Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الممثلون "العميان" يتوهون مسرحياً نحو بحر اللاذقية

سامر عمران اقتبس نص الكاتب موريس ميترلينك وأخرجه في فضاء طلق

مشهد من مسرحية "العميان" السورية (اندنبدنت عربية)

عكف الفنان سامر عمران في عرضه الجديد "العميان" إلى اقتباس نص الكاتب البلجيكي الفرنكوفوني موريس ميترلينك (1862-1949) متكيّفاً مع أحد عشر ممثلاً وممثلة مع فضاء "كلية فنون الأداء لجامعة المنارة"، في مدينة اللاذقية، ليصبح الفِناء الخارجي للكلية مكاناً مثالياً لمسرحية الكاتب البلجيكي. وذلك في خطوة نحو الخروج من مسرح الإطار، أو ما يسمى بمسارح العلبة الإيطالية، تجاوزاً لأبعاد العمارة التقليدية للمسرح. فالمخرج السوري لطالما اعتبر هذه العمارة بمثابة أماكن بديلة للعرض، وعلى الفنان الحقيقي تجاوزها، والعودة بالمسرح إلى أماكنه الأصلية من ساحات وحدائق عامة، وسواها من أنماط عروض مسرح الشارع.

ليست هذه المرة الأولى التي يعود فيها عمران إلى هذا النوع من الفضاءات، فلقد قدّم عروضاً عدة في أماكن بديلة من مثل عرضه "المهاجران" الذي حققه في ملجأ حربي في دمشق، وعرض "نبوءة" الذي قدمه في مقهى شعبي، إضافةً لتقديمه مسرحيته "أرامل" في مقهى دار الأوبرا السورية. وجميعها جاءت ضمن صياغة سينوغرافية مركّبة وغير اعتيادية، وقد نسف فيها أستاذ مادة الإيماء في المعهد العالي للفنون المسرحية، التصورات السائدة للفرجة، ولعلاقة الجمهور الباردة في تلقي العرض المسرحي، جالساً في العتمة على كراسي الصالة.

ولقد ابتكر عمران في عرضه الجديد علاقة مختلفة في تلقي العرض المسرحي، ودمج بقوة بين فضاءي الفرجة واللعب في إخراجه مجدداً لنص "العميان" الذي كان قد قدمه غير مرة، وجاء وقتها بعنوان "عابرون"، موظفاً حينها مجرى نهر بردى، والمسرح المكشوف في المعهد المسرحي في دمشق لهذه المهمة، وليقدم العرض عام 2008 أيضاً في بلدة حصين البحر، موظّفاً تقنية أقرب إلى المسرحية المتحركة، والتي انطلق منها "عميان" ميترلينك مشياً من أمام ضريح الكاتب سعد الله ونوس (1941-1997) مروراً ببيوت البلدة الساحلية، ووصولاً إلى ما يشبه جرفاً عالياً، قبالة شاطئ البحر. واليوم يعيد المخرج عمران هذا الشكل من الأداء الجماعي في رائعة الأديب البلجيكي (جائزة نوبل عام 1911)، مستخدماً شبكة من الحبال جسّد الممثلون من خلالها صعوبة تنقل ستة من العميان الرجال، ومثلهم من النساء في غابة شمالية تقع ضمن جزيرة معزولة. فلقد تاه هؤلاء بعد فقدانهم أثر الكاهن الذي خرج بهم من الملجأ إلى أحضان الطبيعة، وذلك كي يستمتعوا بنور الشمس قبل حلول فصل الشتاء، ليكتشفوا في ما بعد، أن دليلهم الوحيد قد فارق الحياة بالقرب منهم، وذلك بعد عودة كلبه نحو أحد العميان، ونباحه على جثة صاحبه الطاعن في السن.

بلاد العمى

يستدعي العرض المعضلة السورية مرتجلاً على النص الأصلي، ومبحراً في لجة من فقدان البوصلة، والبحث عن المخلّص في بلادٍ أشبه بالبلاد المتخيلة في كلٍ من رواية "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو (1922- 2010) و"بلد العميان" للبريطاني هربرت جورج ويلز (1866- 1946). فالجريمة والخراب الروحي والدمار المادي تعم ذينك البلدين اللذين يستدعيهما كل من ساراماغو وويلز، كاشفين بقوة وقسوة، الظروف التي يضعان فيها شخصياتهما وحقيقة الطبيعة البشرية، ونزوعها نحو الشر والخوف والقتل تحت ضغط الحاجة، وفقدان أقل مقومات الحياة الأساسية.

من هنا أدار عمران مستويات عدة من معالجة مسرحية موريس ميترلينك التي أثارت اهتمام العديد من مخرجي المسرح حول العالم، لا سيما في فترات الحروب والنزاعات الأهلية. فهي تتخذ قوتها من جديد في التعبير عن العماء الذي يعيشه الكائن الإنساني في معزل عن أي نجاة، وذلك وفق أبعاد رمزية صوفية تضع الممثل في امتحان صعب ودقيق لأدواته، موظفةً ثراء عالمه الداخلي، وقدرته في السيطرة على مشاعره، وهو يؤدي مع أقرانه شخصية الأعمى التائه والمحاصر بأشباح تترصده، وتجعله وجهاً لوجه عارياً مع حقيقة وجوده.

كل هذا دفع الممثلين: آدم صقر ورفيق الأتاسي ورياض معلا وعبد الرحمن ساعي وعلي القاضي وعلي اليوسف، إضافةً لكلٍ من غادة الطعان ولبانة خنيسة ومالك معوّض ومحمد برهوم ومصطفى البيلاني، إلى مجازفة من نوع مختلف على صعيد الأداء، والانسجام الحركي والنفسي مع شخصيات مكفوفة تتلمس طريقها وسط جمهور تحلق لمتابعتها، منصرفين إلى تلاوة مونولوغات متجاورة جاءت على هيئة أسئلة: "هل نحن تحت الشمس أم في الظلام؟ ما هو الوقت الآن وأين نحن"؟ وصولاً إلى اختبار مشاعر خاصة من الانتظار والذعر والوقوع في المجهول، بحيث تتقطع السبل بهؤلاء، ويشعر المتفرج أنه صار صنواً لهم في فقدان حاسة النظر، وفقدانه لأي أمل يرتجى، سوى انتظار حدوث معجزة ما تنتشله مما هو فيه.

إداء طبيعي

وهذا غالباً ما جعل أحد الممثلين في العرض السوري يصاب بالإغماء جراء استغراقه في الأداء الطبيعي لشخصية الأعمى. لكن اللافت هو كيفية تعامل زملائه معه، وسكب الماء على وجهه، دامجين ذلك مع سياق المسرحية الأصلي، ما جعل الجمهور يظن أن هذا المشهد جزء من العرض.

مفارقة كانت لتودي بحياة الممثل الشاب بسبب هذا التماهي مع الظرف المعطى، والقدرة العالية على التكيف من دون الشعور بأن ما يحدث جزء من لعبة مسرحية بحتة. هذا من دون النزوع إلى نوعية ما يدعى بالمسرح المسرحي، بل بالاتجاه إلى أزياء عادية، وإضاءة طبيعية، ولعل هذا ما جعل "عميان" كلية فنون الأداء يبدون وكأنهم فعلاً خرجوا من ملجأ أو مستشفى، وتغلغلوا فجأة بين صفوف الجمهور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا تخلص مخرج العرض من كل الإحالات التي تبعد فعل المسرحة عن الأداء، وتدعم رؤيا فنية تقول بأن المسرح لا يحتمل المبالغة، لا على صعيد الديكور والأزياء والإضاءة، ولا حتى على صعيد الموسيقى التي جاءت كأصداء بعيدة، وكمؤثرات خافتة واكبت حركة الممثلين- العميان، وبحثهم المضني عن طريقة ما للخروج من مأزقهم الوجودي، من دون الركون لأي نوع من كليشيهات الأداء، أو التظاهر بالعمى، بل بالانغماس الكلي في اللعب بما يضمن الحفاظ على واقعية الحدث، ويحقق الصدق الفني، بعيداً من أساليب الأداء المتبع داخل الصالات المغلقة، والمزودة بنظام توزيع الصوت، وكشّافات الإضاءة، والمنصات المتحركة.

هذه التقنية انسجمت بدورها مع حالة التباعد الاجتماعي الذي فرضه وباء كورونا على المشهد المسرحي السوري، وقلل من خطورة انتشار العدوى داخل الأماكن المغلقة، ما يعيد الأمل بشرعية عروض الهواء الطلق، ويخلص الريبرتوار السوري من دوغمائيات (جمود) الأشكال الفنية التي تجترها المسارح الرسمية، نحو التفكير جدياً بقوالب مسرحية أكثر اشتباكاً، مع ما يسمى جمهور الصدفة، أو المتفرّج العفوي، بدلاً من انتظاره للحجز على شباك التذاكر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة