هناك من يعتبره "أعظم مؤلف سيمفوني ظهر عند نهاية القرن الـ19"، وهناك من يرى أنه "الأردأ بين المؤلفين الموسيقيين في كل الأزمان". ومن المؤكد أن أصحاب هذا الرأي الأخير لا يقلون مغالاة عن أصحاب الرأي الأول. فجان سيبيليوس الموسيقي الفنلندي الأشهر خارج بلاده لم يكن لا هذا ولا ذاك: كان بالتأكيد موسيقياً متميزاً، غير أن قيمته بالطبع لم تنبع من سيمفونياته (التي يبلغ عددها سبعاً، وهناك دائماً بحث عن ثامنة يقال إنها موجودة لكنها ضاعت)، ولا حتى من روعة موسيقاه (وبعض أعماله لا يخلو من روعة)، بل من ذلك المزج الذي برز لديه، لا سيما خلال العشرية الأخيرة من القرن الـ19، بين الإبداع الموسيقي والحس الوطني، وهو ما تجلى في أعمال عدة له عرفت كيف تستوحي الأساطير الفنلندية البطولية القديمة، والفولكلور الموسيقي الشعبي في بوتقة واحدة. وفي الأحوال كافة، يمكن القول إن سيبيليوس الذي عاش حتى عام 1957 (من دون أن ينتج شيئاً مهماً خلال الأعوام الـ30 الأخيرة من حياته)، كان آخر المؤلفين الكبار للسيمفونيات في تاريخ هذا الفن، لا يضاهيه في هذا اللقب، وجزئياً، سوى الأميركي جورج غرشوين، حتى وإن لم يكن في الإمكان عزو سيمفونيات حقيقية إلى هذا الأخير.
إبداع ينهل من الفولكلور
إذاً، فإن إبداع جان سيبيليوس الحقيقي الكبير، كان إبداعاً وطنياً، وتركز إنتاجه في هذا السياق خلال عقد من عمره، لا أكثر. وتروي الحكاية أن كل هذا بدأ لدى سيبيليوس ذات يوم حين كان في ألمانيا، وقيض له أن يستمع إلى سيمفونية تدعى "آينو" وضعها مواطنه كايانوس في استيحاء مباشر من ملحمة "كاليغالا" الشعبية الفنلندية. صحيح أن هذا العمل لم يكن كبيراً، لكنه أيقظ سيبيليوس، الآتي يومها من بلد خاضع للاحتلال الروسي ومحاولاً أن يثبت هويته القومية سلاحاً له في مقارعة ذلك الاحتلال، أيقظه على إمكان استنهاض همم الشعب المقاوم من خلال استعادة أزهى فصول أساطيره البطولية القديمة وتحويلها إلى أعمال موسيقية. وكانت تلك هي البداية التي جعلت سيبيليوس يطلع على "شعبه" بعد فترة بأعمال عدة هي التي صنعت مجده الكبير، وبوأته مكانته في الموسيقى العالمية، لكنها في الوقت نفسه جعلت منه معلماً وبطلاً قومياً في بلاده. ومن أبرز هذه الأعمال "فنلنديا" و"ساغا" (ملاحم)... وهما العملان اللذان نتوقف عندهما هنا.
"ساغا" هو الاسم الذي أعطاه سيبيليوس لتلك الحلقات الأربع التي وضعها عن حياة البطل الفنلندي الأسطوري "ليمنكاينن" وبطولاته، الذي نجد أجزاء كثيرة من ملحمة "كاليغالا" تروي حكاياته والتضحيات البطولية التي قدمها، في الأزمان الغابرة من أجل وطنه. وسيبيليوس وضع ألحان هذه الحلقات بين عامي 1893 و1895، غير أنها لن تقدم للمرة الأولى إلا في عام 1896، وبعد تعديلات عدة أدخلها المؤلف عليها. أما الترتيب النهائي الذي أعطاه لها فهو على النحو التالي: الحلقة الأولى "ليمنكاينن والصبايا" وتضم النشيدين الـ11 والتاسع والـ20 من "كاليغالا"، الحلقة الثانية "ليمنكاينن في نوونيلا"، الحلقة الثالثة "بجعة نوونيلا" وفيها النشيد الـ14، والحلقة الرابعة "عودة ليمنكاينن" وتضم النشيد الـ30. والحال أنه من بين هذه "القصائد السيمفونية" الأربع، التي رفعت إلى مصاف الموسيقى القومية من قبل الشعب الفنلندي، وتتسم جميعها باستيحاء فولكلوري واضح، وحدها الحلقة الثالثة "بجعة نوونيلا" عرفت انتشاراً عالمياً واسعاً، لا سيما بفضل "السولو" الذي يتكرر مرات عدة ويقوم به "الكور" الإنجليزي (في أعظم قطعة سولو كتبت لهذا الكور في تاريخ الموسيقى، وفق رأي كثر)، بالعزف الحزين والمؤثر، الذي تطفو فيه البجعة فوق نهر الموت وسط مناخ من الخراب والكآبة. والجدير ذكره هنا أن سيبيليوس عاد، طوال سنواته التالية، مرات عدة إلى هذا العمل الاستثنائي مضيفاً إليه ومعدلاً فيه، غير أنه لم يحدث لاحقاً أي تعديل في بنيته الأساسية القائمة على أساس مقاطع صغيرة تبدو أول الأمر، دائماً، وكأنها مشتتة عن بعضها بعضاً، لكنها سرعان ما تبدو مترابطة مع بعضها في صورة تدريجي، يحيلها إلى وحدة لا تنفصم، وهذا الأسلوب هو نفسه الذي يهيمن، أصلاً، على أولى سيمفونيات سيبيليوس.
سيمفونية لتمجيد الوطن
أما العمل الثاني الذي نتناوله هنا لسيبيليوس، والمنتمي إلى المجال الوطني والفولكلوري نفسه فهو "فنلنديا" وهي، أيضاً، عبارة عن قصيدة سيمفونية متكاملة، وضعها سيبيليوس بعد أعوام قليلة من وضعه "ساغا"، مستعيداً المناخات الوطنية نفسها، ومحاولاً كذلك أن يقدم إسهامه في النضال الوطني الفنلندي ضد المحتل الروسي، عبر استنهاض الهمم فنياً، والتركيز على بطولات شعبه وخصائصه. وهذا العمل هو في الأصل خاتمة "مشاهد تاريخية" موسيقية مشابهة لـ"ساغا" كان سيبيليوس وضعها في عام 1899، لكنها لم تلقَ النجاح الذي لاقته "ساغا" ولن تلقى ذاك الذي سيكون من نصيب "فنلنديا". وهنا، في هذا العمل الأخير، قصد سيبيليوس أيضاً أن تأتي موسيقاه لمصاحبة مشاهد حية تنتمي إلى مجد الماضي الفنلندي. وعلى رغم أن سيبيليوس اشتغل، على عادته، خلال سنوات طويلة على مزج وتفكيك وإعادة مزج هذا العمل ككل، وصولاً إلى تحويل المقاطع الستة الأولى من "مشاهد تاريخية" إلى متتاليتين على نمط الكونشرتو، فإنه أبقى لـ"فنلنديا" على استقلالها الدائم. والحال أن "فنلنديا" كانت من القوة والنجاح، منذ عزفها للمرة الأولى، بحيث إن سلطات الاحتلال منعتها من التداول طوال سنوات عدة. واضطر سيبيليوس، لكي يتمكن من تقديمها خلال جولاته، الفنلندية والأوروبية، إلى تبديل اسمها مرات عدة. ومن هنا فإن فرنسا، على سبيل المثال، عرفتها تحت اسم "الوطن". وهذا العمل يتخذ، كما أشرنا، شكل قصيدة سيمفونية كتبت للأوركسترا الكبيرة. أما "تيمتها" الأولى فهي عبارة عن مسيرة صامتة لجماهير الشعب المسحوق الذي يصر على المقاومة على رغم قوة المحتل. ويتلو تلك المسيرة ("المارش")، "نشيد" صاخب يعبر عن الأمل والعزم على مواصلة النضال بكل الوسائل حتى الوصول إلى النصر، وبعد هذا "النشيد" الذي يقدم منفرداً في أحيان كثيرة، تأتي صلاة حارة يؤديها أولئك، الذين بحسب وصف سيبيليوس "يجعلهم على إيمانهم بمثلهم الأعلى، واثقين من تحقيق النصر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيرة بطل وطني
ولسنا في حاجة هنا أن نشير إلى أن هذين العملين يوضعان، في فنلندا، بل في المناطق الاسكندنافية في صورة عامة، في مكانة تشغلها أكبر الأعمال الفولكلورية والأساطير البطولية التي تشكل الجزء الأساس من تراث هذه الشعوب. وهذا ما جعل لجان سيبيليوس، مكانة البطل القومي، هو الذي ولد في عام 1865، ودرس في مطلع شبابه الحقوق في الوقت نفسه الذي انضم إلى كونسرفاتوار هلسنكي، راغباً في أن يدرس التأليف الموسيقي، ومع هذا سرعان ما نجده وقد اتجه أولاً إلى دراسة العزف على الكمان، وهو ما برع فيه دائماً، وفضله أحياناً على ممارسة التأليف، لا سيما خلال الأعوام الـ30 الأخيرة من حياته. وخلال سنوات دراسته الأخيرة تمكن من الحصول على منح أتاحت له التجوال ودراسة الموسيقى في عدد من المدن الأوروبية مثل باريس وبرلين. وهو منذ بداية اهتمامه بالتأليف، اختار الاتجاه صوب الفولكلور البطولي، ومن هنا كانت الأعمال المستوحاة من الأساطير التقليدية من أول أعماله، بل إنه حتى رغم غوصه في مؤلفات "أقل وطنية"، سيعود دائماً إلى ذلك النوع من الأعمال كما تشهد على هذا قطعته الشهيرة "كاريليا" التي تحمل اسم مقاطعة فنلندية لم تتخلَ روسيا عنها أبداً، حتى عنها بعد جلائها عن بقية أراضي فنلندا.
30 عاماً من الكسل
وسيبيليوس كان في الـ31 حين اعترفت له السلطات الوطنية بعطائه مما جعلها تقدم له من العون ما مكنه من الانصراف إلى التأليف. فكتب الأولى في سلسلة سيمفونيات بلغت سبعاً، وكتبها خلال 30 عاماً، من دون أن يجد الخبراء ما يميزها كثيراً عن آخر رباعيات بيتهوفن. أما من بين أهم أعمال سيبيليوس غير السيمفونية وغير "الوطنية"، فيمكن أن نذكر كونشرتو الكمان الذي لفرط ما أعطي الكمان فيه القدرة على التسلل داخل المقاطع الأوركسترالية، اعتبره عازفو الكمان سيمفونية أكثر منه كونشرتو لآلتهم. ومن أعمال سيبيليوس الشعبية أيضاً المكتوبة لرباعية الوتر من مقام "د" صغير. والحقيقة أنه من غير الممكن تعداد كل ما كتبه سيبيليوس فهو كان خصب الإنتاج، حتى وإن كان أخلد إلى الدعة والتكاسل خلال سنوات حياته الأخيرة التي انتهت في عام 1957.