Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هشام الخشن يستعيد حكاية الأميرة نازلي ويرفع عنها الظلم

رواية "بالحبر الأزرق" تعيد كتابة تاريخ أسرة محمد علي

الأميرة نازلي فاضل وحكايتها الملتبسة (الدار المصرية اللبنانية)

في أحداث انسجم فيها الواقعي مع المتخيَّل، استطاع الكاتب هشام الخشن في روايته "بالحبر الأزرق" (الدار المصرية اللبنانية) أن يشرّع باباً عبر الزمن يتسلل منه ليستعيد حقبة ثرية من التاريخ. تلك التي شهدت أطماعاً دولية وتنافساً استعمارياً، خصوصاً بين تركيا "مقر الخلافة العثمانية" وبريطانيا العظمى التي كانت تسعى سعياً حثيثاً – في ذلك الوقت- إلى مد نفوذها وسيطرتها، على مناطق متفرقة من العالم، لا سيما مصر.

لم يكتفِ الخشن ببث الحياة في التاريخ وإعادة إنتاجه مرة أخرى. وإنما بث حياة أخرى في تقنيتَي الرسائل والمذكرات، واتخذ منهما معاً قالباً للسرد. وكان الطابع التاريخي للأحداث وسيلة الكاتب الآمنة للخروج من مأزق "الواقعية"، التي تسبّبت في الابتعاد عن استخدام الرسائل الأدبية كأسلوب للسرد، بعدما اندثرت، وبات استعمالها معلماً من معالم الماضي، نتيجة التقدم التكنولوجي، الذي أزهق روح الحبر والقلم.

حبكة متقنة

تنطلق أحداث الرواية من لندن، ثم يتجول الكاتب عبر شخوصه في كل من القسطنطينية وباريس ومصر، متخذاً من إحدى الشخصيات المحورية "ليديا ستون" التي تولّدت من رحم خياله، جسراً يصله بالواقع، ليطأ تاريخاً حقيقياً، طوّع أحداثه عبر حبكة متقنة في قالب سردي. فرصد من خلاله ملامح حقبة شديدة الأهمية، تغيرت خلالها موازين القوى العالمية، وشهدت أحداثاً وتحولات سياسية واجتماعية كبيرة في الشرق والغرب. كذلك كانت "ستون" وسيلة الكاتب للاقتراب من إحدى الشخصيات، التي أغفلها التاريخ، على الرغم مما لعبته من دور تنويري وسياسي خطير. وهي شخصية الأميرة نازلي فاضل، ابنة مصطفى بهجت فاضل، الأخ غير الشقيق للخديوي إسماعيل وولي عهده، الذي تعرّض لغبن أخيه وحُرم من ولاية العهد، بعد أن قام إسماعيل بتغيير نظام الحكم، لتنتقل السلطة منه إلى ابنه، وكانت تنتقل قبل ذلك إلى الأكبر عمراً من أبناء الأسرة.

صوتان للسرد بثَّهما الكاتب في بنائه الروائي عبر زمنين متوازيين؛ الأول لشخصية "سيدني بويد"، الموظف في مكتب الخدمة السرية في لندن، خلال عام 1914، عبر مفكرته. والثاني صوت "ليديا ستون"، عبر رسائلها إلى هنري، من عام 1869 – 1914.

وعلى الرغم من توازي الخطين، لم ينتهج الكاتب نسقاً زمنياً منتظماً، لا سيما في الأحداث التي تدفقت في رسائل "ستون"، وإنما عمد إلى اللعب بالزمن وتغيير إيقاعه بممارسة التقديم والتأخير، والاستباق بأحداث وإرجاء أخرى، بهدف الإمساك بتلابيب القارئ والعزف على أوتار التشويق.

صالون نازلي

ومثلما تنوّع الفضاء المكاني للأحداث بين الشرق والغرب، تنوعت غايات الكاتب المستترة خلف السرد. فلم يكتفِ بإضاءة شخصية نازلي فاضل، التي انقسم حولها المؤرخون، في ما نقلوه من قليل عنها، وإنما أبرز ملامح المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، لا سيما في إنجلترا من عنصرية وتعصب وطبقية وعدم احترام للمرأة.

 ورصد أيضاً بداية التحول الاجتماعي، لا سيما في باريس مدينة النور، التي استطاعت المرأة فيها أن تلعب دوراً تنويرياً، وتتصدر المشهد في صالونات ثقافية، انتقلت إلى مصر وتونس مع الأميرة نازلي التي أنشأت أول صالون ثقافي في الشرق، ليتجلّى اهتمام الكاتب بتوثيق أوضاع المرأة وعلاقاتها بالرجل وبالمجتمع على مدار تاريخ طويل، وفي مناطق عدة من العالم.

يعود الخشن إلى مصر، ليرصد ما عانته من ويلات الأطماع الخارجية والتنافس بين القوى المختلفة، سواء العثمانيين أو البريطانيين أو الأسرة العلوية، وما نجم عن ذلك من تراجع ثقافي وحضاري للمصريين. وقدّم تفسيراً لفشل الكثير من ثورات الشعوب، واعتبره نتيجة مثالية الثائرين؛ مثالية تقترب من السذاجة، تنتهي بهم بتسليم الحكم من جديد إلى سلالة مَن ثاروا عليهم. وهذا الخطأ وقعت فيه الإنسانية مراراً، ولم ينجُ منه فرنسيون ولا إنجليز ولا مصريون.

الوصف على مستويين

في لغة شديدة العذوبة والسلاسة في آن، قدّم الخشن حيله السردية التي أضفت مزيداً من الجمالية على البناء. فعرض على سبيل المثال وصفاً إبهارياً، نقل عبره ملامح وجغرافيا المكان، مانحاً قارئه استراحات قصيرة خلال رحلة السرد، من دون أن يفقده أو يصيبه بالملل. وذلك لتحرّيه رسم المشهد وتصويره بأسلوب استثنائي، يبرز مستويين جماليين، أحدهما للمكان والآخر للغة... "بدأت ضفتا بحر مرمرة تنكشفان لنا كامرأة تتثاءب في غنج بعد سبات عميق. أخذت الضفتان في الاقتراب من بعضهما حتى كادتا تلتقيان بعد بعاد، ليستولي المضيق على كامل المشهد. تشعر وأنت ترى البوسفور أنك تبحر في نهر ولكنه ليس نهراً عادياً. يفصل في يسر بين قارتي آسيا وأوروبا دون حاجة لمثل مجهود المحيطات في التفريق بين القارات الأخرى".

استخدم الكاتب من الوصف مستواه التفسيري أيضاً، فجاء وصفه للبيوت الخشبية ومساحات المقابر التي تتخللها في بعض مناطق القسطنطينية، عقب وصفه لموكب السلطان، ليفسّر حال الشعب القابع تحت الحكم العثماني والتفاوت الصارخ بين حال الحكام وحال من يحكمونهم.

التناص والتناظر

 لجأ الكاتب إلى التناص المباشر مع الكتب المقدسة "الإنجيل"، ومع التراث الأدبي الكلاسيكي من شعر شكسبير، وشعر إليزابيث براوننغ، لا ليزيد من جمالية بنائه ولا ليعبّر عن سعة اطلاعه فحسب، ولكن ليعزز من مصداقية الشخصية المحورية "ليديا ستون"، في ما تمتلكه من ثقافة واسعة، كانت تؤهلها لتكون مربية ووصيفة لابنة مصطفى باشا فاضل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يكتفِ الخشن بالتناص عبر استدعاء أبيات من قصائد شكسبير وبراوننغ فقط، وإنما استخدم التماثل بين روح المضمون في رواية "كبرياء وتحامل" للكاتبة جين أوستين، وما تعرّضت له بطلته "ليديا ستون" في برمنغهام. وكان ثمة حضور لتناظر آخر مرَّره الكاتب عبر صراع بطلة أوبرا "عايدة" وانقسامها بين وطنها وحبيبها، وما يماثله من صراع داخلي عاشته "ليديا" بين وفائها لصديقتها نازلي فاضل، وبين ولائها لوطنها كعميلة إنجليزية لصالح المكتب السري. ووشى استدعاء الكاتب - عبر تقنيات التناص أو التماثل- لبعض المنجز الأدبي الغربي بثقافة واسعة لم تقِف عند حدود المعرفة الأدبية وحدها، وإنما تشعبت أيضاً في مناحٍ عدة. فكان القالب التاريخي للسرد فرصة مؤاتية سمحت للكاتب بتمرير حمولات معرفية كثيفة، أبرزت قدرته الفائقة على غزلها بانسيابية داخل النسيج، لينقل عبرها معلومات متنوعة حول حروب بريطانيا في السودان، قناة السويس وحفل افتتاحها، والشخصيات العالمية التي شاركت في هذا الاحتفال وردود الأفعال الدولية، جرائم السلطان عبد الحميد في حق الأرمن، الحركات التحررية ضد السلطان العثماني، العلامات البارزة في تاريخ مصر من شخصيات ثورية أمثال قاسم أمين وسعد زغلول ومحمد فريد ومحمود باشا سليمان والشيخ محمد عبده وغيرهم.

حضور الفن التشكيلي

أبرز النص ذائقة فنية خاصة للكاتب، بدت عبر حضور الفن التشكيلي في سياق السرد، والتطرق إلى أشهر اللوحات العالمية ومغزاها، مثل لوحة "شارع باريسي في يوم ممطر" للفنان كالبيوت، التي لم توثّق سحر منطقة يقطنها البرجوازيون الفرنسيون، بقدر ما وثّقت الخلل الاجتماعي، والتفاوت الطبقي في فرنسا - في ذلك الوقت- بين قلة من البرجوازية وغالبية من الفقراء، أبرزها الرسام بضبابية وعدم وضوح الزوجين البرجوازيين في الواجهة، في مقابل وضوح العامل والخادمة في الخلفية.

الاستباق حيلة أخرى لجأ إليها الكاتب، عبر التصريح بخيط من الحدث، وتعمّد إرجاء تفسيره واستكمال خيوطه، لضمان مفاجأة القارئ والحفاظ على الصبغة التشويقية للأحداث. فشخصية "هنري" الذي وجّهت إليه "ليديا ستون" كل رسائلها، كانت إحدى مفاجآت الكاتب، التي أرجأها إلى مرحلة متقدمة من السرد. كذلك أرجأ تفسير مأساة "ليديا" في برمنغهام، بعدما نوّه عنها في بداية رحلته السردية. وعاد ليستبق بارتياب "سيدني" في ثروة "موريسون"، الذي قام بتجنيد "ليديا"، ليكشف عن مفاجأة أخرى في مرحلة لاحقة من السرد. وهكذا كان استباق الكاتب ومفاجآته، وسيلة ناجعة لفرض سطوة التشويق على النص. وحقق خلافاً للمتعة الأدبية والمعرفية، تدقيقاً لواحدة من الشخوص التاريخية المثيرة للجدل، بما اتسمت به من مناصرة الاستقلال والميل إلى الوجود الإنجليزي في الوقت ذاته وبما جمعت من علاقة وثيقة مع رموز الحركة الوطنية المصرية، وأيضاً صداقة وطيدة لكل من اللورد كرومر واللورد كيتشنر أثناء وجودهما في مصر. وتمثّل إنصاف الكاتب لها في وضع كل ما قامت به، وكل ما قالته في سياقه، ودحض كل ما وُصمت به، نتيجة اجتزاء متعمد لأقوالها من سياقها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة