يقدم الناقد والأكاديمي المغربي سعيد بنكراد لترجمته كتاب أمبرتو إيكو "آليات الكتابة السردية: مداخل إجرائية في نقد النقد" بقوله: "جاء إيكو إلى الرواية مثخناً بجراح السيميائيات وبجراح سنوات عمر يجري دون توقف".
والحق أني لم أجد أدقّ ولا أوفى من هذا التقديم، كي أقدم به السيرة التي كتبها سعيد بنكراد "وتحملني حيرتي وظنوني: سيرة التكوين" (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2021). فقد جاء الرجل إلى السيرة مثخناً بجراح السيميائيات، وقد غدا شيخها العربي بعد مؤلفاته ومترجماته المتتالية فيها ولهاً، كما جاء مثخناً بجراح العمر، مما سيدمي مواطن كثيرة في السيرة.
جنّس سعيد سيرته بحالة من البوح الفكري، وأصرّ على تسميتها "النص" وإن يكن جنّسها سيرة مراراً، وقصة أيضاً، فكتب أنه حاول الإمساك بخيوط شتى، هي ما مكنه من "بناء قصة تتميز بالوحدة والانسجام. يتعلق الأمر بوضع اليد على الفجوة الرفيعة الفاصلة بين الاستيهام والحقيقة، بين ما عشته فعلاً وما أضافته اللغة".
سيرة فكرية
ينفي سعيد أن يكون نصه قابلاً بالتصنيف ضمن السيرة الذاتية. ومما يعلل به ذلك إهماله لكثير من تفاصيل حياته، لأنها جزء من حميميته التي لا تخص أحداً سواه. بيد أن النص، كما سيلي، سوف يعارض مراراً صاحبه، ويميل مواربة وصراحة إلى السيرة الذاتية. وهنا يذكرني نفي سعيد للسيرة الذاتية عن نصه بأصنائه من المفكرين والنقاد الذين يصدعوننا بهذا النفي، مجلجلين بالسيرة الفكرية، متناسين ما يأتي في نصوصهم من السيرة الذاتية. ولذلك أراني من الذين يقولون بالسيرة الذاتية الفكرية، ومنهم – على سبيل المثال – محمد الداهي.
يتحدث سعيد بنكراد في الفصل الأول عن طفولته، ومن علاماتها الفارقة فقد الأب، والمدرسة، وحكايات الجدة، والمراهقة من بعد: الأساتذة الفرنسيون وقراءة الروايات والنشاط السياسي اليساري قيادياً. وكما في الفصول التالية، لا يفتأ سعيد يطير من الماضي إلى الحاضر، مقارناً بين الزمنين، فبالحسرة يذكر أن الناس كانوا يعبدون الله خارج السياسة والأيديولوجيا والتعصب: "لقد كان أهلنا علمانيين بالفطرة". وكان الناس يعيشون بأنوات كثيرة، فـ"أناتنا الواعية" كانت قادرة على استيعاب كل الاستيهامات الممكنة". أما الآن، فالوعي المزيف هو المنتشر بين الأجيال الجديدة. ومما يتصل بالمستقبل السيميائي لصاحب السيرة يذكر أن كل شيء في الماضي كان حسياً، فلا وجود لوهم بصري، والمساحة الافتراضية الوحيدة الممكنة كانت ما تأتي من حكايات الجدة، لكنها تُعاش في اللغة، وليس في الصور، فالعالم يُروى ولا يصور، كما تقول إلزا غودار في كتابها الذي ترجمه سعيد بنكراد، أخيراً، "أنا أو سِيلفي إذن أنا موجود".
من روايات نجيب محفوظ منذ ثانوية بركان الداخلية، كان سعيد يحسب أحياناً أنه شخصية تخيلية في إحدى تلك الروايات، وقد سقط سهواً في الحياة. وسوف يطغى في الفصل الثاني "لنا يا رفاق لقاء غداً" التكوين السياسي على السيرة. ففي مدينة العلم والإسلام المعتدل والتصوف الأفريقي، في مدينة الرمز: فاس، وعلى يد "الهرم" عز الدين إسماعيل والشاب محمد برادة والأساتذة التقليديين والقلة المسيسة منهم، يمضي التكوين العلمي للشاب، بينما يمضي به التكوين اليساري إلى عضوية حركة 23 مارس. وفي مناخ اجتماعي لم يكن السفور فيه عيباً، ولا الحجاب ملزماً، وحيث لم تكن حركات أصولية، وكان الاستقطاب مانوياً "معي أو ضدي". في هذا المناخ كان الجدال يحتدم – في ساحة الحي الجامعي التي سموا واحدة منها ساحة هوشي منه – من كتاب "الثالوث المحرم" لبو علي ياسين إلى كتاب "الهزيمة والأيديولوجية المهزومة" لياسين الحافظ إلى "الأدب والأيديولوجيا في سوريا" لبو علي ياسين ونبيل سليمان إلى إلياس مرقص ونقده للعقلانية العربية إلى سواهم.
صورة الماضي
يمعن سعيد في نقد ما كان عليه وجيله في تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي، حين كانوا يعيشون في طمأنينة ثورية، ولا يختلفون كثيراً عمن ينادون بتطبيق الشريعة. ويعلن سعيد بشجاعة أنه الآن ليس نادماً، ولا متنكراً لما آمن به فـ"أخطاء الآخرين أخطائي". وما يحاوله في السيرة هو أن يرمم "صورة الماضي". وكما في سائر فصول السيرة، لا يني صاحبها ينفح السرد بأفكار وأطروحات نظرية، سواء بشكل مستقل أم متضمنة في السياق الإخباري أو الحكائي. ومن ذلك أن يكتب أنه أدرك بعد البرء من الأحكام الجاهزة أن الإنسان كائن متدين، وأن الدين حاجة عند الناس، وسمة للإنسان العاقل، ويبدو أنه سيظل هكذا. كذلك قوله إن عقلانيتنا كانت صارمة "لكنها أيديولوجية لا تستند إلى قواعد العلم"، أما الآن، في زمن كتابة السيرة، فقد ابتلع الافتراضي جزءاً كبيراً من الطلبة وحول حياة كثيرين إلى صور، وتراجع التنافس النضالي والوطني والقومي عندهم وعند كثير من الشعب، وانتعشت الطائفية والإثنية. لكأن سعيد بنكراد، في كل ذلك، يتحدث عن سوريا أو العراق أو أي دولة عربية، وليس فقط عن المغرب.
يفرد سعيد صفحات لاعتقاله في فاس، ولِما كابده شهراً في الزنزانة الانفرادية ثم سنة في سجن قادوس. وتبدو هذه الصفحات من أفضل وأمر ما ضمه أدب السجون. ومع ذلك يكتب سعيد أنه لم يطل الحديث عن النضال السري، لأن هذه السيرة ليست سياسية وليست ذاتية، بل ترسم مساراً علمياً. والسؤال الذي يعاجل هنا هو عما إن كان يمكن للمسار العلمي أن يأتي بريئاً و/ أو نظيفاً من الذاتية و/ أو السياسة!!
تحت عنوان "لا خلاص لنا خارج النص" جاء الفصل الثالث مبتدئاً بالهرب إلى فرنسا سنة 1981، حيث انتسب إلى السوربون "وتلك كانت رحلة فكرية لم تنته إلى الآن". بيد أن الذاتية ستظل تطل وتلون، كالافتتان بالحي اللاتيني، أو الإقامة المتنقلة في البداية في باريس. ويبدو أن الناقد والباحث والأكاديمي والمفكر – بل والمترجم – فرض نوعاً من الرقابة على الذاتي، ومنه العمل إلى جانب الدراسة في فندق أو مطبعة مصاحف أو مركز بريد أو عد السيارات في ملتقى طرق. كذلك هي الإشارة الخاطفة إلى الصديقة الفرنسية، وبها يتعزز الانطباع بأن ذلك الطالب الذي يحضر للدكتوراه في السوربون يعيش في فضاء ذكوري، فمن عجب أن سحر أستاذته جوليا كريستيفا، قد أصابه!
لقد كان الناقد الفرنسي غريماس المحطة الأولى في "التاريخ الفكري" لسعيد بنكراد الذي تعلم أن عوالم النص ليست عوالم الواقع، وأن النص يمكن أن يكون شيئاً في السياسة، ولكن على طريقته. وبعد الإفاضة في تاريخ السوربون وفي عرض البنيوية والسيمولوجيا، يعرض اللقاء الأول مع السيميائيات في جامعة سانسسييه، ويفصل كخبير ممارس في تطور السيميائيات. ويذكر في هذا السياق ولعه بالرياضيات، ورغبته في دراسة الفلسفة، قبل أن يمضي إلى الأدب، حيث سيدعو طويلاً إلى التعامل مع النص استناداً إلى فواصل موضوعية تجنب الذات القارئة الاستغراق في النص المكتفي بذاته.
من باريس الى المغرب
تنتقل السيرة من زمن باريس إلى الراهن الجامعي المغربي، وهذا ما سيتواصل ويكبر حتى ليكاد ينفرد بالسيرة في منتهاها. ومن ذلك أن الجامعة باتت منفصلة عن المجتمع، ومن يديرون ملفات التعليم مهوسوون باستيراد النماذج الجاهزة. وقد أصبح الفضاء الجامعي عقيماً، لا ينتج قيماً، ولا يتصدى للرديء منها. وما عادت الحقيقة في الكتب والموسوعات بل في الشبكات الاجتماعية. ومرة أخرى: هل يتحدث سعيد بنكراد عن الجامعة المغربية أم السورية أم المصرية أم...؟
عام 1985 غادر سعيد باريس باكياً، وبهذا يبدأ الفصل الرابع "زيتونة لا شرقية ولا غربية". وبفضل العفو الملكي بات العائد أستاذاً في جامعة مكناس. وسوف تتوزع السيرة من بعد إلى العمل الجامعي وإلى كتابات وترجمات الرجل، ونقد الذات، ونقد الراهن.
وفاءً لغريماس وضع سعيد كتابه "السميائيات السردية". ومن الوفاء أيضاً كان نقد غريماس مما جاء في كتاب سعيد "سميائيات النص: مراتب المعنى". وقد تدفقت جهود سعيد السيميائية تأليفاً، ومنها "سيميائية الصورة الإشهارية – تجليات الصورة: سيميائيات الأنساق البصرية – النص السردي: نحو السميائيات للأيديولوجيا .."، وترجمة "سيميائيات الأهواء لغريماس وفونتيني – التأويل بين السيميائيات والتفكيكية...". ومع الإقبال على أعمال بورس وأمبرتو إيكو، تبدأ نقلة سعيد إلى التأويل، فيضع كتابيه "السيميائيات والتأويل" و"سيرورات التاويل من الهرمسية إلى السيميائيات". أما في الترجمة فيكون لإيكو النصيب الأكبر. لكن المروحة ستكبر لتضيف "الإشهار" تأليفاً وترجمة، وإذا كان سعيد سيترجم أيضاً لميشال فوكو "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" ولفولتير "رسالة في التسامح"، فسيكون "المعنى" شاغله الأكبر تأليفاً: "مسالك المعنى– البحث عن المعنى – وهج المعاني...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف سعيد بنكراد أول عمل نشره "شخصيات النص السردي: البناء الثقافي"، وهو جزء من دكتوراه الدولة، بأنه كتاب بلا قيمة، ولا يقدم شيئاً مهماً إلى قراء العربية. وتلك لحظة نادرة في الفضاء الثقافي العربي من لحظات الشجاعة والصدق ووعي الذات، وبالتالي: وعي العالم. وقد كتب سعيد أيضاً أن عقلانيته قد ازدادت، واتسعت رؤاها، كما ازداد ولعه بالأساطير والحكايات، وقرر التخلي عن أي عمل نقابي أو سياسي، أو أي نشاط ثقافي، وذلك بعد سنوات جامعة مكناس، وما تخللها من لقاءات "أربعاءات أكاديميا" التي شبهها بمجتمع مدني ضمن الفضاء الأكاديمي. كما أفرد لسيرة مجلة "علامات" التي أطلقها مع عصبة من الأكاديميين، ولم تزل تسطع على الرغم من الظلمات المطبقة. غير أن فقدان كثيرين للبوصلة والإخفاق الذي توّج الزمن المكناسي دفع بسعيد إلى جامعة محمد الخامس في الرباط، فكانت الخيبة الكبرى على سائر المستويات.
يكاد الفصل الخامس الذي اقتبس عنوانه من ريجيس دوبريه "نتكلم في عالم ونبصر في عالم آخر"، أن يكون نزيفاً حاراً مثلما هو نقدية عميقة وحارة، ليس فقط لما آل إليه الفضاء الأكاديمي أو الثقافي، بل للزمن الرقمي وللحروب العربية العبثية. وفي خاتمة المطاف تضاعف اهتمام سعيد بنكراد بالصورة – وقد ساق صفحات نظرية فيها وملخصاً لكتابه: سيميائية الصورة الإشهارية والتمثلات الثقافية – ورفع راية التأويل بما هو قبول بفكرة التعدد في الوجود الإنساني، كما رفع راية الهرمسية – يطرح هذا المصطلح كبديل لمصطلح الهرمومطيقا الثقيل. وعلى الرغم من كل ما هو موحش وموئسِ يختم سعيد بنكراد سيرته بقول: لن يبتلعنا اليأس، وهناك أمل دائماً".