Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جانب أكثر خفة من شخصية بوب ديلان

الشاعر الجوال بلغ اليوم عمر الثمانين، وإزاء الجدية الكثيرة التي ستتناول عبقريته [قدرته على الإبداع] الثابتة، يكتب ديفيد ليستر عن وقائع تشير إلى "شخصيته الكوميدية"

ديلان:" أنا أرضى بالفوضى. ولا أعلم إن كانت الفوضى ترضى بي" (غيتي)

في 24 مايو (أيار) يبلغ بوب ديلان عمر الثمانين. الإشادات بـ "الرجل الذي بقي فتياً طوال حياته" (نعم، استخدم، من الآن، عنوان أغنية من أغنياته) ستكون كثيرة. وستحتفي تلك الإشادات بموسيقي لا يُضاهى، وبكاتب أغنيات، وشاعر، ومحتج، ومبتكر، ومؤد، وحائزٍ على جائزة نوبل للأدب. لكن ما إن تبدأ مقاربات الانبهار الجدية والرصينة بـ ديلان بالظهور، فأنا لا يمكنني إلا التفكير بموضوع سمعته من منظور صديقته، كريسي هايندي، من فرقة "ذا بريتينديرز" The Pretenders. إذ قالت كريسي: "ما لا ينتبه إليه الناس في بوب، هو أنه شخص كوميدي".

حسناً، قد يكون هناك العديد من الأقوال الصادرة من ديلان، التي ربما فكرت كريسي بها حين قالت ذلك. مثلًا: "لا أحد حرٌ. حتى الطيور مقيدة بالسماء"، أو "أنا أرضى بالفوضى. ولا أعلم إن كانت الفوضى ترضى بي". أو ربما "بعض الناس يشعر بالمطر. بعضهم الآخر يبتل وحسب".

كما أن فرضية كريسي ترى أن العديد من الأقوال الأكثر غموضاً، الصادرة من ديلان، جاءت عن عمد، كي تبدو كدعابات خاصة (يبتكرها هو). بالتالي يمكن لـ ديلان، بالتأكيد، أن يكون شخصية كوميدية. كما أنه مر، على مدى تجربته، ومن دون قصد، بمواقف كوميدية كثيرة. وأنا، عبر حديثي مع المقربين منه، ومع الأشخاص العاملين في شركة التسجيلات خاصته، وعبر مراجعة الكتب الكثيرة التي تناولته، وقعتُ على العديد من تلك المواقف التي بقي بعضها مجهولاً تماماً. إلا أنها مواقف تظهر "جانباً آخر من شخصية بوب ديلان" (هنا أيضاً عنوان أسطوانة له!)

إحدى قصصي المفضلة من بين تلك المواقف هي التي أخبرتني عنها إنسانة رافقت ديلان خلال جولة في أستراليا قبل بضع سنوات. إذ إن تينا تيرنير كانت أيضاً في تلك الجولة، وقد أعجب ديلان بواحدة من معاوناتها الأستراليات. وحين نزل ديلان عن المسرح سأل تلك المعاونة "هل أعجبك العرض؟" بلكنة أسترالية قوية وبمقدار مماثل من الإزدراء أجابت المعاوِنة: "لا، لم يعجبني!" بيد أن الرجل العظيم لم يربكه الجواب. فسألها "لمَ لا؟" أجابته من دون مواربة "لأنك لا تتكلم إلى الجمهور. ولا تلقي السلام، ولا تقول تصبحون على خير". أجابها "أنا لست فرانك سيناترا". فردت "ينبغي أن تكونه (سيناترا)" ومشت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي أمسية اليوم التالي، خلال عرضه الثاني ضمن جولته الأسترالية تلك، أدهش ديلان الجمهور بأدائه لأغنية "ماي واي" (طريقتي) My Way (أغنية شهيرة لفرانك سيناترا). تسجيلات ذاك الأداء (خلال تلك الحفلة) يمكنها تحقيق أرباح كبيرة في السوق السوداء.

موقف آخر من تلك المواقف، التي يتمنى المرء لو حضرها، هو حين كان بوب ديلان على المسرح مع المغني بونو (قائد فرقة "يوتو" U2). وكان الأخير يؤدي أغنية ديلان الكلاسيكية "بلوينغ إن ذا ويند" (يتطاير في الرياح) Blowin’in the Wind. ووفق صديق للفنان كان حاضراً غنى بونو المقطع الافتتاحي بحسب الأصول "كم من الدروب على الرجل أن يسلك، قبل أن تعتبرونه رجلًا؟" How many roads must a man walk down، وهو بكل ثقة أعاد المقطع مرة تلو الأخرى "كم من الدروب، كم من الدروب، كم من الدروب" – لكنه إذاك لم يكن يتناغم من الكورس، الذي أكمل المقطع التالي "الجواب يا صاحبي، يتطاير في الرياح" The answer, my friend, is blowing in the wind. وقد غدا ديلان في تلك الأثناء بالغ الشحوب، واعتراه ملمح ذعر لا يظهر في العادة على وجهه المألوف، الذي يحاكي وجه لاعب بوكر.

وديلان في العادة هو من كان يطلق الدعابات، أو يحاول إطلاقها، أمام الصحافيين الذين لا يتوقعونها، أو أمام جمهوره. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 قال لصحافي مجلة "نيوزويك": "أنا لا أعرف أهلي. وهم لا يعرفونني. لقد فقدت الصلة بهم لسنوات طويلة". ولسوء حظه اكتشف صحافي "نيوزويك" الجريء، أندريا سفيدبيرغ، أن أهله (أهل ديلان) في الحقيقة كانوا ينزلون بفندق قريب (من مكان إجراء المقابلة)، وقد دعاهما بوب لحضور حفلته في "كارنيغي هول".

وديلان كان أخبر معظم مقابليه الأوائل أنه هرب مرات عدة، منذ سن العاشرة، من بيته العائلي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1964 قال لمجلة "نيويوركر": "عندما كنت في الثالثة عشرة، سافرت ضمن (موكب) كارنفال من مينيسوتا العليا إلى شمال وجنوب داكوتا". على أن تلك المعلومة انتظرت حتى عام 2005، أي طوال 41 سنة، كي يعود ويصححها في ما بعد. إذ ما قصده بذلك كان أنه "شاهد" (أو حضر) كارنفالات.

بعدها جاءت قصة توقيفه ذات مرة، حيث طلب منه إبراز هويته. وتلك القصة كُتب عنها، بيد أنها تبقى مسلية. إذ لـ ديلان ولع كبير في استكشاف البلدات والمدن التي يبلغها، وقد كان حب الاستكشاف هذا، إلى حين [اندلاع جائحة] كوفيد، رحلته التي لا تنتهي. لذا، كما تفترض هوايته، وفي عام 2009، في لونغ برانتش، نيوجيرسي، ذهب بوب في نزهة سيراً على الأقدام  ليجول في شوارع المدينة. لكن الأمر الذي لم يكن اعتيادياً هناك في ذلك الوقت، فاستثار انتباه الشرطة.

وهنا، جاء دور الشرطية كريستي بابيل، التي لا يتخطى عمرها الـ 22 سنة، وغير الضليعة بنجوم الروك الذين كانوا نجوم جيل أهلها. وكريستي خلال تأديتها الخدمة في ذلك اليوم اشتبهت، كما تقول، بشخص اعتبرته "مسناً غريب الأطوار" يمشي ويجول تحت المطر. واستعادت بابيل الواقعة في حديث مع "آ بي سي نيوز"، فقالت: "لم أكن متأكدة من أنه جاء من أحد المستشفيات أو ما شابه. كان يتصرف بطريقة تثير الشبهات. لم يوحِ بأنه ضائع، بل بدا مثيراً للشبهات. فالمطر كان غزيراً ومجنوناً [على نحو طوفان]".

هكذا قامت بابيل بتوقيف ديلان واصطحبته إلى فندقه كي يبرز هويته، ثم اتصلت بمركزها كي تتأكد من هوية بوب ديلان هذا. وكما يذكر إيان بيل في السيرة الحاسمة التي كتبها بعنوان "حيوات بوب ديلان" The Lives of Bob Dylan فإنه "بعد أن خفُت الضحك، هدأت المكالمة والأصوات من مركز الشرطة، وأطلق سراح الفنان كي يكمل حياته". واستعاد ديلان في ما بعد، خلال إحدى المقابلات، تلك الواقعة مازحاً: "أعتقد أنهم غير معتادين على رؤية أناس يمشون تحت المطر في تلك الرقعة من الغابة".

أمر آخر لا يقل غرابة حدث معه حين كان يُقدم حفلة في ليفربول. فهو لم يذهب فقط في نزهة مشي، بل قصد مجمع "الصندوق الوطني" National Trust الذي يملك الآن بيت طفولة جون لينون. وصل ديلان إلى هناك ودفع 16 جنيهاً استرلينياً، ووقف في صف المنتظرين كي يزور البيت، ثم التحق بجولة في الباص تزور أماكن مختلفة ترتبط بفريق البيتلز، بينها "ستروبيري فيلدز" Strawberry Fields (أغنية حقول الفراولة). وعن ديلان في تلك الرحلة قال ممثل عن "الصندوق الوطني" إنه "قضى وقتاً طويلاً متصفحاً ألبومات الصور، وكان شديد السعادة بكل تلك التذكارات".

وكان بوسع ديلان السخرية من نفسه أيضاً. خذوا مثلاً مقدمات حفلاته الموسيقية التي أذهلت الجمهور في كل أنحاء العالم، بعبثيتها وأكثر من ذلك. إذ في النهاية ما من نجم يقبل في أن يقدمه مدير مسرحه بـ "الذي كان". وفي الحقيقة طلب ديلان من مدير مسرحه آل سانتوس أن يقرأ تقديماً له في كل مرة قبل خروجه إلى المسرح، وتمثل ذاك التقديم ببضع جملٍ من مقالة عن ديلان كتبها الصحافي جيف مايرز في الـ "بافالو نيوز" عام 2002. تلك الجمل أعجبت ديلان كثيراً إلى درجة جعلته يعتمدها في تقديم عروضه. وهكذا راحت جماهيره تستمع إلى الكلمات التالية: "شاعر الـ روك أند رول المتوج. الصوت الواعد في ثقافة الستينيات المضادة. الشاب الذي أقحم (موسيقى) الـ "فولك" في سرير (موسيقى) الـ "روك"، الذي تزين بالماكياج في السبعينيات واختفى في سديم من الإدمان، ثم عاد وقام كي "يجد يسوع"، والذي شُطب واعتُبر "في خبر كان" في أواخر الثمانينيات، وفجأة بدل المسار مُحققاً أقوى النتاجات الموسيقية في مسيرته بدءاً من أواخر التسعينيات... سيداتي سادتي، رجاءً رحبوا بفنان التسجيلات الآتي من كولومبيا بوب ديلان".

وحين جال ديلان بعمله الذي حمل عنوان "رولينغ ثاندر ريفو" Rolling Thunder Revue عام 1975، فإنه لم يقم بالسفر في باص موسيقيي جولته وحسب، بل قام بقيادة ذاك الباص بنفسه. وفي تلك الجولة حصل أحد أطرف الأمثلة على شيطنات ديلان. إذ كان من بين المعجبين، الذين جاؤوا لحضور الحفلات، عارضة الأزياء إبنة الـ 19 ربيعاً والممثلة المستقبلية، شارون ستون. جاءت شارون مع والدتها وتعرفت إلى بطلها ومحبوبها (ديلان).

وفي حفلة لاحقة من حفلات هذه الجولة، كما روت شارون ستون بنفسها عام 2019 ضمن فيلم مارتن سكورسيزي عن جولة ديلان الموسيقية المذكورة، قام الأخير بدعوتها الى غرفة الملابس وعزف لها على البيانو أغنية قال إنه كتبها لها للتو. لها هي! إنها الأغنية الرومنطيقية الكلاسيكية المريرة "جاست لايك إي ومان" (فقط مثل امرأة [مجرد امرأة]) Just Like a Woman. فرحة ستون بذاك الإطراء كانت غامرة من دون شك. ولا نعرف كيف تطور الأمر بينهما في ما بعد في ذلك اليوم. لكن، في وقت لاحق، قام أحد أعضاء فرقة ديلان بإبلاغ الفتاة الساذجة (شارون ستون) أن تلك الأغنية عمرها عشر سنوات.

إلى هذا ثمة الأفلام الرسمية، كنز ديلان الدفين الذي يضم مواد مصورة لأدائه الأغنيات، وقد حازت تلك الأفلام اليوم على إذن رسمي بعرضها، وحظيت على مدى سنوات بمناسبات إطلاق أعلن عنها على نطاق واسع. وأنا حضرت واحدة من أحدث تلك الإطلاقات، وقد نحيت جانباً أحد أقرب العاملين مع ديلان لأسأله إن كان لـ بوب رأي في قائمة الأغنيات المصورة (التي ضمها الفيلم). سؤالي ذاك أثار موجة من الضحك. "أنت تمزح" قال المقرب من ديلان. وأضاف "هو على الأرجح لم يستمع إلى أي من هذه الأغنيات".

وإن كان أقرب المقربين والعاملين مع ديلان يعتبرونه مُحيراً ومربكاً، يحق لموسيقيين كبار وأسطوريين من أمثاله أن يعتبرونه كذلك. ففي إحدى المرات وجد ديلان وليونارد كوهين نفسيهما يؤديان في المدينة ذاتها. وقررا اللقاء لتناول الفطور معاً. قال ديلان لكوهين إنه يحب كثيراً أغنيته "هاليلويا" Hallelujah وسأله كم استغرقه من وقت لكتابتها. أجاب كوهين أنه إن قام بحساب وقت المراجعات والتعديلات الكثيرة التي أجراها وأنزلها على الأغنية خلال فترة تأليفها المديدة، حينها سيكون منصفاً القول إنها استغرقت أكثر من خمسة أعوام. في المقابل ذكر كوهين أنه يحب كثيراً أغنية ديلان في ألبومه الأخير "آي أند آي" (أنا وأنا) I and I. وسأله كم استغرقه تأليفها. أجاب ديلان: نحو 15 دقيقة".

وهنا علينا أن لا ننسى التفكير بالمهانة التي تعرضت لها جوني ميتشيل. ففي مطلع السبعينيات قام كلاهما، ميتشيل وديلان، بتوقيع عقد لصالح "غيفين ريكوردز" Geffen Records في الولايات المتحدة. وقرر مالك الشركة ديفيد غيفين تنظيم حلقة سماع لألبومهما الأولين اللذين تنتجهما شركته. ألبوم "بلانيت وايفز" (أمواج الكوكب) Planet Waves لـ ديلان، وألبوم "كورت أند سبارك" (القصر والشرارات) Court and Spark لـ ميتشيل، وهما بالمناسبة عملان ممتازان. بتوق استمع الموسيقيان بداية إلى البوم ديلان، ثم وضع غيفين ألبوم ميتشيل. وعلى الفور غط ديلان بالنوم. ولزيادة الطين بلة (في العلاقة بين ديلان وميتشيل) أزاح "بلانيت وايفز" ألبوم ميتشيل "كورت أند سبارك" من المرتبة الأولى في لائحة "بيلبورد" Billboard للأسطوانات المتصدرة.

وميتشيل التي لم تكن مسرورة أبداً بما حصل آنذاك، تحدثت عن الواقعة بعد مضي ست سنوات، فذكرت أن ديلان كان على الأرجح "يحاول أن يكون طريفاً" أمام مدير شركة الإنتاج والتسجيل. بيد أنها عادت واختارت كلمات أقل ديبلوماسية عام 2010 في حديثها عن تلك الواقعة، فقالت: "بوب ليس صادقاً أبداً. إنه منتحل إبداعات، واسمه وصوته زائفان. كل شيء يتعلق بـ بوب هو خداع". ميتشيل امرأة من الخطير جداً أن يغط المرء بالنوم في حضرتها.

واقعة أخرى سارت على الخط الرفيع الفاصل بين الكوميديا والفظاظة حدثت مع نيل دياموند خلال "الفالس الأخير" The Last Waltz، الحفلة الموسيقية الوداعية لفرقة "ذا باند" The Band، التي كان ديلان ودياموند من الضيوف المدعوين إليها. إذ حين غادر دياموند المسرح قال لديلان: "تابع الأمر"، فأجابه ديلان: "ماذا علي أن أفعل؟ أصعد إلى المسرح وأغط في النوم"؟

لكن في النهاية إنها أشياء تمثل أكثر الأوجه المحببة في بوب ديلان: عدم إمكانية التنبؤ أمام الغموض المطلق. وفي العودة إلى ذاك الفيلم عن جولة "رولينغ ثاندر ريفو" عام 1975 (لمارتن سكورسيزي)، فإن واحداً من الأشياء الرائعة تمثل في كون عازف الغيتار الأساسي في فرقة ديلان هو ميك رونسون، بشعره الأشقر الطويل، وشخصيته، شخصية موسيقي الروك الجذابة والقريبة من ديفيد بوي في عمله "سبايدرز فروم مارس" (عناكب من المريخ) Spider from Mars. والسؤال المطروح هنا هو: إلى أي مدى يمكن للمرء أن يلاحظ إن كان ديلان منسجماً تماماً مع (رنسون)، شخصية الروك الجذابة الآتية من يوركشايرمان؟

وذكرت إحدى الموسيقيات المشاركات في ذاك العرض، وهي روني بلايكلي، أنه كان من المستحيل أن يتعرف المرء إلى ديلان من دون الوقوع في حبه بعد ذلك. وخلال الجولة طرحت روني هذا الأمر مع ميك رونسون، فسألته إن كان بدوره أيضاً يشعر بتعاظم حبه لـ ديلان أكثر فأكثر مع مضي أيام تلك الجولة. أجاب رونسون أنه يصعب عليه تقدير ذلك، كون ديلان في الحقيقة لم يحادثه أبداً.

© The Independent

المزيد من منوعات