بمجرد إعلان الحكومة الإسرائيلية وحركتي "حماس" و"الجهاد" قبولها للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار أعلنت كل الأطراف انتصارها، وفي كل المعارك التي يخوضها الشعوب يكون السؤال الأول هو من حقق أهدافه؟ ليكون إعلانه منتصراً منطقياً ومبرراً، بخاصة أننا هنا أمام نموذج فريد للصراع يمكن التوافق مع منطق كل أطرافه في ادعاء النصر، ولكن يمكن القول إن هناك منتصراً رئيساً وهو القضية الفلسطينية.
المقاومة فى غزة
على مدى سنوات من الانقلاب في غزة ومن تكرار العدوان الإسرائيلي على شعبها، كانت فصائل المقاومة تخرج من هذه المواجهات معلنة النصر وعدم قدرة العدوان الإسرائيلي على تصفيتها أو القضاء عليها، وتضيف إلى كل ذلك أنها استطاعت في المواجهة الأخيرة بشكل خاص أن تهدد الداخل الإسرائيلي من خلال منظومة الصواريخ التي لا تزال قادرة على إخفائها وسط التجمعات السكنية المدنية، وتؤكد هذه الفصائل دوماً على معنى محدد وهو عدم الاستسلام وعدم قدرة تل أبيب على تصفية المقاومة أياً كان حجم الخسائر التي يتعرض لها المدنيون فى غزة.
وفي الحقيقة أن منطق الصمود وعدم الاستسلام في ذاته منطق له أساسه في حركات التحرر الوطني عبر التاريخ الحديث للبشرية. وفي مواجهة هذا المنطق كانت كثير من الآراء تطرح عبر جولات العدوان الإسرائيلي الأربع على غزة تتحفظ على هذا المنطق وتستدل على حجم الخسائر البشرية والمادية التي يتحملها الشعب الفلسطيني فى غزة، وأن كل جولة من هذه الحروب تسفر عن معاناة لسنوات طويلة، وأنه بعد الفرحة التي تصحب وقف إطلاق النار، يتناسى هؤلاء أنها فرحة من بقي على قيد الحياة، وبعدها يبدأ هؤلاء المعاناة مع إعادة الإعمار.
من يذكر مؤتمر 2014 في القاهرة لإعادة الإعمار في غزة سيتذكر كثيراً من مداخلات الدول التي سجلت صراحة عدم ارتياحها لتكرار الحروب العبثية فيها، وعدم تحمسها للإعمار وإعادته، وليس من الصعب ملاحظة أنه مع أن غالبية دول العالم سجلت تحفظها ضد العدوان الإسرائيلي فإنه باستثناء مصر ووعود أميركية غامضة، لا توجد مواقف ملموسة لإسهامات متوقعة فى هذا الشأن، ولا أظن أنه حتى إذا تحركت مبادرات دولية وعربية بهذا الصدد أنه ستكون هناك مساهمات كافية للتخفيف عن الشعب الفلسطيني، ما يعني أننا قد نرى قريباً تشكيكاً حتى من مصادر فلسطينية في جدوى هذه الحرب المحدودة في تحقيق المصالح الفلسطينية. ومع كل ذلك سيكون الأمر مؤجلاً للتقييم الشامل حول بعض حيثيات إعلان الفصائل انتصارها، خصوصاً من حيث تأكيد قدرتها على تهديد الأمن الإسرائيلي وله ما يبرره، وأنها حققت شعبية ومكاسب سياسية لدى كثير من الأوساط الفلسطينية وغيرها.
الطرف الإسرائيلي
تعنت نتنياهو حتى اللحظات الأخيرة فى التجاوب مع وقف إطلاق النار، ولولا ضغوط أميركية ومصرية شديدة، ما كان قد تجاوب، وأعلن على الفور أنه انتصر، وأنه قضى على كثير من قدرات الفصائل وأحدث خسائر بشرية كبيرة لديها، فضلاً عن أن القبة الحديدية التي كان يدعي قدرتها على حماية بلاده نجحت جزئياً في إبطال تهديد جانب لا يستهان به من الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، وما لم يقله صراحة أيضاً أنه تسبب في كثير من الدمار والخراب في القطاع الذي يعاني بما يكفى قبل هذه الحرب، وهذا المنطق أيضاً له بعض الوجاهة وأيضا مظاهر قصور عدة، فمع كل التقدم التكنولوجي العسكري لم تستطع إيقاف كل الصواريخ، وعاش شعبها حالة من الرعب والفزع لعدة أيام، والأهم تأكد مرة أخرى حدود القوة، وأن البديل الوحيد مستحيل ولن يسمح به أحد في العالم وربما جزء مهم من الشعب الإسرائيلي ذاته وهو إبادة كل شعب القطاع، الذي ربما تملك إسرائيل القدرة العسكرية عليه، ولكنه خيار مستحيل وسيقودنا للمشهد الأكبر، ويمكن القول إن نتنياهو كسب أيضاً وقتاً أطول فى معركته للبقاء سياسياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من ينتصر القوة أم الحق؟
من القضايا التي شغلت الضمير البشري، هل ينتصر الحق أم ليس بالضرورة، وفي الواقع أن تاريخ البشرية الأطول كان يشير إلى أن من كان ينتصر هو الأقوى وليس صاحب القضية العادلة، وبنظرة إلى تاريخ العالم القديم تكشف هذا بوضوح، ومن كان يحسم الصراع بين الإمبراطوريات القديمة وتوسعاتها وأطماعها كان قوة هذه الإمبراطوريات وليس مبادئها وقيمها الأخلاقية، ولنعد إلى الصراع بين كل من الحضارات العراقية القديمة والحضارة المصرية القديمة والغزاة الأجانب ضد هاتين الحضارتين، ثم تاريخ كل الإمبراطوريات التالية وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، من كان ينتصر؟ فإن ذلك ليس لأنه يدافع عن الحق أو عن نفسه، وإنما لأن دولته ومجتمعه كان لا يزال قوياً، ربما بالمعنى الخلدوني لتماسك الدولة ومفهوم العصبية الذى يحمل الكثير من الدلالات. فقط وربما بدءاً من الحرب العالمية الثانية بكل قسوتها وحدتها وبكل الملايين الذين فقدوا وماتوا وتشردوا خلالها ولكنها سجلت لبدء مرحلة جديدة فى تاريخ البشرية، سمحت باستقلال كثير من المستعمرات أو أغلبها بعدها، وانتصرت فيتنام على أعتى وأقوى إمبراطورية في التاريخ ومثلها في الجزائر وغيرها وسقط النظام العنصري فى جنوب أفريقيا، وهذا لا يعني أن كل أصحاب القضايا العادلة انتصروا فقد دمرت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق وانتصرت عسكرياً ثم شهدنا الهزيمة السياسية بعد ذلك.
ما نريد قوله من مشهد وسياق تاريخي مختلف منذ الحرب العالمية الثانية أن هناك فرصة أكبر للبشرية لانتصار الحق والعدل بشكل أكبر مما عرفته البشرية عبر تاريخها الطويل، ولكن إذا كانت القضية الفلسطينية هى أكبر نماذج عدم انتصار الحق حتى الآن، فإن عالمنا شهد العديد من الحروب غير العادلة وفي كثير منها لم ينتصر الحق أو لم يحاسب الجناة، وربما يكون لهذا حديث طويل.
خطوات أكبر في المسيرة الفلسطينية
تجدر الإشارة إلى أنه من الأهمية الالتفات لانتفاضة عرب 48، ضمن المشهد العام المحيط بحي الشيخ جراح والتجاوزات الإسرائيلية الأخيرة، وهؤلاء المواطنين الذين كانت تراهن إسرائيل على الإبقاء عليهم من الدرجة الثانية، وتفسد دورهم السياسي وتحاول تفرقتهم في الوقت نفسه، ولا تمانع من أن تكون هذه الفرقة والتمزق من خلال تشجيع قوى الإسلام السياسي بالضبط مثلما شجعت "حماس" في البداية، ولكن هناك حراكاً متزايداً في أوساط هؤلاء، صحيح أنه مذبذب ولكنه يبشر بالكثير من الخير ولا يمكن تجاهله.
وفي الواقع أن الكثير سيتوقف على الحركة السياسية لعرب 48، ومدى مقاومتهم للتخريب فى صفوفهم، الذي تتكالب عليه ليس فقط إسرائيل وإنما أيضاً مصادر فلسطينية وعربية تعمل دوماً على إحباط وتثبيط طموحاتهم، ولعل معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة والمحتملة تكون فرصة هذه المرة لمزيد من الوحدة والتماسك لهؤلاء الصامدين الذين أثق في محورية دورهم في إدارة الصراع لحين الوصول إلى الحقوق الفلسطينية المشروعة.
أما البعد الثاني، فهو انتفاضة الشعب الفلسطيني كله حماية للأقصى في حي الشيخ جراح، والنجاح في تحقيق الإضراب العام الشامل الأول منذ عام 1936، الذي جاءت صواريخ المقاومة لتشتت الانتباه والدعم خلفهم، ولينتهي الأمر بهدنة لا تلزم إسرائيل بوقف تجاوزاتها في الأقصى، مقابل صمود الشعب الفلسطينى ككل وتقبله لأي خسائر وأثمان حتى لو كان يمكن تجنبها في إدارة الصراع لو لم تتدخل الفصائل لتعقيد الموقف، يظل علامة مهمة على جدية وصمود هذا الشعب وأنه سيواصل النضال لاستعادة حقوقه.
البعد الثالث هو الصحوة التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي عربياً ودولياً دعماً للقضية الفلسطينية، التي طالما كانت هناك دعوات إلى توظيفها بشكل حيوي وفعال، فهي أيضاً إضافة مهمة وتجربة لا يمكن التفريط فيها، بل يجب مواصلتها والبناء عليها.
أما البعد الرابع، الذي لا يقل أهمية فهو حالة أزمة المجتمع الإسرائيلى ذاته، وهنا أزمة تشكيل حكومة مستقرة ليست إلا عرضاً لأزمة فلسفية أخلاقية عميقة تتصاعد أبعادها منذ سنوات كناتج طبيعى لفكر "عنصري مغلق" تتراكم أبعاده وتزيح تدريجياً بعض المظاهر التجميلية التي عرفتها التجربة الإسرائيلية في سنواتها الأولى، وسبق لنا تناول هذه الظاهرة والدائرة الجهنمية لأزمة صعود اليمين وسيطرته على هذا المجتمع وتداعيات ذلك، الفكر الذي يقوم عليه هذا الحكم الإسرائيلى يعاني مرضه أو انسداد أفقه حتى لو كانت الدولة قوية سياسياً وتكنولوجياً واقتصادياً وهي كذلك.
لا نقول إن الطريق سهل، فليس ما يعطله فقط انقسام فلسطيني وضعف عربي، بل أخطاء استراتيجية وتكتيكية في إدارة الصراع، ولكن بالنظر إلى السياق الأكبر، يمكن القول إنه لا يمكن تصفية هذا الشعب وليس هذا بعالم إبادة السكان الأصليين، والصمود وحملات التواصل الاجتماعي ستغير معطيات الموقف تدريجياً.