Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

  فائقة قنفالي تروي مأساة تصفيح البنات في تونس

"أتبعك إلى العتمة" رواية تعري التقاليد البالية التي تدعي الحفاظ على شرف الأنثى وتترك جراحاً في جسدها

لوحة للرسام محمد بدر حمدان (صفحة الرسام على فيسبوك)

 في روايتها الجديدة "أتبعك إلى العتمة" الصادرة حديثاً عن دار المتوسط، انطلقت الكاتبة التونسية فائقة قنفالي من جملة لجاك دريدا، وجعلتها عتبة يجتازها القارئ قبل الولوج إلى بيت آهل بالأسرار. يقول دريدا، "الأدب يحافظ على سر غير موجود تقريباً". ثمة تلميح إلى أننا أمام رغبة في نقل تجربة حياتية خاصة وحميمة إلى عالم الأدب.

تستهل الكاتبة روايتها بجملة تهدف إلى تشويق القارئ وشده إلى تعقب تحولات الأحداث، "سيغير الولد حياتي البائسة إلى الأبد". ويكتشف المتلقي منذ الأسطر الأولى أن السارد الأول أنثى تدخل تجربة الزواج الثاني، وترى في المولود الذكر خلاصاً من محنة ما. ذلك أن سبب فشل الزواج الأول هو عدم تحقق رغبة عائلة زوجها في إنجابها لمولود ذكر.

تتقابل رغبة المرأة في الحصول على الطفل بكراهيتها لنفسها جراء كونها أنثى. يبدو العامل الفيزيولوجي مؤشراً على توتر أحداث الرواية، وتبدو المسألة الاجتماعية إطاراً لها، الزواج، الإنجاب، الطلاق، المرأة والرجل، الجسد، اليتم.... وإذا كان للرواية إطار سوسيولوجي، فإن لها بالموازاة مع ذلك حداً سيكولوجيا، حيث محاورة الموت واختبار الانتحار والدخول في حالات يأس وكآبة.

تحضر صورة الطبيب النفسي بما هو عنصر مؤثر وموجّه يُلجأ إليه من أجل الخروج من العتمة، وبما هو في الآن ذاته، عنصر غارق هو الآخر، في عتمة موازية.

تنتقد الرواية بعض العادات البدوية، مثل فض البكارة ليلة الزفاف، وإخراج منديل للحاضرين عليه بقعة دم، دليلاً على "شرف" الفتاة. تنتقد الرواية عموماً المجتمع البطريركي الذي يعتمد في نظامه التفكيري على عقلية ذكورية.

يتناوب على السرد أكثر من راوٍ، "البطلة" شمس، والأم، والأب، والداية، والأخ، والطبيب النفسي الأول، والطيار، وصديقة شمس، والعرافة، والطبيب النفسي الثاني وزميل الدراسة.

تتخذ الرواية أحياناً منحى غرائبياً (فانتاستيك)، فالمولودة الجديدة، بعد أن كبرت، تزور المولّدة في قبرها وتقرأ عليها الفاتحة وتحمل لها أزهاراً. وهذه الأخيرة، المولّدة الميتة، هي من يسرد التفاصيل، بل إنها تلتقي في عالم الموتى والد الطفلة فيحدثها عن شوقه لابنته.

ثمة أيضاً ملمح سريالي في الرواية، فالكلب أيضاً يشارك في السرد، ويصف، وهو ميت، مشهدَ وقوف البنت على جثته وهي غاضبة منه.

تبدو المرجعية الثقافية حاضرة في "أتبعك إلى العتمة"، فمثلما تتسرب أسماء من قبيل جبران خليل جبران وأرنست همنغواي وفيرجينيا وولف ونوال السعداوي وسليفيا بلاث وفريدا كاهلو وفان غوغ، تحضر بالمقابل أحاديث ثنائية عن الشعر والرسم والفلسفة والكتابة، بل تعلو الرغبة في أن تصير البطلة وصديقتها كاتبتين. وتكتب شمس من حين لآخر رسائل إلى فرجينيا وولف وفريدا كاهلو بما هما رمزان دلاليان للمعاناة الاجتماعية والاضطراب النفسي.

 تدمير الحياة الزوجية

تفتح الرواية ملفاً شائكاً في الحياة التونسية، وهو تصفيح الفتيات، بحيث تقوم الأمهات بعمليات ثقاف لبناتهن (تعويذة سحرية في المفهوم الشعبي)، حفاظاً على "الشرف"، إذ يستحيل لأي رجل أن يمارس الجنس مع البنت "المصفّحة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين تتزوج شمس يجد زوجها الطيار الشاب سداً منيعاً بينهما، وتبدو الطريق غير سالكة على الإطلاق إلى جسدها. يشك في "رجولته"، غير أنه يكتشف أن هذا الفشل الجنسي لا يحدث إلا مع زوجته، بدليل أن علاقة جسدية سريعة مع زميلته المضيفة مرت على النحو المرغوب فيه.

 في غمرة اضطراب المشاعر والحيرة يلجأ الزوج الشاب إلى صديقه الجنوبي الحاصل على إجازة جامعية في علم الاجتماع، الذي يشتغل بقّالاً، في ظل بطالة الشباب التي تعرفها البلاد. وبدل أن يرجع إلى معرفته السوسيولوجية لإنقاذ صديقه، يقوده إلى "وقّاعة" (عرافة)، لتفك له التعويذة، فهذا أمر لا ينفع معه علم.

قامت الروائية بتأهيل شخصية العرافة لتقول كلاماً ربما يتجاوزها، ولتكون كلماتها بالتالي تلك الصهارة التي تذوب فيها أحداث الرواية، تقول فاطمة بنت الحفيان، "من أجل شرف الرجال وعزتهم على المرأة أن تُصفَّح مثل دابة أو سفينة. تلك الجراح السبعة التي ترافقها طوال حياتها، ليست إلا ذاكرة وجع مفتوحة، وجع غائر في ماضي المرأة، وشرخ حي في فحولة الرجل. الرجال الذين اخترعوا هذا لحماية أنفسهم أوقعوا في الفخ رجالاً آخرين، ليسوا إلا أبناءهم وأبناء أبنائهم، ليصبح الوجع هو الميراث الحقيقي". تشكل هذه الجمل، التي جاءت على لسان العرافة، بؤرة العمل الروائي الذي ينتقد نظاماً اجتماعياً، وطريقة تفكير تختصر المرأة في جزء من جسدها، بغض الطرف عن كل القيم الرمزية التي تشكل إحداثيات وجودها.

 ويعد التصفيح ظاهرة قديمة مازالت في بعض البوادي العربية، خصوصاً في بلدان شمال أفريقيا، تبتغي الأم أو الأب أو هما معاً، أن تحافظ البنت على بكارتها عبر هذا "الربط" السحري، الذي لا يُفك إلا في ليلة الزفاف، والذي قد لا يفك أحياناً حتى بعد الزواج، خصوصاً بعد موت المرأة "المصفِّحة" التي تكون في الغالب أم البنت الضحية أو جدتها. إذ تقوم بإحداث سبعة جروح في فخذ البنت قبل أن تصل سن البلوغ، وتردد تعويذة أثناء هذه العملية.

الطقس الغريب

في رواية فائقة قنفالي تفصيل لهذا الطقس الغريب، تردد البنت الجالسة على كرسي في الحمام، وهي تأكل سبع حبات من الزبيب المغموس في دمها، هذه التميمة، "أنا حيط وابن الناس خيط". وكيف لخيط أن يخترق حائطاً؟ تنتقد الرواية هذا الظلم الجسدي الذي تعقبه آثار نفسية واجتماعية غير منتهية.

لا تهيمن شمس على السرد، بل إنها تختفي مراراً، لتترك أصواتاً أخرى تنوب عنها في سرد حكايتها. لذلك تتميز الرواية بتعدد الأصوات، إنها رواية بوليفونية بامتياز، خصوصاً أن عدد الذين يتناوبون على السرد كبير قياساً إلى حجم الرواية (100 صفحة). هذا التعدد الصوتي في السرد هو إحدى سمات الرواية الحديثة. وما يضفي طابع الحداثة أيضاً على رواية فائقة قنفالي هو نزع البطولة التقليدية عن "بطلة" الرواية.

في كتابه اللافت "تطور الرواية الحديثة" يشير الناقد الأميركي المعاصر جيسي ماتز إلى أن الشخصيات في الرواية الحديثة ضعيفة ولا تحمل أي مواصفات بطولية، و"قلما تنجز هذه الشخصيات الكثير في الرواية، وإذا كان ثمة ما يمكن قوله بشأنها، فهي في الغالب أسوأ من الشخصيات العادية، أقل جمالاً، وأقل إنجازاً، وأقل ذكاءً، وأقل قدرة من الشخصيات المتوسطة الإمكانيات على تجاوز المواقف الملتبسة".

هذا ما يتجلى تماماً في شخصية شمس، ضحية التصفيح، التي كانت منذ صغرها تلجأ إلى الصمت وتهرب من المواجهة، مما سيقودها في النهاية إلى محاولة الانتحار أكثر من مرة، وإلى الانهيار السيكولوجي الذي يقودها في نهاية المطاف إلى أن تنهي حياتها في مصحة للأمراض النفسية.

تتسم رواية فائقة قنفالي بتمكن من تقنيات البناء الروائي الذي يُراكم أحداثاً كثيرة في مساحات ضيقة، وبمقدرة على سحب القارئ إلى المناطق الداخلية للشخصيات، حيث التحولات والتشعبات النفسية، مستفيدةً في ذلك من خبرتها في دراسة (وتدريس) الفلسفة. فضلاً عن تملّكها لغة روائية تهرب من الاستعراضات اللغوية والبلاغية لصالح لغة شفافة قريبة من المتلقي، ولا تخلو أيضاً من الشاعرية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة