Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القلق الوجودي الذي اعترى حياة السياب كان له اثر في شعره

كتاب نقدي جديد يضاف الى المدرسة السيابية

تمثال السياب في البصرة (يوتيوب)

القلق في اللغة هو الانزعاج والحركة وعدم الاستقرار في مكان واحد.

والقلق في الاصطلاح هو "حالة نفسيّة وفسيولوجيّة تتركّب من تضافر عناصر إدراكيّة وجسديّة وحسيّة لخلق شعور غير سارّ يرتبط عادةً بعدم الارتياح والخوف والتردّد".

والقلق في الواقع سمة ملازمة لحياة الإنسان المعاصر، والإنسان العربي، بشكل خاص، لما ينوء تحته من أعباء، ويخضع له من ضغوط، ويصطدم به من خيبات. فكيف إذا كان شاعراً مرهف الحس، حادّ المزاج، شفيف الروح كبدر شاكر السيّاب؟ والشعراء يلازمهم القلق، عبر العصور. ألم يقل أبو الطيّب المتنبّي، منذ أحد عشر قرناً:

على قلق كأنّ الريح تحتي أوجّهها جنوباً أو شمالا؟

"القلق في شعر بدر شاكر السياب" (دار نلسن) كتاب للناقد اللبناني  فيصل طالب  يتناول فيه ظاهرة القلق في حياة السّيّاب وشعره.

في العتبة، أحسن الباحث الاختيار، مرّتين اثنتين؛ الأولى، حين اختار السيّاب حقلاً لبحثه، فأنا لا أعرف شاعراً شكّلت حياته مادّةً لشعره مثله. والثانية، حين اختار القلق، ضمن هذا الحقل، محوراً للبحث. فالقلق هو محرّك الإبداع، عبر العصور، ولولاه لما كان إبداع. وبذلك، يكون قد اجتهد فأصاب، وكان له الأجران.

في المتن، أحسن البحث مرّات ومرّات، وبالدّخول إليه من الباب الأوّل الذي يشغل خمساً وثلاثين صفحةً أي ما نسبته 12 في المئة من البحث، يرصد طالب، في أربعة فصول، مصادر القلق السيّابي، الذاتيّة منها والموضوعيّة، استناداً إلى حياة الشّاعر وشعره، ما يجعل من هذا الباب عتبةً كبيرةً ندخل منها إلى صلب البحث.

في المصادر الذاتية، نقرأ، على المستوى الشخصـ - أسري، دمامة الوجه، موت الأم، زواج الأب، موت الجدّة، المرض، العوز والبطالة والتّشرّد. وعلى المستوى العاطفي، نقرأ فشلاً ذريعاً في الحبّ وخيبةً في الزواج، وقد أحصى الباحث تسع نساء، ربطتهنّ بالشّاعر علاقات متنوّعة تتراوح بين القرابة والزمالة والحبّ والنضال والزواج، وكان بينهنّ القريبة والراعية ورفيقة الدراسة والأديبة والجميلة الغنيّة والشاعرة ورفيقة النضال والمدرّسة والممرّضة، وشكّلن مشاريع حبيبات آلت جميعها إلى الفشل.

في المصادر الموضوعية، يشكّل الصّراع الطّبقيّ والعوز والفقر بعض مصادر القلق، على المستوى الاجتماعي، ويشكّل فشل انقلاب رشيد الكيلاني في العام 1941، ونكبة فلسطين في العام 1948، وفشل التجربة الحزبية في العراق بعض مصادره،

على المستوى السياسي. على أنّ الباحث لا يكتفي برصد هذه المصادر، الذاتية والموضوعية، انطلاقاً من حياة الشاعر وشعره، بل يتعدّى ذلك إلى الكلام على آليات الدفاع التي اعتمدها في مواجهة هذه المصادر، فيذكر منها الحلم الرومنسي، والحلم بالثورة، والرمز والأسطورة، والشعر، والموت.

من هذا الباب / العتبة، نلج إلى الباب الثاني الذي يشغل مئةً وتسعين صفحةً أي ما نسبته 68 في المئة من البحث، ويشكّل عموده الفقري. وفيه يرصد الباحث تمظهرات قلق السيّاب وهواجسه وأنواعه، في شعره، على مدى أربعة فصول طويلة. ويعتمد في هذه العملية المنهج الموضوعاتي، ويستخدم مهاراته في القراءة والاختيار والتحليل والمقارنة والاستنتاج والحكم وسواها من المهارات البحثية، ويوظّف مرجعيّاته الثقافية المتنوّعة، الأدبية والفلسفية والدينية والعلم - نفسية وسواها. ينطلق من النص، ولا يسقط عليه ما هو خارج عنه، ولا يقوّله ما لا يقول، ويخرج من ذلك كلّه بنصّ بحثيّ رصين، على قدر من المنهجية والعلمية والعمق والموضوعية والتنوّع.

يضع الباحث القلق السيّابيّ في إطاره العالميّ بما هو اصطدام بالمدنية الغربية، والعربيّ بما اصطدام القيم المقيمة بالوافدة، والعراقيّ بما هو اصطدام الناس بالاستبداد السياسيّ والحزبيّ والطبقي، ما يجعله تعبيراً عن اللحظة التاريخية التي عاشها الشاعر. وتأتي مكوّنات شخصيّته، الجسدية والنفسية، لتزيد الطين بلّة. وبذلك، يكون القلق نتاج التفاعل بين الداخل والخارج، بين الأنا والجماعة، بين الذات والموضوع.

يتمظهر القلق في شعر السيّاب في ترجّح الشاعر بين الواقع والمثال، فهو يعاني الطّرف الأوّل من هذه الثنائية ويتطلّع إلى الطّرف الثاني، حتى إذا ما بلغه لا يعثر عليه، وبذلك، يعيش غربتين اثنتين، غربة الواقع وغربة المثال. ويتّخذ كلّ طرف من هذه الثنائية مجموعةً من التمظهرات، الزمانية والمكانية والبشرية. يتمظهر الواقع في: الحاضر، المدينة، الجسد، الحبيبة، والعامّ. ويتمظهر المثال في: الماضي، الريف، الروح، الأمّ، والخاصّ. على أنّ المفارق أنّ الشاعر الذي يضيق ذرعاً بالواقع وتمظهراته، يتطلّع إلى المثال وتمظهراته، لكنّه لا يجدها، فالماضي ذهب إلى غير رجعة، وجيكور لم تعد جيكور، والروح أثقلتها أعباء الجسد، والأمّ ماتت، والخاصّ انتهكه العامّ، ما يضاعف غربة الشاعر واغترابه، على غير مستوى، ويجعل منه ضحيّة الواقع ووقائعه القاسية، من جهة، وضحيّة المثال واستحالة تحقيقه، من جهة ثانية.

ويتمظهر القلق السيّابيّ في الغربة، على أنواعها، وتتراوح بين: غربة الشاعر الناجمة عن خصوصيّته وحياة الإنسان المعاصر وترجّحه بين الفرديّ والجماعي، وغربة النفس الناجمة عن رومنسيّته، وفشله في الحب، وخيباته في النضال، ومرضه. وغربة الأرض الناجمة عن ابتعاده عن جيكور، وتنقّله بين: بقيع وبغداد والرمادي وإيران والكويت وبيروت ولندن وباريس، بدواعي زواج الأب والتعلّم والعمل ومطاردة السلطة له والعلاج. ويتمظهر أيضاً في قلق الموت بأنواعه: الرومنسيّ، المخلّص، الرمزيّ والأسطوريّ، والواقعي. والباحث يستخرج هذه التمظهرات والأنواع من حياة

الشاعر وشعره، ويضرب الأمثلة الشعريّة عليها، فيتعدّى البحث الطابع التنظيريّ إلى التطبيقي.

وبعد، لا يقتصر القلق على المعنى في شعر بدر شاكر السيّاب، بل يتعدّاه إلى المبنى، وهذا ما يتناوله طالب في الباب الثالث والأخير من بحثه الذي يشغل ستّاً وعشرين صفحةً أي ما نسبته 9 في المئة من البحث، فيرصد، في ثلاثة فصول، انعكاس القلق على الإيقاع الموسيقيّ واللّغة والصّورة الشعريّتين.

يخلص الدّارس، على مستوى الإيقاع الموسيقي، إلى وجود علاقة بين السّطر الشّعريّ والحركة الزّمنيّة فتطول الثّانية بطول الأوّل وتقصر بقصره، وعلاقة بين التّكرار اللّفظيّ والحالة النّفسيّة للشّاعر، وعلاقة بين الوقفات السّاكنة المتكرّرة وحاجة الحركة في الحياة إلى القرار، وعلاقة بين أحرف المدّ المكرّرة وإشباع اللّحظة الشّعوريّة. ويستنتج أنّ الشّاعر يوظّف الإيقاع في خدمة المعنى وإغنائه.

ويخلص، على مستوى اللّغة الشّعريّة، إلى ريادة السّيّاب في شحن المفردة بطاقة جديدة من خلال دقّة الاختيار وحسن الاستعمال، وإلى براعته في التّركيب والجمع بين المتضادّات ما يغني التّخييل اللّفظي. وعلى الرغم من الوثبة التي يحقّقها الشّاعر، على هذا الصّعيد، فإنّ الدّارس يشير إلى سقوطه في الاستخدام التّقليديّ / التّراثيّ للمفردات، أحياناً.

ويخلص، على مستوى الصّورة الشّعريّة، إلى أنّ ارتقاء السّيّاب بالصّورة من الوظيفة التّزيينيّة إلى الوظيفة الرؤيويّة - الإبداعيّة التي تعبّر عن الرّؤيا الشّعريّة وتغذّي القصيدة لم يحل دون انعكاس القلق تضخيماً للصّورة ما ينحدر بوظيفتها إلى التّهويل والمبالغة. ويأتي إكثار الشّاعر من الصّور المعبّر عنها بجمل اعتراضيّة ليعكس نوعاً من الاضطراب النّفسيّ لديه.

 استطاع فيصل طالب بلغته المتينة الجميلة، وثقافته المتنوّعة، ومهاراته البحثيّة، ومنهجيّته العلميّة الصارمة، أن يضيف إلى مكتبة السّيّاب البحثيّة بحثاً رصيناً آخر يضاف إلى البحوث المرجعيّة في هذا الباب، وأن يرفع الظّلم عن شاعر كبير ظلمته الحياة، وأنصفه الشعر، وجعلنا نحبّ القلق متى كان طريقاً للإبداع.

المزيد من ثقافة