Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم عن الموت الرحيم أبكى جمهور مهرجان "كان" وأضحكه

"كل شيء كان جيدا" للفرنسي فرنسوا أوزون يجسد صراعا أخيرا بين أب وابنته

صوفي مارسو وأندريه دو سولييه في الفيلم الفرنسي الذي يتنافس على السعفة (الخدمة الإعلامية للمهرجان)

لم نحتج إلى الانتظار طويلاً في مهرجان "كان" السينمائي (6 – 17 يوليو (تموز) كي نظفر بالفيلم الذي يمكن القول إنه أول عمل ممتاز يستحق المشاهدة في تشكيلة هذا العام. إنه "كل شيء كان جيداً" للمخرج الفرنسي الكبير فرنسوا أوزون، هذا الفنان الغزير إنتاجاً وله دائماً ما يقوله في مواضيع اجتماعية ونفسية ذات عمق إنساني.

في هذا الفيلم يتعلق الموضوع برجل ضاق ذرعاً بالحياة، بعد إصابته بسكتة دماغية شلت حركته وحاصرته في وضع صحي لا يُحسد عليه. لرجلنا ماضٍ حافل، فهو عاش الحياة على أوسع نطاق. هو صناعي سابق متذوق الفن، يطارد كل ما له قيمة من لوحات ومقتنيات. لكن له أيضاً سجل طويل من الاكتئاب المزمن. المهم أن الرجل ما عاد يحتمل عذاباته، سواء الجسدية منها أو الروحية، وهي مترابطة. فيطلب من ابنته أن تساعده في إنهاء حياته مرفوع الرأس، بكرامته، كما عاش دائماً. لكن في بلد مثل فرنسا، قد تصل المساعدة على مثل هذا الفعل إلى خمس سنوات سجناً. المادة القانونية واضحة: عدم إسعاف إنسان في حالة خطر. إذاً، لا بد من سويسرا حيث القوانين أكثر تسامحاً مع الموت الرحيم. ذلك أن ما يبحث عنه هذا الأب المحتضر ليس سوى الموت الرحيم، الذي يلجأ إليه كل من قُطع أمله من الحياة وما عاد يحتمل الأوجاع جراء المرض.

هذا من جانب الأب، أما من جانب الابنة فالحكاية لها وجهة نظر مختلفة تماماً. مقابل تعصب الأب للموت وتمسكه به أشد تمسك وإصراره على الرحيل بأسرع وقت، هناك الابنة وتساؤلاتها، فماضيها في كنف هذا الأب (تصفه بالسيئ) الذي يتفجر فجأةً في مخيلتها. هي تحاول إقناعه بالعودة عن قراره، وتسعى إلى المماطلة وتأجيل الموعد المرتقب لعل وعسى. إلا أن الرجل ثابت على موقفه. يعرف جيداً وهو في الخامسة والثمانين أن ما هو فيه يصعب تسميته عيشاً، بل إنه بقاء على قيد الحياة، والفرق بينهما شاسع.

خارج الميلودراما

لم يقدّم أوزون محاضرة أخلاقية ولا دراسة مصوّرة عن الموت الرحيم. هذه الميلودراما الأسرية كانت أصبحت كاريكاتورية لولا براعته، رقته وتعاطفه وتفهمه أسباب كل إنسان. لا يدين أياً من الشخصيات وأفعالها. لا أحكام مسبقة في شيء. مجرد حكاية عائلية عن الحياة والموت وما بينهما من حبّ وكراهية وغيرة ولا مبالاة، تلسع في أماكن كثيرة من وجدان المُشاهد. هذا المُشاهد الذي حتماً سيجد شيئاً من تفاصيله في بعض المواقف التي يصوّرها الفيلم. فالكل في النهاية يملك أباً وأمّاً، الأمر الذي يسهل عملية التوحد مع الشخصيات. لكن أوزون يذهب أبعد من هذا كله من خلال جعل حالة اليأس التي يعاني منها الأب غير عنيفة وثقيلة على المُشاهد. بمعنى آخر، لا يشعرنا بذنب، ولا يحاول استدرار العواطف. بل حتى نضحك حين يجب أن نبكي ونبكي حين يجب أن نضحك، وهذا بسبب أن المخرج يحاول دائماً خلط الأوراق.

خلف مظاهر التفوق الاجتماعي والسلطة والجاه، هناك رجل معذّب لا يشبه ألبتة العالم البراق الذي يحيط به. يحوم حوله شبح الموت، هذا الذي كان يحوم أيضاً في أرجاء منزل الزوجين البورجوازيين في فيلم "حبّ" للمخرج النمساوي ميشائيل هانكه الذي ربح عنه جائزة "السعفة الذهبية". والبورجوازية ليست كلمة اعتباطية تُذكر هنا في المقال، فالأب، هو من هذه الطبقة ولولا انتماؤه إليها ما كان للحكاية أي وجود أصلاً، إذ إن كلفة الموت الرحيم عالية جداً تصل إلى عشرة آلاف يورو عداً ونقداً. عندما يعلم الأب من ابنته أن موته سيكلف هذا القدر من المال، يسألها عمّا يفعله الفقراء إذا أرادوا موتاً رحيماً، فترد ابنته بالقول "الفقراء ينتظرون الموت"! 

مسألة انتظار

هي مسألة انتظار إذاً. فالمال لا يشتري فقط الحياة بل ويشتري الموت أيضاً بهدوء على فراش في سويسرا وعلى أنغام موسيقى كلاسيكية. وقد يموت الغني وبطنه مليء بكل ما لذ وطاب له من أصناف مأكولات. هذا ليس مجرد فرضية، بل مشهد أساس في الفيلم نرى فيه الأب وابنته وحبيبها يتناولون الطعام في مطعمه المفضّل تحقيقاً لرغبة أخيرة لديه. اللافت أن شهيته للأكل لن تعيد إليه شهيته للحياة. ربما لأنه يعلم أن الملذات عابرة، تدوم برهة، أما العذابات فساكنة في وجدانه للأبد.

مرة جديدة يؤكد أوزون أنه أحد أفضل السينمائيين الفرنسيين، وهو قادر على أفلمة كلّ شيء تقريباً. لا توجد قصة عصيّة عليه. الحكاية التي أفلمها هنا هي في الأساس قصة حقيقية عاشتها إيمانويل برنهايم (1955-2017) وروتها في كتاب صدر قبل ثمانية أعوام، علماً بأنها عملت على نصين لأوزون. حكايتها مع والدها مؤلمة، لكنها تلخص الكثير من الدروس في الحياة.

أخيراً، لا بد من التنويه بالممثّل الكبير أندره دوسولييه، الذي لا فيلم من دونه. استطاع أن يقدم شخصاً نصدقه ونتعاطف مع ألمه رغم معرفتنا المسبقة بأنه ليس أكثر الناس لطفاً. أداؤه هنا مدهش، فرض عليه تحولات خلقية كاملة، ومَن لا يعرف قبل الدخول إلى الصالة أن خلف هذا الثمانيني المحتضر يقف أندره دوسولييه فسيتفاجأ عندما يصعد جنريك النهاية ويقرأ اسمه. فعلاً الرجل مدرسة ويستحق أن يفوز بجائزة التمثيل في "كان" هذا العام، على الرغم من أن المهرجان لا يزال في أوله والوقت لا يزال مبكراً للكلام عن أي جائزة. أما صوفي مارسو في دور الابنة فتقدم هنا أحد أهم أدوارها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة