Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكويتية شيخة البرازي تطرح سؤال الهوية النسوية

"صدى الببغاء" تروي الصراع القدري بين ذكورية الرجل وتهميش المرأة

لوحة للرسام الكويتي ناجي الحاي (موقع الرسام)

لا تزال المسألة النسوية تشغل الرواية العربية على الرغم مما أُريق فيها من حبر، وذلك يعود إلى أنها ما تزال مطروحة بقوة في الواقع العربي، والرواية العربية تمتاح مواضيعها من هذا الواقع. ولعل رواية "صدى الببغاء" للكاتبة الكويتية شيخة البرازي الصادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، هي إحدى الروايات الأخيرة التي شغلتها هذه المسألة.

إن تموضع المرأة العربية بين مطرقة الرجل وسندان المجتمع، ووقوعها تحت تأثير ذكورية العقل وبطريركية المجتمع وتهميش الأسرة واستبداد الزوج وتعدد الزوجات والتفسير الكيفي للنص الديني، ومقاومتها هذه الضغوط، والأثمان الغالية التي تدفعها، هي المواضيع التي تطرحها البرازي في روايتها. وهي تفعل ذلك من خلال حكاية مثلثة الأطراف، الزوج والزوجة والضرة. تجري أحداثها بين الكويت ولبنان في الماضي القريب، وتتمخض عن أنماط تفكير وطرائق سلوك، تتخذ مسارات متوازية ومتعارضة ومتقاطعة، وتفضي إلى مصائر مختلفة بين طرف وآخر.

إحساس بالكرامة

في الحكاية، تغرق فاطمة الأرطة، معلمة المدرسة، نفسها في القراءة بحثاً عن فسحة أمل، في واقع تعتريه أعطاب كثيرة، فتشكل القراءة آلية دفاع ضد الوحدة والتهميش وعدم التكيف والتعصب. وتدخر في إهابها إحساساً عالياً بالكرامة الإنسانية، مما يجعلها ترفض الواقع وإفرازاته، وتتمرد على أحكامه بالقلب واللسان على الأقل. وبذلك نكون أمام شخصية مستقلة، معتدة بكرامتها، تفاخر بنسويتها، وتسعى إلى تغيير الواقع، بدءاً بنفسها على الأقل. ولذلك حين يتقدم خالد المحامي لخطبتها، تخوض معه حوارات مباشرة وغير مباشرة، تتمخض عن منظورين مختلفين للمرأة وموقعها ودورها، تصطدم فيهما ذكوريته بنسويتها.

ومع هذا تستمر العلاقة بينهما مراهنة على تغيير موقفه ذات يوم، لا سيما أنه يُصرح بحبه إياها، ويكتفي باعتراضات عابرة لا تفسد للود قضية، على ممارستها حريتها وحقها في التعبير والتصرف، بما ينسجم مع أفكارها ومنظورها للأمور. وباستمرار العلاقة تتمظهر الفوارق بين الشخصيتين، وتبدو فاطمة متمسكة بحقها في الحياة ككائن مستقل على قدم المساواة مع الرجل، متصالحة مع نفسها، منسجمة مع أفكارها، تعرف ما تريد، وتسعى إليه بخطى واثقة، وتبدي استعدادها لتحمل النتائج المترتبة على ذلك.

في المقابل، يبدو خالد ازدواجياً، يتجاور فيه المحامي المتعلم والرجل التقليدي، وكلما تقدمت الأحداث تنجلي عن سيطرة الثاني على الأول، والمفارِق أنه يُسخّر المحامي الذي فيه لغمط حقوق المرأة وليس للدفاع عنها، فيرى أن وظيفة المرأة الأساسية هي ربة منزل، ومكانها هو المطبخ، ودورها تنفيذ أوامر الزوج ونواهيه، مما يجعل الشقة تكبر بين الشخصيتين، حتى إذا ما دخلت سوسن اللبنانية على خط العلاقة بين الزوجين، يندلع صراع بين الأطراف الثلاثة. تكون له نتائجه على كل منهم.

في مواجهة نسوية فاطمة وانسجامها مع نفسها، وذكورية خالد وازدواجيته، تطل سوسن اللبنانية، جارة خالد القديمة في لبنان والكويت، ورفيقة الصبا، وزميلة الدراسة الجامعية، التي رفضت الارتباط به ذات يوم، لتعبر عن انتهازيّتها، فيحلو خالد في عينها بعد ارتباطه بفاطمة، وتروح تخطط لإفساد العلاقة بينهما، وتستخدم أساليب قذرة لتحقيق هدفها. وفي السياق، لا تتورع عن مطاردة فاطمة ومضايقتها وتأليب خالد عليها وإجهاض جنينها وتلفيق التهم لها والنيل من سمعتها وتهشيم صورتها، مما يجعل خالد ينزل بها الأذى، فيرفض تطليقها ويختطفها ويمعن في تعنيفها مادياً ومعنوياً، ويقترن بسوسن نكاية بها، في محاولة منه لممارسة الحق في تعدد الزوجات، مسنداً ذلك إلى أسانيد دينية.

الذكورية التقليدية

إزاء هذه الوقائع، تبقى فاطمة على موقفها، ترفض أن تشاركها فيه زوجة أخرى، وتصر على الانفصال عنه، بخاصة بعد أن قام بتهديدها وخيانتها واختطافها وتعنيفها، في تظهير لذكوريته المقيتة وتقليديته المفرطة وشرقيّته المتطرفة، التي ترى الحب تملكاً والزوجة خادمة والزواج استعباداً.

وإذ تُنكر خلال التحقيق أن يكون قد اختطفها، في محاولة منها لدفعه إلى تسريحها بإحسان وتجنيباً لأسرتها مضاعفات إغضابه، فإن إصراره على موقفه وتعنته وتربصه بها يدفعها إلى اللجوء إلى المحكمة، في نهاية الرواية، لعلها تحصل بالقانون على ما لم تحصل عليه بالمبادرة الطيبة، من حقها في الانفصال عنه.

في مقابل مثالية فاطمة وشجاعتها ونسويتها، تبرز سوسن بوصوليتها ونفاقها وحسدها وغيرتها وأساليبها الملتوية في تحقيق أهدافها، فتعلن موافقتها على التعدد وتُضمر خلاف ذلك، وتلحق الضرر بفاطمة، وتخطط للإيقاع بها، وتنجح في ذلك، غير أنها تتقلب في جمر غيرتها، فلا تحظى بالمكانة التي تشغلها فاطمة في قلب خالد الذي يرى فيها زوجة مثالية، ولا يتردد عن البكاء أمامها لتعود له، لكن رفض فاطمة المطلق العودة لا يعود بالنفع على سوسن، فتأتيها ذات يوم ترجوها أن تعود لأن حب خالد لها متوقف على عودتها، ولا تنأَى عن تبكيت الضمير جراء ما ألحقته بفاطمة من أذى، ولا تنجو من القلق على طفلها ومستقبلها.

مسارات ثلاثة

هذه المسارات الثلاثة، المتوازية والمتعارضة والمتقاطعة، تؤدي إلى مصائر مختلفة، تذهب فاطمة إلى المحكمة انتصاراً لكرامتها ونسويتها غير عابئة بندم خالد وتوسلاته وبكائه عند قدميها فتحفظ نفسها وإنسانيتها. تحصد سوسن ما زرعت يداها، فتغرق في الشعور بالذنب، وتقلق على طفلها ومستقبلها، وتخسر نفسها من دون أن تربح خالد، أما هذا الأخير فلا استطاع أن يستعيد فاطمة التي أحب، ولا استطاع السكّن إلى سوسن التي أحبته، وبقي معلقاً بين امرأة أضاعته ولم تجده، وأخرى أضاعها ولم يجدها. هذه هي النتيجة الطبيعية للذكورية والبطريركية والتعدد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الخطاب، تضع البرازي روايتها في عشر وحدات روائية متفاوتة الطول، تتراوح بين 32 صفحة، في الحد الأقصى، كما نرى في الوحدة الأولى، وسبع صفحات، في الحد الأدنى، كما نرى في الوحدة الأخيرة. وتُسند مهمة الروي في هذه الوحدات إلى ثلاثة رواة مشاركين، هم شخوص الرواية، على التوالي، بوتيرة تتفاوت بين شخص وآخر، فتستأثر فاطمة بحصة الأسد، برويها أربع وحدات روائية، تمتد على 86 صفحة، أي ما نسبته حوالى 45 في المئة من الرواية. تليها سوسن التي تروي ثلاث وحدات، تمتد على 58 صفحة، أي ما نسبته 30 في المئة من الرواية. ويأتي خالد في الأخير، برويه ثلاث وحدات، تمتد على 48 صفحة، أي ما نسبته 25 في المئة من الرواية، وبذلك يزداد عدد الصفحات طرداً مع أهمية الشخصية، وتعبر الكاتبة عن انحيازها للمرأة والنسوية، ورفضها ذكورية الرجل، ما يقيم تناسباً بين الشكل والمضمون، على أن العلاقات بين هذه الوحدات تقوم على التناوب والتداخل والتكامل والتوازي والتباعد والتقاطع. والنص هو حصيلة هذه العلاقات المتنوعة، وبذلك لا يتم النظر إلى الحقيقة الروائية من منظور واحد، بل تتعدد المنظورات، وتعاضد لتشكل مجتمعة هذه الحقيقة.

من هنا، رب وحدة تُكمل الأخرى أو تردم نقصها أو تفترق عنها أو تتقاطع معها، ويكون على القارئ أن يشكل روايته من هذه العلاقات.

تصوغ شيخة البرازي "صدى الببغاء" بلغة روائية أنيقة، متينة، أدبية، تدرك الشعر في كثير من عباراتها. وتقوم على المفردات الفصيحة والتراكيب القصيرة والمتوسطة، وتجاور بين التقرير والتصوير، وبذلك تتضافر اللغة الروائية والخطاب والحكاية في تقديم رواية جميلة، تُرجع صداها الآفاق.        

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة