Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصين العالقة بين الاقتصاد الحر والحرية الموجهة

التفاوت التنموي بين المدن والريف هو الأكبر من نوعه في العالم

حافظت الصين على مجتمع الفلاحين على الرغم من الصعود الهائل للصناعات خلال عقود قليلة (أ ب)

يستطيع كل شخص، ولو لم يكن متابعاً للأخبار، أن يكون صورتين متناقضتين عن الصين؛ الأولى هي أنها بلد يحكمه الحزب الواحد، حيث "ديكتاتورية الطبقة العاملة" وقمع الحريات العامة وحرية التعبير وعدم احترام مواثيق حقوق الإنسان، والصورة الثانية هي أن هذا البلد خرج من الفقر المدقع إلى الثراء الواضح، ومن النمو السلبي إلى نمو اقتصادي غير مسبوق في التاريخ، وحافظ على مجتمع الفلاحين على الرغم من الصعود الهائل للصناعات خلال عقود قليلة.

ثراء وقمع بالتوازي

يرجع البعض النمو الاقتصادي الصيني إلى "الحكم الحديدي"، وهذا بعضه صحيح، لكن ليس كله، ويعتبر البعض الآخر أن الانفتاح الاقتصادي سيؤدي إلى التحرر من سلطة الحزب الواحد، وهذا بعضه صحيح أيضاً. وقسم آخر يرى أن التحرر والانفتاح الاقتصادي يسيران بالتوازي، وهذا هو التحليل الأقرب إلى الواقع، بحسب معظم الاقتصاديين ودارسي الصعود الصيني.

والصين نفسها تعمل في هذين المضمارين المتناقضين، أي الدفاع عن سياساتها الداخلية ومطالبة الأمم الأخرى باحترام سيادتها ودستورها وقوانينها الداخلية من جهة، والعمل بشكل حثيث على تحسين علاقاتها الدبلوماسية بدول العالم عبر مشروعها الضخم "طريق الحرير الجديد"، أو عبر تقديم مساعدات للدول الفقيرة والنامية أو الخضوع لمتطلبات التجارة الدولية وقوانينها.

في حقوق الإنسان

كل المنظمات الدولية العاملة في مجالات حقوق الإنسان أو حرية التعبير وحقوق الأقليات، سواء الخاصة أو التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، لديها ما تقوله في مواجهة الصين، طالما أن الحكومة الصينية تمارس حملات قمع قاسية ضد المعارضين أو المدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، أو عبر فرض قوانين الدولة المركزية على الأقليات العرقية. وكان لتفشي فيروس كورونا في مدينة ووهان نصيبه من التعليقات الدولية التي اعتبرت أن السياسات الصينية كانت فاقدة للشفافية في نشر المعلومات حول هذا التفشي ومن بعده حول الإصابات، وخصوصاً أن السلطات قمعت أطباء ومخبرين وصحافيين، ومنعتهم من الإدلاء بأي معلومات لا تخضع لمراقبة وموافقة الحكومة. وبالطبع، فإن إقرار قانون الأمن القومي في هونغ كونغ وإلزام الحكومة في هذه المدينة بتنفيذه على الرغم من تمتعها باستقلال ذاتي، أدى إلى التضييق على حرية التعبير في هذه المستعمرة الإنجليزية السابقة. وخرجت التظاهرات بشكل كثيف اعتراضاً، ولكن تم قمعها بشدة، قبل أن يأتي الإقفال الإجباري بسبب كورونا لينهي هذا الكر والفر بين الشرطة والمتظاهرين.
 


وما تعترض عليه المنظمات الدولية ليس فقط الترهيب والاختفاء القسري والاحتجاز التعسفي والسجن مدداً طويلة، بل أيضاً تعريف الجرائم تعريفاً فضفاضاً وفق صياغة غامضة مثل "تخريب سلطة الدولة"، و"التحريض على تخريب سلطة الدولة" و"افتعال المشاحنات وإثارة المشاكل". هذا بخصوص الأفراد، أما بخصوص المناطق والأقليات العرقية فتستخدم تعابير لتبرير القمع مثل "محاربة النزعة الانفصالية" و"مكافحة التطرف والإرهاب"، لدى الإيغور والكازاخ، وغيرهم من الشعوب التي أخضعت للتلقين السياسي، والاندماج الثقافي القسري في مراكز "إعادة التأهيل من خلال التعليم". وفي منطقة التيبت ذات الحكم الذاتي التي ما زال الدخول إليها أو الخروج منها مقيداً بشدة، لا سيما بالنسبة للصحافيين والأكاديميين ومنظمات حقوق الإنسان، ما جعل من الصعب للغاية التحقيق في وضع حقوق الإنسان وتوثيقه في المنطقة.

النهضة الاقتصادية

لم تحدث نهضة الصين التي يشهدها العالم اليوم بين ليلة وضحاها. لقد كانت البداية في عام 1919 حين انطلقت ثورة شعبية على المعاهدات غير المتكافئة التي فرضت على البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، شارك فيها صينيون من مختلف الفئات في كل أنحاء البلاد الشاسعة. وبعد انتشار الفكر الماركسي تأسس الحزب الشيوعي الصيني في عام 1921، على يد ماو تسي تونغ و11 شخصاً آخر، بصفتهم ممثلين للجماعات الشيوعية في مختلف المناطق. وبعد تسلم هذا الحزب الحكم في البلاد إثر تحريرها من اليابان، أعلن القائد الصيني التاريخي ماو تسي تونغ، رئيس الحكومة الشعبية، تأسيس جمهورية الصين الشعبية رسمياً. وهو صاحب مقولة "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة". وكان هذا الإعلان بمثابة تلك الخطوة.

منذ ذلك الوقت بدأ العمل على خطط الإصلاح الزراعي في المناطق التي يقطنها أكثر من 90 في المئة من المزارعين في البلاد كلها، وتم توزيع الأرض على الفلاحين ضمن الخطة الخمسية الأولى التي حققت إنجازات كبرى. فارتفع الدخل الوطني، وتم بناء مجموعة صناعات أساسية لم يكن لها وجود في ذلك البلد سابقاً، ومنها صناعة الطائرات والسيارات والآلات الثقيلة والدقيقة ومعدات توليد الكهرباء ومعدات التعدين والمناجم وسبائك الفولاذ الممتاز وصهر المعادن غير الحديدية، وغيرها.
بدءاً من عام 1976، بدأ عهد المجدد الأول في سياسات الحزب الشيوعي الحاكم، دنغ شياو بينغ، وبدأت الصين تطبيق سياسة "الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي"، وبواسطة إصلاح النظام الاقتصادي والسياسي، حددت بالتدريج طريق بناء تحديثات اشتراكية ذات خصائص صينية، فطرأت تغييرات عميقة على الصين وتطور اقتصادها تطوراً سريعاً رفع مستوى معيشة الشعب الصيني ارتفاعاً واضحاً. وكان لعودة العلاقات الدبلوماسية الصينية - الأميركية في عام 1979 يد طولى لهذا التبدل الكبير، فقد وجدت الصين سوقاً لمنتجاتها، وفتحت الباب أمام الاستثمارات الأجنبية التواقة للاستفادة من العمالة الرخيصة والإيجارات المنخفضة في الصين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على سبيل المثال، بلغت في عام 1978، قيمة صادرات الصين 10 مليارات دولار فقط، أي أقل من 1 في المئة من حجم التجارة العالمية، ولكن في عام 1985، بلغت قيمتها 25 مليار دولار، وبعد عقدين فقط ارتفعت إلى 4.3 تريليون دولار، مما جعل الصين أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم.

وفي التسعينيات، بلغت نسبة نمو الاقتصاد الصيني مستويات قياسية. وانضمت البلاد إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 فانحفضت التعرفات الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية في شتى البلدان، مما أدى إلى انتشار السلع الصينية في كل مكان بالعالم.

وأدت الإصلاحات الاقتصادية في الصين إلى تمكين ما يزيد على المليار من الصينيين من الخروج من دائرة الفقر، ومحو الأمية بشكل كامل مع فرض التعليم الإلزامي على كل الشعب.

ويقول ديفيد مان، كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك "ستاندرد تشارترد"، إنه "منذ نهاية السبعينيات إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ".

... وللتقدم مساوئه

القاعدة الشيوعية التي تقول إن مقابل الثراء يتشكل الفقر، أصابت الصين الشيوعية نفسها، ولكن هذه المرة بشكل مخفف، إذ أدت إلى زيادة أعداد الأثرياء الصينيين بشكل مطرد من دون زيادة أعداد الفقراء، ولكنها خلقت تفاوتاً اجتماعياً كبيراً، في دولة كان معظم سكانها من الفقراء قبل عملية التحديث. ففي بلد الـ1.3 مليار نسمة، تظهر نماذج الثراء الفاحش بشكل ساطع، وتنمو الطبقة الوسطى في جميع أنحاء البلاد، ولكن تزداد الفروق الطبقية بين المدن والريف، وفي داخل المدن نفسها. وبحسب البنك الدولي، فإن متوسط الدخل الفردي في الصين ما زال في مستوى نظيره في الدول النامية، وهو يكاد يبلغ ربع الدخل في الاقتصادات المتقدمة (يتأثر حساب متوسط الدخل بعدد السكان أيضاً).

والتفاوت التنموي بين المدن والريف في الصين، هو الأكبر من نوعه في جميع أنحاء العالم. ففي العقود الأخيرة توافد الملايين من سكان الأرياف الفقراء إلى شرق البلاد، حيث المدن الرئيسة التي كانت تشهد طفرة عمرانية هائلة.

في هذا الإطار يسمح للعمال والفلاحين بالاحتجاج في ظل سلطة الحزب الواحد، فيأخذ التململ الاجتماعي شكل احتجاجات يقوم بها بين الفينة والأخرى، عمال وفلاحون يشدون الرحال إلى العاصمة بكين من المناطق البعيدة في البلاد، من أجل تقديم العرائض والالتماسات للسلطات لإنصافهم في قضايا فساد ومصادرة أراضٍ وإخلاء أملاك. ومثل هذا التفاوت الاجتماعي والفساد الذي استشرى، بطبيعة الحال، في أحد أقوى اقتصادات العالم، منح الرئيس الصيني الحالي شي جيبينغ القدرة على الحصول على صلاحيات استثنائية لإدارة البلاد تحت راية محاربة الفساد والعودة إلى القواعد الأساسية التي أرست القفزة النوعية الصينية في العالم.