المطالبة الصارخة في الجنوب لعودة الحال إلى ما كانت عليه في 21 مايو (أيار) 1990 ليست جديدة، ولكن المؤكد أنها أضحت أكثر ضجيجاً وحضوراً في تفكير الأطراف كافة، سواء كانت متفقة أم معارضة لهذا المشروع.
استأثرت القضية الجنوبية بحيز مستقل في أعمال الحوار الوطني، ومثلها قضية صعدة، وكان ذلك مؤشراً على الخفة والانتهازية السياسيتين اللتين تحكمتا في تصرفات تلك المرحلة، التي أضحت ساحة للمزايدات والمساومات والابتزاز. في تلك الفترة، أقرت القيادات الحزبية أن للجنوبيين حقاً في تقرير مستقبل مساحتهم الجغرافية، ولكن في الواقع، لم يكن معظمهم جادين ولا مؤمنين بالفكرة، لكنهم تبنوها بعد أن فوضوا الرئيس هادي للتصرف، مقتنعين بمواهبه وقدراته للسيطرة على ما يدور في الجنوب مع علمهم أنه لا يمتلك مشروعاً قابلاً للتحقق.
أقرت القيادات الحزبية الإعلان عن خطأ حروب صعدة الست (2004- 2010)، وألقت بكل تبعاتها على الرئيس الراحل علي عبد الله صالح ونظامه، على الرغم من مشاركة عديد من أحزابهم بدرجة أو بأخرى في الحكم معه وفي معاركه. حينها، تبنوا شعار "مظلومية" صعدة التي صارت محجاً لكل من أراد التقرب إلى القوة الشابة الصاعدة والسلام على قائدها. ولم يتغيب عن تلك الزيارات أي قائد حزبي، وذهبوا جميعهم بلهفة وشوق شديدين من دون تبصر ولا قراءة للتاريخ.
ظل الجنوب مسألة متصاعدة بلغت مداها الأخطر بعد حرب صيف 1994، التي أقصت الحزب الاشتراكي، شريك الوحدة اليمنية، وأزاحت عناصره عن المناصب الرئيسة السياسية، واستبدلت بهم عناصر طيعة لا تمتلك قاعدة شعبية في الجنوب، وشكل يوم 7 يوليو (تموز) 1994 شرخاً حقيقياً عميقاً أصاب الوحدة اليمنية في مقتل لم تبرأ منه، ولربما شكل مسمار نعشها.
ما حدث بعد ذلك التاريخ، كان سلسلة من الإجراءات الانتقامية والإقصاء والإبعاد، بل والتحريض على كل صوت معارض للحرب ونتائجها. من هنا، تصبح الأحداث والحراك في الجنوب نتيجة طبيعية لسياسات خاطئة كان من الممكن معالجتها في حينه، لكن الأمر تجاوزها اليوم وصار من الحكمة تدارك مزيد من الصراعات الدامية التي ستفوق في قبحها ما نراه اليوم.
في بداية مؤتمر الحوار الوطني، تشكلت لجنة من 40 عضواً مناصفة بين الشمال والجنوب، لدراسة كيفية معالجة القضية الجنوبية. وتم اختصارها فيما بعد إلى 16 عضواً (ثمانية جنوبيين وثمانية شماليين)، وترأسها جمال بنعمر المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة. ولم تتمكن اللجنة المصغرة من التوصل إلى اتفاق مرضٍ للطرفين، إذ أصر خمسة من الأعضاء الجنوبيين (رضية شمشير، وخالد بامدهف، ولطفي شطارة، وبدر باسلمة، ومحمد علي أحمد) على أن يكون الخيار إقامة دولة اتحادية من إقليمين (شمالي وجنوبي بخطوط 21 مايو 1990)، ثم يجري استفتاء بعد فترة زمنية محددة حول الاستمرار أو الانفصال.
رفض الرئيس هادي، وعدد من الجنوبيين المحسوبين على عدد من الأحزاب المشاركة في اللجنة، هذا الخيار، فقرر الخمسة الانسحاب من المؤتمر واستبدل بهم جنوبيين موالين له (ياسين مكاوي، وغالب مطلق، ورياض ياسين، وخالد باراس)، تمكن من التفاهم معهم على السير حسب الخطوط التي يحددها ويرسمها لتحركاتهم ولمواقفهم. بعدها، فرض ياسين مكاوي نائباً لرئيس المؤتمر عن المكون الجنوبي بديلاً من محمد علي أحمد، الذي جاء هو الآخر بعد استقالة الشيخ الراحل أحمد فريد الصريمة.
اليوم، أيضاً، لم يعد أحد يقول إن فكرة الانفصال أو استعادة الدولة أمر محرم لا يجوز تناوله والخوض فيه، وفي الوقت نفسه لن يحدث إلا بفرض أمر واقع بالقوة يستبعد كل ارتباط مع الطرف الآخر (الجمهورية اليمنية). وفي خضم الحرب الحالية الدائرة، التي تنخرط فيها قوات الحكومة المعترف بها دولياً والتحالف ضد الحوثيين، فإن إنجاز حل للقضية الجنوبية سيبقى معلقاً، لأن المزاج الإقليمي والدولي ليس مهيئاً في هذه اللحظة لمناقشة تفاصيلها قبل توقف أصوات المدافع والتعاطي مع نتائج الحرب النهائية.
في هذه المرحلة، من الواجب التنبيه إلى ما يتخذه "المجلس الانتقالي" من إجراءات وتعيينات وقرارات غير توافقية مع الحكومة المعترف بها دولياً، إذ إنها ستخلق أوضاعاً أشد تعقيداً ليس في مقدور الطرفين تحمل تبعاتها المالية والاجتماعية والسياسية بعد التوصل إلى اتفاق قد يلبي رغبة الانتقالي. وهو أمر يماثله ما تقوم به جماعة أنصار الله الحوثية في مناطق سيطرتها. وسيؤدي هذا الركام المتصاعد من التصرفات الخارجة عن مفهوم المؤسسة والدولة وقوانينها وإجراءاتها إلى تضخم مخيف في أعداد العاملين في الجهازين العسكري والمدني، وسيمثل قنبلة ستنفجر في وجه الجميع، ولن يكون بمقدور أحد مواجهتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا أشك في أن "المجلس الانتقالي" أصبح لاعباً رئيساً معترفاً به إقليمياً ودولياً في الساحة اليمنية جنوباً وشمالاً، ولكن عليه استيعاب أنه لا يمتلك الأدوات اللازمة حالياً، وأنه غير قادر على ممارسة دور السلطة الكاملة الصلاحيات. ولهذا، هو يصر على عودة الحكومة إلى عدن بعد تضييق الخناق عليها في الفترات النادرة القصيرة التي قضتها في عدن وإجبارها على الخروج إلى المهجر، مع تأكيده المستمر أن مهمتها الوحيدة المتاحة هي تقديم الخدمات وصرف المرتبات.
إن مجمل الموارد التي يستطيع "المجلس الانتقالي" توفيرها محلياً لن تسمح له القيام بما يكفل منحه قدرة إدارة، التي يرغب بها، على المؤسسات التي يقضمها تدريجاً من دون مقاومة فعلية من الحكومة. وهو أمر سينعكس عليه سلباً، وسيتسبب في إرباك الأنشطة والمحاولات التي تسهم في التخفيف من معاناة الناس وستصيب مشروعه في مقتل، كما لن تكفي لتسيير الخدمات ودفع المرتبات.
بعد هذه الفترات من الحروب والصراعات، لم تعد القضية الجنوبية اليوم مسألة إصدار تشريعات ونصوص قانونية لمعالجة أوضاع وظيفية لعدد من الأفراد، وتحتاج إلى رؤية أكثر تبصراً وعقلانية، مع ضرورة الوعي بأن هذا لا يعني أن الإجراءات التي يقوم بها "المجلس الانتقالي" ستساعد في التوصل إلى مخرج يتوافق عليه الجميع في إطار يحفظ الحقوق لمجموع اليمنيين شمالاً وجنوباً.
ومن المهم أن يعي "المجلس الانتقالي" أن مشروع قيام الدولة، التي يطمح إليها، غير قابل للتحقق من دون تفاهمات مع شركاء وجيران الرقعة الجغرافية التي ينوون قيام دولتهم عليها. كما أنها غير قابلة للإنجاز والنقاش قبل توقف الحرب نهائياً والتعرف إلى الأطراف التي ستجلس إلى طاولة المفاوضات. وبين الرغبة والواقع المعقّد، على "الانتقالي" أن يضع العقلانية والتعقل أمام طموحات جامحة ربما حطمت آماله.