فريد قدر السوريالية مقارنة بسائر الحركات الطلائعية الفنية والأدبية. فبينما بقي انتشار هذه الحركات محصوراً بعدد محدود من الدول، تمددت السوريالية بسرعة فائقة في مختلف أنحاء أوروبا، ثم بلغت دول البلقان واليابان بعد سنوات قليلة من ولادتها في باريس عام 1924، قبل أن تحط رحالها في القارة الأميركية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وإلى مغامرة السورياليين في بلاد العم سام، يدعونا معرض "السوريالية في الفن الأميركي" الذي تنظمه "جمعية المتاحف الفرنسية الوطنية" في "مركز الإحسان القديم" الفني في مرسيليا. معرض يتألف من 180 لوحة وعملاً فنياً مختلفاً، ويشكل بمضمونه وطريقة ترتيبه فرصة فريدة لاستكشاف الفورة الفنية التي شهدتها الولايات المتحدة على مدى ثلاثة عقود إثر استقرار أندريه بروتون ومجموعة من رفاقه في نيويورك عام 1941، والتنوع الذي طبع هذه الحقبة الفنية، والوجوه والتوجهات الجمالية العديدة التي عبرتها، كالتعبيرية المجردة والآلية والرسم الحركي والـ"بوب أرت"، كي لا نسمي غيرها.
ولفهم هذه المغامرة، لا بد من العودة إلى أكتوبر 1940، وإلى مرسيليا تحديداً، حيث استقر بروتون وطائفة من الفنانين (فيكتور برونر، وماكس أرنست، وجاك هيرولد، وجاكلين لامبا، وأندريه ماسون، ويلفريدو لام...)، بعد سقوط باريس بيد النازيين، في الفيلا التي استأجرها فاريان فراي، المسؤول عن "مركز الإغاثة الأميركي" الذي كانت مهمته مساعدة الأشخاص الذين تتهددهم النازية على الفرار من أوروبا إلى أميركا. ففي هذا المكان، وبانتظار حصولهم على تأشيرة السفر، انغمسوا في ألعابهم المفضلة: "الجثة اللذيذة" والملصقات الجماعية، وابتكروا لعبة "تارو" جديدة سموها "لعبة مرسيليا". وعلى الرغم من خفتها الظاهرة، ارتكزت هذه الألعاب على المبادئ السوريالية التي ستعرف في أميركا حيوية جديدة، أي استثمار الآلية لا لكتابة نصوص فقط، بل لخلق صور وأشكال، وابتكار ميثولوجيا جديدة تجسد وجوهها رهانات زمنهم الذي طبعته الكارثة والمأساة.
وحين عبر معظمهم تدريجياً إلى بلاد العم سام واستقروا فيها، شكلوا مع فنانين آخرين قدموا من أوروبا، مثل روبرتو ماتا وغوردون أونسلو وإيف تانغي، ومع الفنانين الأميركيين مان راي وشارل هُوارد، مجموعة سوريالية في المنفى انفتحت على فنانين أميركيين شبان، مثل ويليام بازيوتس ودايفيد هير وروبرت مازرويل، كما يتجلى ذلك في المعرض السوريالي الأول الذي نظمه بروتون ومارسيل دوشان في نيويورك.
صدمة فنية
نقاد كثر كتبوا عن الصدمة التي تلقاها الفنانون الأميركيون الشبان لدى اكتشافهم آنذاك عمل هؤلاء السورياليين، كما لو أن الأمر يتعلق بكشف مفاجئ. لكن الحقيقة هي أن عدداً كبيراً منهم لم ينتظر وصول بروتون ورفاقه إلى نيويورك للتحمس للسوريالية. فمنذ 1926، عرضت أعمال لهانز آرب وجورجيو دو كيريكو وماكس أرنست وخوان ميرو في "المعرض الدولي للفن الحديث" في متحف بروكلين. وانطلاقاً من عام 1931، شهدت أميركا موجة كبيرة من المعارض السوريالية الفردية والجماعية أثارت ردود فعل إيجابية قوية في الصحف وبين الفنانين الشبان، خصوصاً معارض دالي وماغريت وميرو. وما فتن الأميركيين بالسوريالية آنذاك هو صورية فنانيها التي يطغى عليها الحلم واللغز وتجاوز الواقع، بينما بقيت التزاماتها السياسية في الظل.
وفور دخول السوريالية إلى أميركا، مارست تأثيراً عميقاً على الفنانين المحليين، كما يتجلى ذلك في اللوحات المشهدية غير الواقعية التي يتحكم بها منطق الحلم، التي أنجزها في نيويورك بيتر بلوم وأو لويس غوغليلمي وجايمش غي ووالتر كيرت، وفي لوس أنجليس لورسر فيتيلسون، وفيليب غوستون، وهارولد ليمان، وإيلين لونديبرغ. بعض هؤلاء الفنانين حاول إنكار تأثره بالفن السوريالي، مثل فيتيلسون ولونديبرغ اللذين أعلنا منذ 1934 أنهما من مرحلة "ما بعد السوريالية" ورفضا اللاوعي والآلية لصالح تداعي صور مرصودة لخلق تشكيلات متناغمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفنانين النيويوركيين الذين عرفوا بـ"السورياليين الاجتماعيين"، إذ حاولوا أخذ مسافة من حركة بروتون لاعتبارهم إياهاــ على خطأــ غير مسيسة كفاية!
وفي السنوات التي سبقت اندلاع الحرب مباشرة، انضم إلى هؤلاء السورياليين، خصوصاً على الساحل الشرقي، فنانون فقد التمييز بين تصوير وتجريد في نظرهم كل معناه، وهو ما سمح به رواج التشكيل القائم على أشكال عضوية في نيويورك في منتصف الثلاثينيات، ومرجعه داخل السوريالية لوحات إيف تانغي. إنه حال بوريس مارغو وجيروم كامروسكي اللذين تشاركا طموح ابتكار كوزمولوجيات ضخمة، وأرشيل غوركي المتأثر بأعمال ميرو ومبادئ السوريالية. مبادئ بدأت في الانتشار داخل المحيط الفني الأميركي نحو عام 1937 وأفضت أحياناً إلى اختبارات فنية جماعية.
تصوير وتجريد
وخلال سنوات الحرب وما بعدها، شكل هؤلاء الفنانون مع السورياليين الأوروبيين سوريالية أميركية مجردة من أي عقيدة، يعبرها تياران سيتباعدان تدريجياً: تيار تصويري، وآخر تجريدي. الأول، تمثل في دالي وكورنويل وأرنست وتانغي ومان راي وكاي سايج والسينمائية مايا ديرين، وتميز ببعد حلمي عميق، ما سمح بضم إليه دعاة "الرومنطيقية الجديدة" و"الواقعية السحرية"، مثل بافيل تشيليتشيو وجاريد فرينش وجون أثيرتون. والتيار التجريدي قاده روبرتو ماتا وغوركي، وضم دعاة التعبيرية المجردة، مثل مازرويل وجاكسون بولوك وبارنت نيومان ومارك روتكو ودايفيد سميث وكليفورد ستيل. لكن جميع هؤلاء الفنانين، وأيضاً لويز بورجوا وويليام بوزيوتيس وألفونسو أوسوريو وتيودور روزاك الذين تميز رسمهم بصورية ذات طابع ميثولوجي، وفناني مجموعة "ديناتون" في كاليفورنيا، مثل لي موليكان وولفغانغ بالن وأنسلو فورد، اعتبروا سورياليين في المجلات الأميركية التي كتبت عنهم والمعارض التي شاركوا فيها.
ويجب انتظار عودة السورياليين الأوروبيين إلى ديارهم خلال عامي 1948 و1949 كي تنحل السوريالية الأميركية وتأخذ التعبيرية المجردة استقلاليتها. أما تخلص هذه الأخيرة من إرثها السوريالي فحصل على يد الناقد كليمنت غرينبرغ الذي شكل أحد أبرز المدافعين عنها وتمكن في نيويورك، من مطلع الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات، من فرض قراءته الشوفينية للفن الأميركي الحديث. قراءة عمد فيها هذا الناقد المناهض للسوريالية بشكل شرس من "تطهير" فن الرسم الأميركي من أي علاقة بحركة بروتون.
ولهذا السبب، حين عاد بعض فناني التعبيرية المجردة في الخمسينيات إلى صورية سوريالية نابعة من استخدام واضح للآلية، مثل بولوك في "اللوحات السوداء" أو مازرويل في سلسلة "رثائيات للجمهورية الإسبانية"، لم تُفسر هذه العودة كإعادة إحياء لإرثهم السوريالي، بل كمنعطف مستقل، وهو إنكار جائر لمسألة بديهية يمكن استنتاجها أيضاً داخل أعمال الجيل الثاني من الحركة المذكورة.
سورياليو شيكاغو
لكن بينما باتت السوريالية شتيمة على الساحل الشرقي بسبب غرينبرغ وأتباعه، حافظت على سطوتها وفتنتها في مناطق أخرى من أميركا. ففي شيكاغو مثلاً، حيث تأسست "مجموعة شيكاغو السوريالية" تحت إشراف بروتون، ابتكر ويسترمان منحوتات ذات طابع سردي ملغز تشكل امتداداً للقطع السوريالية. وفي سان فرانسيسكو ولوس أنجليس، جمع والاس بيرمان حوله طائفة من الفنانين أسهموا في مجلته "سيمينا" وأسّسوا لجمالية سوريالية جديدة، مثل بروس كونر وجس الذي ارتكزت أعماله على تقنيتي الملصق وتنضيد الصور والأشكال، وامتلأت بالاستعارات والمجازات المرسلة ذات الإيحاءات الجنسية.
وسواء في شيكاغو أو في سان فرانسيسكو، اتخذت هذه السوريالية الباطنية في منتصف الستينيات منعطفاً أكثر عدوانية لا يرتبط بعالم الأحلام والكوابيس بقدر ما يرتبط بإرادة نقل مكتسبات وجماليات الثقافة الشعبية إلى داخل الفنون الجميلة. ومن هذا المنطلق جاء رد فنانين، مثل بيتر سول وجيم نات وسويلين روكا ومجموعة "هيري هو؟"، على تداعيات حركة الـ"بوب أرت"، بابتكارهم رسماً تصويرياً يمزج بنشوة ظاهرة صوراً غريبة متنافرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الساحل الشرقي، شكلت "العلاقة الجديدة بين الشيء والانفعال الناتج منه" مركز اهتمام فنانين مهمين، مثل جاسبر جونس وراي جونسون وروبرت موريس وكلايس أولدنبورغ، سجلوا قطيعة مع التعبيرية المجردة بعودتهم إلى رسم تصويري، غالباً مشفر. ومع أنهم سمّوا بـ"الدادائيين الجدد"، لكنهم في الواقع سورياليون لأن استراتيجياتهم التي تقوم على استخدام أشياء الحياة اليومية، بوحدها أو ضمن تنضيدات مبتكرة، لتسيير أحاسيس ودلالات واستعارات معقدة، مدينة للسوريالية التي جسدها دوشان وكورنويل. وفي هذا السياق يأتي لجوؤهم إلى شكل العلبة أو الصندوق الذي أشاعه هذان الفنانان في الثلاثينيات، وعرف رواجاً كبيراً في أميركا خلال الخمسينيات والستينيات، يعكسه معرض "صناديق" الذي نظمته غاليري "فيرجينا دوان" عام 1964، وجمع حول بعض أعمال دوشان وكورنويل أعمالاً لأولدنبورغ وويسترمان وروشنبرغ، وأيضاً لجورج بريخت ولوكاس ساماراس وأندي وارهول. فنانون نعرف أن بعضهم أسهم في تأسيس حركة "بوب أرت" التي روجت لصورية مبتذلة كرد فعل على التعبيرية المجردة، وضمت رسامين مختلفين على مستوى الأسلوب، أفضلهم جايمس روزنكويست وجون ويسلي اللذان استقيا من السوريالية، وتحديداً من لوحات ماغريت، ذلك التشكيل الذي يقوم على رصف أو مراكمة عناصر متنافرة صورياً، أو على عزل تفصيل غريب من سياقه.
وبينما حظيت السوريالية في أميركا خلال الستينيات بمعارض تاريخية ومنشورات مهمة، وشهدت عودة قوية لشعبيتها واهتماماً بموضوعاتها وتقنياتها، كما يتجلى ذلك في ملصقات فرق الروك "الهلسي" (psychedelic) الكاليفورنية، خصوصاً تلك التي أنجزها لي كونكلين وبوني ماكلين وويس ويلسون، أثرت بشكل باطني على فنانين فجروا الحدود بين تجريد وتصوير وشحنوا أعمالهم بطاقة إروسية عبر ابتكارهم أشكالاً رخوة أو مثيرة للبلبلة أو الاشمئزاز، كتلك الحاضرة في أعمال جياكوميتي وتانغي. إنه حال بول ثيك في "ذخائر اللحم"، ونانسي غروسمان في رؤوسها السادية ــ المازوخية، وكلايس أولدنبورغ في منحوتاته الرخوة، ولي بونتيكو في منحوتاته ذات النتوءات العدائية، من دون أن ننسى ريتشارد سيرا في أعماله الأولى.