Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المزاج العام يفضح ازدواجية أخلاق المجتمع المصري

يبدو أن الشارع يعاني كثيراً في قيمه وليس فقط بمحتوى ما تقدمه فتيات "تيك توك"

تعددت حوادث التحرش والفيديوهات الفاضحة في مصر خلال الأشهر الأخيرة (أ ف ب)

قبل أيام قليلة، ألقت الشرطة المصرية القبض على سيدة احترفت "تزويج" ابنتها ذات الـ18 عاماً لمن يرغب، والتسعيرة لا جدال فيها: زواج مدة يوم واحد بألف جنيه (63 دولاراً)، والشهر 70 ألفاً (4375 دولاراً). ومع ذلك لم ينقلب المجتمع رأساً على عقب جراء الواقعة، خوفاً على قيم الأسرة المصرية.

وفي اليوم نفسه، عثر الأهالي على فتاتين (18 و13 عاماً) مذبوحتين بطريقة بشعة. وتبين أن والدهما تركهما سنوات وحدهما، وانتقل إلى قرية أخرى بعد وفاة والدتهما وتزوج بأخرى، ما اضطر الفتاة الكبرى إلى العمل للإنفاق على نفسها وشقيقتها، ودارت حول سلوكهما إشاعات تتعلق بالسمعة، ويُرجح أن تكون المجزرة جريمة شرف، ورغم ذلك لم يجن جنون المجتمع، لأن الوالد ضرب عرض الحائط بابنتيه، مصيباً بذلك قيم الأسرة المصرية في مقتل.

المتحرش بهن شأن هامشي

وأخيراً، عمت أرجاء الأثير العنكبوتي موجات مجاهرة نسائية بحوادث تعرض لتحرش واغتصاب لفتيات على أيدي شباب من أبناء الطبقات المخملية، ورغم أن استمرار الضغط العنكبوتي، وتشجيع ضحايا التحرش والاغتصاب على المجاهرة والإبلاغ عن المتحرشين والمغتصبين رسمياً، فإن المجتمع اعتبر المتحرش بهن والمغتصبات، والمتحرشين والمغتصبين شأناً داخلياً هامشياً، يخص طبقتهم المخملية لا علاقة للمجتمع أو قيم الأسرة المصرية بهم.

أما من بتن يعرفن بـ"فتيات التيك توك"، فإن كل همسة أو لمسة يقمن بها من شأنها أن تعصف بقواعد الأسرة المصرية عصفاً يستنفر محامين "أخذوا على عواتقهم مهمة الدفاع عن الأخلاق والذود عن الفضيلة"، فضلاً عن متابعي مواقع التواصل الاجتماعي الذين جعلوا من جرد المحتوى وتنقية ما يعتبرونه "طالحاً" واجباً لحماية الصالح مهمة لهم. أما القاعدة العريضة من المجتمع فتستقبل مهام الدفاع وأنشطة الجرد والتنقية حماية لقيم الأسرة المصرية.

إناث تحت المراقبة

"بعد إذن الأسرة المصرية" هي حملة "حقوقية" ذات عبارة عميقة المغزى ورد فعل يحمل خليطاً من المرارة والسخرية للميل الشعبي والرسمي المصري لـ"حماية قيم الأسرة". تقول الطالبة الجامعية دانيا طارق، 21 عاماً، التي تدرس القانون الدولي، إنها ترى "الإناث في مصر أصبحن تحت المراقبة، وتُصدر الأحكام عليهن بناء على قائمة تعتبرها القاعدة العريضة (ملتزمة). هذه القائمة عبارة عن قواعد سلوكية غير منصوص عليها في قانون أو دستور، لكن بات متعارفاً عليها خلال سنوات المد الديني على مدار نصف قرن".

إن قرون الاستشعار لدى الغالبية يجري استنفارها أينما وحيثما ذٌكِرت كلمات وعبارات مثل "أفعال خادشة للحياء"، و"التحريض على الفسق والفجور"، و"تشجيع الرذيلة"، و"صور خليعة"، و"شاهد قبل الحذف"، وأيضاً "مشاهد فاضحة" إلى آخر القائمة التي تضمن مسارعة بالدق على الرابط للمشاهدة، ثم التشمير عن السواعد، لتوجيه الاتهامات والمطالبة بتوقيع أقصى العقوبات، وذلك باستثناء قلة قليلة تجاهر بصوت بالغ الانخفاض مطالبين بحماية الحريات الشخصية، والتوقف فوراً عن التطفل والتدخل، طالما لا قانون خُرِق أو دستور انتُهِك.

فتيات تيك توك

"فتيات تيك توك" التي يردد رجل الشارع وامرأته أنهن "خدشن الحياء"، وعصفن بقيم الأسرة المصرية تجري محاكمتهن ومعاقبتهن طبقاً للمادة 25 من القانون رقم 175 لسنة 2018 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات. وحسب النص فإنه "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه (3125 دولاراً) ولا تجاوز مئة ألف جنيه (6250 دولاراً)، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من اعتدى على أي من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري".

 

 

الشابة سارة عبد الرحمن أطلقت الهاشتاغ "بعد إذن الأسرة المصرية" على سبيل دعم الفتيات المقبوض عليهن، ولفت الانتباه إلى أن "الأسرة المصرية" تعاني كثيراً في ما يختص بقيمها، وليس فقط بمحتوى ما تقدمه الفتيات على "تيك توك". وكتبت عبد الرحمن على صفحتها "حنين حسام واحدة من ضمن تسع ستات اتقبض عليهم، ووجهت لهم تهمة تهديد قيم الأسرة المصرية. حملة القبض بدأت من أبريل (نيسان)، ولحد دلوقتي (الآن) فيه بلاغات بتتقدم ضد ستات بسبب المحتوى اللي بيقدموه على تيك توك". وأشارت عبد الرحمن إلى أن مكان هؤلاء الفتيات ليس السجن.

علامات دالة

ومن العلامات الدالة والأمارات العاكسة لما يدور في المجتمع، فقد حولت القاعدة المدافعة عن قيم الأسرة المصرية بالقبض على فتيات "تيك توك" دفة الاتهام إلى الفنانة الشابة متهمة إياها بـ"الفسق والفجور" تارة و"التستر على الدعارة" تارة أخرى، واعتبارها "واحدة شمال بتدافع عن بنات شمال" (شمال تعني سيئات السمعة والسلوك). الغالبية المطلقة من التعليقات طالبت الفنانة الشابة بالسكوت أو اللحاق بـ"زميلاتها" إنقاذاً للأسرة المصرية وقيمها.

الأدهى من ذلك أن أصواتاً بدأت تعلو، مطالبة بحجب أو منع أو فرض رقابة صارمة على "تيك توك"، لمنع انتشار الفاحشة والترويج لها، من خلال وضع محتوى ما تنشره الإناث تحت رقابة هيئة متخصصة، مهمتها مشاهدة المحتوى والسماح ببثه أو منعه مع تعقب صاحبته، لمعاقبتها حتى تكون عبرة لغيرها.

ويشار أيضاً إلى أن الواقفين على طرف نقيض من طريقة التعامل القانونية والرسمية مع "فتيات تيك توك" المقبوض عليهن، واللاتي صدرت أحكام في حق بعضهن اتفقوا على أن ما يجري حالياً هو إرسال رسالة واضحة إلى جميع مستخدمات تيك توك، وذلك على طريقة "اضرب المربوط يخاف السايب"، وإن اختلف الموقف من الرسالة.

مدافعون عن القيم

فريق المدافعين عن قيم الأسرة المصرية عبر معاقبة صاحبات المحتوى الذي يعتبرونه "غير لائق" يرى في التشهير ومعاقبة فتيات التيك توك خير وسيلة لحماية المجتمع. أما فريق المعارضين فيراها خير وسيلة لرفع شعار "نحن بخير طالما ما يزعجنا ويخيفنا لا يجري على الملأ".

يشار إلى أن الهند منعت "تيك توك" في عام 2019، وذلك في أعقاب حكم قضائي صدر بضرورة إزالته من على التطبيقات بعد ادعاءات بأنه يستخدم لإشاعة المواقع الإباحية. وجرى وقف تنفيذ القرار بعد الاستئناف. لكن عادت الهند وحظرت التطبيق في يونيو (حزيران) الماضي لـ"دواع أمنية تتعلق بخصوصية معلومات المستخدمين وأمن الدولة والنظام العام".

النظام والمزاج العام

النظام العام ومعه المزاج العام في الشارع المصري على مدار نصف قرن مضى يشيران إلى أن الأجواء صارت أكثر التزاماً من حيث المظهر وأكثر انفلاتاً وانطلاقاً من حيث المحتوى. حدثان صغيران لكنهما بالغا الأهمية والإسقاط يشيران إلى نوعية المفاهيم التي سادت في المجتمع، لا سيما في ما يتعلق بالإناث. فحين جرى إلقاء القبض على حنين حسام، إحدى فتيات تيك توك، قال والدها مدافعاً عن ابنته "دي حتى محجبة"، في إشارة ثاقبة إلى أن المفهوم الشعبي يربط بين ارتداء الحجاب والسلوك الملتزم والعكس، وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أن حسام نفسها حين دافعت عن محتوى فيديوهاتها ودعوتها للفتيات إلى العمل معها، قالت إنها تطلب فتيات محجبات فقط لضمان الاحترام.

المشهد الثاني يكمن في تقدم محامي هدير الهادي، إحدى فتيات تيك توك أيضاً المقبوض عليها، التي تواجه اتهامات "التحريض على الفسق والفجور"، وبث فيديوهات "فاضحة وخادشة للحياء"، ومخالفة "قيم وعادات المجتمع"، بطلب للنيابة العامة لعرض موكلته على الطب الشرعي للتأكد من عذريتها من عدمها!

ويقول الطالب الجامعي الناشط في مجال التوعية بحقوق المرأة عمرو سليمان، 22 عاماً، إن طلب المحامي يعكس المفهوم السائد عن الأخلاق والفضيلة والشرف، الذي يرتبط ارتباطاً شرطياً بالعذرية، فإن وجدت صحت الأخلاق وصح الشرف، وإن غابت انحدرت الأخلاق وتلوث الشرف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير سليمان إلى أن "محتوى (تيك توك) متاح مثله وأكثر وأقل على مواقع أخرى مثل (يوتيوب) و(فيسبوك) و(إنستغرام) وغيرها. كما أن من يريد العمل أو نشر أو التشجيع على الفسق والفجور ليس مضطراً لبث محتواه على (تيك توك). ثم إن أحداً لا يقول لنا بالضبط ما قيم الأسرة المصرية حتى نلتزمها؟ هل هي تلك السائدة في الريف أم في المدينة؟ أم بين ملايين النازحين من الريف إلى المدن؟ وهل هي تتعلق بما تقوله الفتيات، ويقمن به أم أن لها بنوداً أخرى؟ وهل هي متغيرة أم ثابتة؟ ومن يكون الحكم في حال اختلفت أسرتان مصريتان على ماهية قيمهما؟ هل يحتكمان إلى المحكمة، وتضطر إحداهما إلى الانصياع، لتتشبه وتتطابق قيمها بالأسرة المحكوم لها؟".

استفسار واستنكار

أسئلة استفسارية تحمل لمحة استنكارية يطرحها عمرو سليمان وغيره من شباب وشابات معنيين بالحريات ومهتمين بالقوانين، ورافضين ما يسميه "سلوك القطيع" وشيوع العرف على القانون. لكن هؤلاء أقلية في وسط غالبية تربط الشرف والأخلاق والفضيلة وقيم الأسرة المصرية بما تفعله أو لا تفعله الإناث.

وما تفعله الإناث محط أنظار الإعلام في مصر بطبيعة الحال. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المحتوى التحريري لصفحات الحوادث وأخبار الفنانات وتحقيقات الشارع ينضح بالكثير. "بفستان محتشم ومكياج خفيف تحتفل ابنة الفنان الفلاني بزفافها" ما يستقطب آلاف التعليقات المباركة للابنة التي لم تتأثر بأجواء الفن، و"إطلالة رانيا يوسف في الساحل تتفوق على الفستان الشهير"، و"بأزياء فاضحة وحركات مثيرة لفلانة تطل في أحدث فيديو عبر تيك توك"، و"تحرش واغتصاب بين أبناء الأكابر أيضاً" وغيرها عناوين شبه ثابتة في جانب كبير من بعض المواقع الخبرية، إضافة إلى التوجه التحريري لكثيرين من الصحافيين، إذ تعلو نبرة الاستهجان، واعتبار الأنثى التي لا تلتزم المعايير الشعبية "منفلتة"، وكأنها قاعدة علمية معروفة ومثبتة، ولا تحتمل رؤى مغايرة. حتى واقعة التحرش والاغتصاب في أحد فنادق القاهرة الشهيرة، التي تحركت النيابة العامة بعد ضغوط عنكبوتية هائلة للقبض على الموجه إليهم الاتهامات، فإن قطاعاً عريضاً من الإعلام وأعرض من المجتمع يتعامل معها باعتبارها إما "ولاد أكابر واقعين في بعض"، وإما مجموعة فتيات "غير ملتزمات أخلاقياً تستحق ما يجري لهن".

تحصيل حاصل

وتحصيل حاصل، فإن الرأي العام في الشارع يؤيد ويبارك ويهلل للضبط والربط في ما يختص بفتيات "تيك توك"، مع تجاهل حوادث التحرش والاغتصاب في حفلات الأثرياء، لأنها "لا تتعلق بقيم الأسرة المصرية". مصطفى سعيد، موظف 42 عاماً، يؤكد أن "عدم القبض على فتيات تيك توك ومعاقبتهن هو عين الانفلات والتساهل. أخلاق المجتمع المصري في أزمة، وقيم الأسرة تحتاج إلى تقويم وتصحيح. وكل ذلك لن ينصلح حاله إلا بمحاربة الفسق والرذيلة". هل شاهدت الفيديوهات؟ يرد بحماس شديد: "لا طبعاً. لكن سمعت عنها من الإعلام".

وما جرى لشابة على "تويتر" قبل أيام يقول الكثير. كتبت متسائلة: "وبعد ما ألقينا القبض على فتيات (تيك توك)، وقاوم المجتمع فكرة مجاهرة شابات بتعرضهن للتحرش والاغتصاب من منطلق أن وجودهن في حفل أو مناسبة ترفيهية يعني قبولهن التحرش والاغتصاب، هل تحسنت الأخلاق وعادت قيم الأسرة المصرية؟"، فما كان من عدد كبير من متابعيها إلا أن أمطروها باتهامات الدعوة إلى الفجور ومحاربة الأخلاق. إنها حلقة مفرغة لا يؤمل كسرها قريباً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات