 سنة) تجلس في إحدى الغرف عندما سقط عليها الزجاج فتعرضت لإصابات عدة. وكانت تلك المرأة من أوائل الذين وقفوا بوجه محاولات تشويه التراث اللبناني عبر بناء مبانٍ عالية في المنطقة حيث شُيّد القصر. وهي مؤسِسة جمعية APSAD للحفاظ على المواقع الطبيعية والمباني الأثرية. مرّت على القصر المؤلَف من 3 طبقات، حربَان عالميتَان والحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت نحو 15 سنةً، بحسب مديرة القصر جيسيكا مقدسي، فبقي صامداً. أما ما تعرّض له في انفجار مرفأ بيروت فمختلف تماماً، والأضرار التي فيه اليوم أسوأ عشر مرات من كل ما تعرض له سابقاً. أُصيب القصر بتصدعات كثيرة في السطح والواجهة الخلفية المطلة على البحر، وباتت أقسام عدة منه مهددة بالسقوط. ويجري العمل حالياً على تدعيمه بشتى الوسائل حفاظاً على ما بقي سالماً منه. كما أزيل قسم من القرميد للتخفيف من العبء عن هيكل القصر قبل فصل الشتاء. وانهارت أسقف غرف عدة في القصر، خصوصاً في الطابق العلوي. وتشير مقدسي إلى التحف الفنية التي دُمرت، والأثاث المستورد خصيصاً من إيطاليا ومنه ما يعود إلى العهد العثماني. ثمة غرف لا يمكن الدخول إليها حتى اللحظة لأنها مهددة بالسقوط والقصر لم يعد قابلاً للسكن. علماً أن الأعمال تجرى على مستوى فردي على الرغم من تصنيفه كموقع للتراث الثقافي. فيقوم أصحابه بشكل فردي بأعمال التنظيف والصيانة حفاظاً على هذا الإرث.
متحف سرسق
متحف سرسق، هو قصر أثري لبناني بناه نقولا سرسق عام 1910 في مقابل قصر سرسق العريق، وبعد وفاته عام 1952، وهب المالك القصر إلى بلدية بيروت طالباً في وصيّته تحويله إلى متحف للفنون الحديثة وأن يشرف عليه رئيس بلدية بيروت وتدير شؤونه شخصيات بيروتية عريقة، وبين عامي 1953 و1975 استقبل القصر ملوكاً ورؤساء زاروا لبنان، وتحوّل إلى متحف عام 1961 بناء على طلب مالكه.
يضم المتحف تحفاً ولوحات ومقتنيات ثمينة وأعمالاً فنية نادرة، طوال السنوات الماضية نظّمت فيه معارض وأنشطة ثقافية وأدبية عديدة لفنانين من لبنان والعالم، وتعرّض المتحف في انفجار مرفأ بيروت إلى اضرار جسيمة طالت البنيان وايضاً المقتنيات واللوحات والمجسمات التي فيه، وثمة لوحات تعرّضت إلى أضرار يصعب إصلاحها، وساعدت عملية تدعيم هيكل القصر وتحديثها قبل أعوام، في منع تهدمه أثناء الانفجار.
وتعتبر الخسائر ضخمة في هذا المتحف الوحيد للفن المعاصر في لبنان وثمة أعمال ترميم طويلة الأمد يجب القيام بها، ويحرص القيّمون على هذا المتحف، حالياً، في ظل الغياب الرسمي، على إنقاذ هذا المعلم الثقافي والتاريخي.
مستشفى القديس جارجيوس-الروم
يعود تشييد "مستشفى الروم" في منطقة الأشرفية إلى عام 1878. كان حينها عبارة عن 10 أسرّة ثم توسّع تدريجياً إلى أن أصبح يضم أكثر من 400 سرير. للمستشفى تاريخ عريق في تعليم الأطباء، حيث كان يمكن أن يدرب أكثر من 200 طبيب مقيم و150 طالب طب، كما يستقبل طلاب جامعات البلمند والجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية. وتقول رئيسة قسم غسيل الكلى في المستشفى، الدكتورة سابين كرم، إنه "المستشفى الوحيد المجهَز لاستقبال مروحيات على سطحه لنقل مرضى، وهو الوحيد المتعاقد مع قوات الأمم المتحدة العاملة في جنوب لبنان UNIFIL لاستقبال مصابيهم ومرضاهم". كما يتميز بكونه أحد المستشفيات الثلاثة الوحيدة في لبنان المجهز بقسم عناية فائقة لحديثي الولادة، وأحد المستشفيَين الوحيدَين المجهزَين بقسم خاص لغسيل الكلى للأطفال.
ولأن المستشفى يقع على تلة في المنطقة، على مسافة 0.9 كيلومتر من المرفأ، أصابه دمار شامل بمختلف أقسامه. وتوفي 3 مرضى كانوا على جهاز التنفس بعد انقطاع الكهرباء جراء الانفجار. كما توفيت 4 ممرضات و4 زوار لمرضى. الأذى الأكبر كان سببه بحسب الدكتورة كرم، الألومينيوم الذي تساقط، في حين أن الزجاج المستخدَم في المستشفى هو من النوع المدعم بشكل يمنع تكسره إلى أجزاء تؤذي. كل الأقسام متضررة باستثناء تلك التي تقع تحت الأرض. وتضرر المستشفى بنسبة 80 في المئة، مما يفسّر توقفه عن العمل واستقبال المرضى، بينما تصل كلفة عمليات الترميم إلى 40 مليون دولار. وتقول كرم إنه "على الرغم من ذلك بدأنا عمليات تصليح الأضرار، ومن المتوقع أن نبدأ باستقبال المرضى في العيادات الخارجية بشكل محدود وفي قسم الطوارئ والمختبر والأشعة. كما يجري العمل على تجهيز قسم غسل الكلى في مكان آخر لاستقبال المرضى في أواخر الشهر الحالي. وقد نبدأ قريباً بإجراء العمليات الجراحية الصغيرة".
فيلا ليندا سرسق
تمتاز الفيلا بالعمران الذي كان سائداً في عام 1840 بقناطرها الداخلية والخارجية فشكلت آنذاك علامة فارقة في الهندسة اللبنانية. للفيلا حيث تُقام أهم الحفلات والمعارض البيروتية منذ عام 2013، طابع شرقي بامتياز، بألوان لافتة، خصوصاً في الداخل حيث الأرضية الرخامية البيضاء مطعمة بالأسود تزيّن صالة الاستقبال، إلى جانب الديوان الكبير، بركة رخامية ونافورة تعكس الطراز الشرقي التقليدي الموجود في مختلف زواياها وبشكل خاص في التحف والقطع الأثرية النادرة. ألحق الانفجار أضراراً كبيرة في مختلف أنحاء الفيلا سواء من الخارج حيث تكسرت كل النوافذ الخشبية أو الداخل بعد ما دُمّر سقفها وتضرر الخشب والجدران والتحف التي تضمها.
جامع محمد الأمين
يقع في وسط ساحة الشهداء في وسط العاصمة اللبنانية، ويُعتبر أحد أضخم مساجد لبنان، بمساحة لا تقل عن 10700 متر مربع. شُيّد أولاً في عام 1853 بقسمه الأول. وصُمم وفق الطراز العثماني واللبناني بزخارف وتفاصيل معمارية خاصة بالأسلوب المملوكي. له 4 مآذن وقباب زرقاء اللون، ويعرف لذلك أيضاً بـ"الجامع الأزرق". على إثر الانفجار تعرّض الجامع لأضرار كثيرة في الباحة الخارجية حيث تساقطت الأسطح، وأيضاً في الداخل حيث تكسر الخشب والزجاج فيه بشكل كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس
تُعتبر من أقدم الكنائس في بيروت. بُنيت على أنقاض كنيسة رومانية قديمة في عام 450 على قرب من مدرسة الحقوق الرومانية. دُمّرت في الزلزال الذي ضرب بيروت في عام 551 ثم أُعيد بناؤها في القرن الثاني عشر. دُمرت مرة أخرى بزلزال عام 1759، وبعد ما انهارت بعد 3 سنوات أُعيد بناؤها بشكلها الحالي عام 1772 بثلاث مذابح. وُسعت مجدداً في عام 1904. تعرضت لأضرار في مراحل عدة في الحرب الأهلية ثم أُعيد ترميمها مع متحف في أسفلها، يضم فسيفساء ومدافن قديمة. زيّنت الكاتدرائية أيقونات مصنوعة من خشب الجوز المغطى بالذهب وتضم أيقونات تعود إلى القرن الثامن عشر. وأدى انفجار المرفأ إلى تدمير جزئي فيها وتحديداً في الواجهة الأمامية. كما دُمّرت الأيقونات الأثرية فيها.
لحظة دمرت تاريخاً وثقافة
عشرات المباني الأثرية تضررت بدرجات متفاوتة في يوم الانفجار فتركت أصحابها في حزن عميق. تحوّلت جدرانها المزخرفة بنوافذها الملونة وقناطرها إلى ركام. أتت لحظة لتمحو الذاكرة والتراث وتحدث شرخاً بين الماضي والحاضر. وإذا كان بين هذه المباني ما لم يدمره الانفجار، ثمة عشرات منها مهددة بالسقوط في أي لحظة إثر التصدّع الناتج عن قوة الانفجار. ولأن هذه المباني هي الوجه الثقافي لبيروت الذي لا يمكن التخلي عنه حفاظاً على هويتها، انطلقت مبادرة حفاظاً، لا عليها فحسب، بل أيضاً على النسيج الثقافي والاجتماعي في المنطقة. ويقول المهندس المعماري الاختصاصي في ترميم الأبنية التراثية من أكثر من 20 سنة، فضلو داغر عن المبادرة، "تتركز أهم كثافة عمرانية تراثية في هذه المناطق القريبة من موقع الانفجار وهي الأكثر تضرراً كالجميزة ومار مخايل والأشرفية والجعيتاوي والرميل. في هذه المناطق نسيج عمراني وتراثي وثقافي لا يمكن التخلي عنه".
تجمع المنطقة أبنية تعود إلى الحقبة الممتدة من أواخر عام 1860 وحتى عام 1920، التي تعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي، ثم الأكثر حداثة من فترة الاستقلال وما بعده والتي تتميز بالعمران الحديث، وتعكس وجه لبنان المعاصر نسبياً، مثلما هي الحال بالنسبة إلى مؤسسة كهرباء لبنان.
يميز داغر بين الأسلوب العمراني المرافق لكل من الحقبات، فيتميز ذاك السائد في المرحلة الأولى مع العثمانيين بالشكل المربع للمبنى مع قناطر في أعلاه وقرميد. وطغى استخدام الحجر والخشب حينها. أما في مرحلة الانتداب الفرنسي، فتبدو القناطر في الوسط، كما أُدخل الإسمنت في البناء، ليصبح لاحقاً استخدام الإسمنت أساسياً في العمران الحديث.
ومن ضمن هذه المبادرة التي تعمل على الحفاظ على الثروة البيروتية، انضم مهندسون وخبراء وضعوا أنفسهم في خدمة مديرية الآثار ووزارة الثقافة لإحصاء الأضرار والقيام بمسح شامل. ورُكز في هذه المرحلة على إسعاف المباني التراثية المهددة بالسقوط جراء تصدعها في الانفجار، وعمرها أكثر من 150 سنة. وقال داغر "تهدم القرميد في هذه المباني. نعمل سريعاً قبل قدوم فصل الشتاء على تدعيمها واستخدام الشوادر والأسقف الحديدية لحمايتها، علماً أن المباني المواجهة لمرفأ بيروت هي الأكثر تصدّعاً بسبب عصف الانفجار. استطعنا إنقاذ قسم منها بمساعدة مقاولين لبنانيين من دون مقابل".
وتتعاون الجمعيات والأفراد على مسح الأضرار وحماية الأبنية التي دُمرت جزئياً من السقوط، وذلك بالتعاون مع جهات خارجية تعد بتقديم المساعدة والدعم، منها فرنسا التي عبّرت عن حرصها على هذا الإرث الذي يشكّل وجه بيروت الثفافي.
وتبرز الحاجة، وفق داغر، إلى المواد الأساسية للمباني التراثية، كالحجر الرملي الذي يفترض استيراده من اللاذقية وخشب الأرز الذي يجب استيراده من تركيا في غابات تُزرع منذ 50 سنة لذلك الهدف. لكن الهم الأساسي اليوم، بحسب داغر، هو "الحفاظ على أهالي المنطقة في بيوتهم وتسكير الوحدات السكنية ليمكثوا فيها. فالهدف هو التصدي لأي مشروع يمكن أن يؤدي إلى إخلاء المنطقة من أهلها والتأسيس لما لا يشبه الوجه الثقافي والحقيقي لبيروت. ثمة سباق مع الوقت اليوم لمنع هجرة أهالي المنطقة، خصوصاً بغياب أي دعم من الدولة اللبنانية". ويأمل داغر في تمويل خارجي لإنقاذ هذا النسيج الثقافي والاجتماعي والاقتصادي "لأن قطاعاً كاملاً بات مهدّداً اليوم بما حصل".
وتوضح المستشارة السابقة في وزارة الثقافة والخبيرة في الشؤون الثقافية لين الطحيني أن المبادرة تتم بالتعاون بين المجتمع المدني والمؤسسة الوطنية للتراث ومديرية الآثار ومحامين ومشاركة السفارة الفرنسية، ويسهم فيها خبراء من مختلف المجالات وخبراء محاسبة من الخارج. فالمسائل المعنية كثيرة وثمة حاجة إلى خبرات عدّة للإحاطة الشاملة بها.