Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكايات التوحد الأليمة في كتاب "طفل بلا حكاية"

 كاتبة فرنسية ترصد البعد الانساني في علاقة المتوحدين الصغار بالعالم

طفل متوحد بريشة أرجان ونكلار (موقع أوتيسم) 

ملخص

"طفل بلا حكاية" كتاب سردي فرنسي عن التوحد لدى الاطفال، للكاتبة الفرنسية مينه تران هوي، ترجم إلى العربية حديثاً. ترصد الروائية تجربتين اثنتين حقيقيتين في عالم التوحد الطفولي، إحداهما أميركية أُتيح للكاتبة أن تطّلع عليها، والأخرى فرنسية عاشتها شخصياًّ مع ابنها، وتُوردهما في الرواية بالتناوب.

التوحّد ومتعلّقاته هو السؤال الذي تطرحه الكاتبة مينه تران هوي في كتبها السردي "طفل بلا حكاية"، الصادرة في "سلسلة إبداعات عالمية" (الكويت)، بترجمة الياس البرّاج. وتران هوي روائية فرنسية من أصول فيتنامية، حاصلة على ماجستير في الأدب من جامعة بانتيون السوربون، وماجستير في السياسة من معهد الدراسات السياسية في باريس. ومن أعمالها: "الأميرة والصيّاد" 2007، "الحياة المزدوجة لآنا سونغ" 2009، "المسافر رغماً عنه" 2014، و"الذين لا عزاء لهم" 2020.  

في "طفل بلا حكاية"، ترصد تران هوي مرض التوحّد في العالم الغربي، بدءاً من تشخيصه، مروراً بأعراضه ووسائل معالجته، وانتهاءً بإمكان الشفاء منه أو تعذّره. وتتوقّف عند شخصية المريض وغرابة أطواره، ومعاناة الأهل، ونظرة المجتمع، وأداء الأطبّاء والمعالجين، وأنظمة الرعاية الصحّية، وسواها من الجهات التي تتعالق مع المرض، بشكلٍ أو بآخر. وهي تفعل ذلك من خلال رصد تجربتين اثنتين حقيقيتين، إحداهما أميركية أُتيح للكاتبة أن تطّلع عليها، والأخرى فرنسية عاشتها شخصياًّ مع ابنها، وتُوردهما في الكتاب بالتناوب. ونكون إزاء محتوى سِيَري، ذاتي / غيري، حقيقي / واقعي، يُسمّي الأشياء بأسمائها، وإطار روائي يؤطّر ذلك المحتوى، في علاقة جدلية بين السِّيَري والروائي. وبكلمة أخرى، "طفل بلا حكاية" سيرة ذاتية / غيرية في إطار روائي.

 بمعزل عن إشكالية النوع الأدبي التي يثيرها الكتاب، تتمحور أحداث التجربة الأميركية حول تيمبل، المولودة في 29 اوغسطس (آب) 1947، في بوسطن، لعائلة ثريّة؛ الأم يوستاتشا مغنّية وكاتبة أغانٍ، والأب ريتشارد وريث أكبر شركة لزراعة القمح في أميركا، وكلاهما خرّيج جامعة هارفرد. ومن البديهي أن يكون للوضع الاجتماعي للأسرة تأثير على المريض. غير أنّ العامل الإنساني يبقى هو الأقوى، ففي حين يُزمع الأب الصارم، العصبي، الأرستقراطي النشأة، وضع الابنة في مركز رعاية، ترفض الأم ذلك، وتنخرط في برنامج علاج متنوّع، تبدأ أُكُلَه بالظهور بعد سنتين اثنتين.

تتمظهر أعراض التوحّد في حالة تمبل في، التصلّب عندما تُحمَل، عدم الكلام والابتسام  والتواصل البصري، رفض الاحتكاك الجسدي، الحساسية الشديدة إزاء الأحداث، تجنّب البشر، النوبات العصبية، البصق على الأرض، التبوّل على السجّادة، تلطيخ الجدران، والخوف من التغيير، وغيرها. وتتعرّض للتنمّر في المحيط المدرسي، وتشعر بالاضطهاد في المخيّم التدريبي، وتكون موضع إشفاق أو نفور في المحيط الاجتماعي. وفي المقابل، تبدأ ميولها بالتبلور في مرحلة مبكّرة من العمر، وتنمو في المراحل العمرية المتعاقبة؛ فتبدي ميلاً إلى الفنون التشكيلية والأعمال اليدوية، وتبدو متعطّشة للحياة الرغيدة، وتميل إلى الأفكار الثابتة، وتشغف بالانتخابات، وتقرأ روايات الخيال العلمي، وتُبلي في المهارات العملية، وتهتمّ بنماذج الطائرات الصغيرة، وتعشق ركوب الخيل ورياضة التزلّج، وتُشارك في صناعة الأزياء المدرسية، وغيرها من الميول والاهتمامات. وبذلك، نكون إزاء شخصية روائية نامية تتطوّر باستمرار، ولم يستطع التوحّد الحؤول دون تحقيق أهدافها.

 

 

هذه الشخصية استطاعت أن تحوّل محنة المرض إلى نعمة الإنجاز، فوظّفت مرضها في اختراع جهاز يخفّف من ذعر الحيوانات المقتادة للذبح، وصنع جهاز أوّلي لمعالجة المصابين بالنشاط المفرط والاضطرابات الحسّية، وتصميم أحواض للأبقار المصابة بالجرب، وجابت مختلف الولايات الأميركية للحديث عن تجربتها، ووضعت الكتب المعبّرة عن هذه التجربة القاسية وكيفية مواجهتها، واستطاعت أن تكون مهندسة ومستشارة ومدرّسة ومحاضرة، ما جعلها موضوعاً لوسائل الإعلام والسينما والتكريم. وعلى الرغم من هذه الإنجازات، فإنّ أعراضاً معيّنة بقيت ملازمة لها، ولم تستطع التخفّف منها؛ فلم تستطع التفاعل مع الموسيقى والجمال الطبيعي، ولم تستطع قراءة الوجوه والسلوكيات البشرية، على سبيل المثال. وبكلمة أخرى، ثمة تحوّلات جذرية طرأت على الشخصية، خلال مسيرتها الشاقة، يمكن اختصارها بالقول إنها تحوّلت من فتاة تكسو جدران غرفتها بفضلاتها إلى أستاذة جامعية يسمع العالم بإنجازاتها.

 هذه النتائج ما كان لها أن تتحقّق لولا آليات علاج مناسبة، وبرامج رعاية متنوّعة، تخضع لها تمبل في البيت والعيادة ومركز الرعاية والمخيّم والمدرسة والثانوية والجامعة، وتتراوح بين التدريب على النطق والتربية الخاصّة والمعالجة النفسية والبرنامج البيتي والعمل البدني والرياضة الجسدية والعلاج الذاتي والدواء، وتجمع بين العلاج الطبي والنفسي والجسدي والسلوكي والتربوي، وتنخرط فيها مجموعة من الشخوص، كلٌّ من موقعه. على أن شخوصاً ثلاثة منها تلعب أدواراً مؤثّرة في حياة البطلة المريضة؛ فالأم تقوم بدور محرّك الأحداث، ومنسّق الأنشطة العلاجية، والمحفّز على تحقيق التقدم العلاجي، وهي تفعل ذلك، بدافع من غريزة الأمومة الطبيعية، فتضحّي في سبيل ابنتها، وتبذل دون شفائها الممكن والمستحيل،  وتمثّل صورة نموذجية للأم، بدءاً من رفضها وضع ابنتها في مركز رعاية، مروراً بمواكبتها في كلّ مراحل العلاج، وانتهاءً بتحقيق أهدافها، وهو ما لم يقم به الأب الذي يشكّل حضوره حفل تخرّج ابنته من الجامعة تكفيراً لاحقاً عن تقصير سابق بحقّها واعترافاً متأخّراً بتفوّقها.

الشخصية الثانية التي تلعب دوراً في حياة تمبل هي السيد كارلوك أستاذ العلوم ورئيس نادي الصواريخ في الثانوية؛ فهو حين يلاحظ مواهبها في الميكانيكا والهندسة يأخذ بيدها ويرعاها ويعزّز ثقتها بنفسها، ويشرح لها تفاعلات الآخرين وسلوكيّاتهم، ويؤثّر في خياراتها ومستقبلها العلمي. وهو حين تنتقل إلى الدراسة الجامعية يشير عليها بملفّات علمية تفيدها ويبقي بابه مفتوحاً لها. أمّا الشخصية الثالثة التي تؤثّر فيها فهي شخصية القسّ في كنيسة الثانوية، فعلى الرغم من الحضور الهامشي لها في المتن الروائي، تُشكّل نقطة تحوّل في مسار البطلة، ذلك أنّها حين تسمع عظته التي يرد فيها قول الكتاب المقدّس: "أطرق الباب، وهو يستجيب لك"، ينزل القول عليها كوحي، فتدرك أنّ لها باباً ستطرقه، وهو ما يحصل بالفعل. وهكذا، نكون إزاء ثلاثة دوافع جعلت البطلة المريضة تمضي قُدُماً نحو أهدافها؛ أُسَري تمثّله الأم، تربوي يتمظهر في أستاذ العلوم، وديني يتجسّد في قسّ الكنيسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، تتمحور أحداث التجربة الفرنسية في مواجهة التوحّد حول شخصية بول، ابن الكاتبة، المولود في 6 سبتمبر (أيلول) 2013، في باريس، لأسرة متوسّطة، الأم فيها صحافية وكاتبة، والأب مدرّس وباحث. وتتمظهر أعراض التوحّد في حالة بول، في البكاء الدائم، رفض النوم، عدم الاستجابة للنداء، عدم التواصل البصري، الهرب من الحدائق، الاندفاع في الطريق، رمي الأشياء، الصراخ، ضرب الرأس بالأرض، الضحك الهستيري، التعرّق الجسدي، عدم الإشارة بالإصبع، غياب التواصل اللفظي وغير اللفظي، عدم الاهتمام بالأطفال والمشاركة في الألعاب، عدم تقليد الآخرين، رفض التغيير، الركود في التعلّم، التراجع في اكتساب المهارات، وغيرها. وهنا، نلاحظ أنّ الحالتين المرضيّتين، اللتين تفصل بينهما ستّة عقود ونيّف وآلاف الكيلومترات، تتقاطعان في بعض الأعراض المَرَضية، وتفترقان في بعضها الآخر. وهو ما ينطبق جزئياًّ على آليّات العلاج التي تحصل في البيت والمدرسة والمستشفى والمعهد الطبّي التعليمي ومؤسّسة الحماية من العالم الخارجي، وينخرط فيها الوالدان والمعالج النفسي وفريق متعدّد الاختصاصات. غير أنّ النتائج لا تكون على قدر الجهود المبذولة، وهنا نقطة افتراق كبيرة بين الحالتين، ففي حين تستطيع تمبل تجاوز مرضها وتنجح في تحويله إلى نعمة وتُحدث انقلاباً في المفهوم العالمي له، يخفق بول في ذلك، وما إن يحقّق تقدّماً طفيفاً في اكتساب مهارة معيّنة حتى ينتكس من جديد ويعود إلى نقطة البداية، ما يجعلنا نستنتج تقدّم التجربة الأميركية في مواجهة المرض على التجربة الفرنسية، وهو ما تقوله الكاتبة تلميحاً وتصريحاً.

هذا ما يحصل على الرّغم من الجهود الكبيرة التي بذلها والدا بول اللذان يُضطرّان إلى متابعة دورات تدريبية كثيرة للعناية بمرضى التوحّد، ويدرسان الخصائص المعرفية للمرض ومبادئ تحليل السلوك، وينسيان نفسيهما في غمرة الاهتمام بالابن، ويستنفدان طاقتهما على العمل، ويرزحان تحت أعباءً مالية لا قِبَلَ لهما بتحمّلها. وحين تتكلّل جهودهما بالفشل الذريع، يشعر الأب بالاكتئاب، وتشعر الأمّ بالعجز، ويشعر كلاهما بالغضب والحزن والتعب. وهو ما لم يحدث مع الأسرة الأميركية الغنية، على مستوى الآليات والنتائج. وعلى الرّغم من الفشل الذريع في الحالة الثانية، فإنّ الأُمّيْن تتقاطعان في التضحية والتفاني وبذل الذات، وتقدّمان صورة مشرقة عن الأمومة، بمعزل عن الوضع الاجتماعي لكلٍّ منها. أمّا الأبوان فترجح كفّة أدريان المدرّس والباحث في الحالة الثانية على كفّة ريتشارد التاجر الغني في الحالة الأولى؛ ففي حين يضيق الأخير ذرعاً بحالة ابنته ويلقي بعبء الاهتمام بها على زوجته، يقوم الأوّل بواجباته جنباً إلى جنب مع زوجته، ومع هذا يحصلان على نتائج مختلفة.    

"طفل بلا حكاية" رواية إطارية لمحتوى سِيَري، تلقي الضوء على معاناة شريحة من الناس حول والعالم، والأعباء الكبيرة التي يرزح تحتها ذووهم، وتحفل بالكثير من الحقائق والمعلومات المتعلّقة بمرض التوحّد وآليات علاجه، ما يقدّم الفائدة فيها على المتعة، ويجعلها جديرة بالقراءة.      

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة