Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فينوس خوري غاتا تلامس الموت بسخرية سوداء

روايتها الجديدة استعادة لماضي الحب وتأمل عميق في هاجس السبات الأخير

الروائية اللبنانية الفرنسية فينوس خوري غاتا (دار اكت سود ولوريان دي ليفر)

مَن قرأ الشاعرة والروائية اللبنانية الفرنكوفونية فينوس خوري غاتا يعرف أن الموت موضوع مركزي في كتاباتها، وأنها لطالما قاربته، تارةً بجدّية بصيرة تقشعر البدن، وتارةً بحسٍّ دعابي أسود تعرف وحدها سرّ نجاعته. لكن في روايتها الجديدة، "ما يتبقّى من البشر"، التي صدرت حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية، نراها تتناوله بمزيجٍ سائغ من الطرافة والجدية، مستعينةً بفكرة مبتكَرة لم يسبقها أحد إليها للشخوص بعينَيْ عزرائيل من أقرب مسافة ممكنة، القبر.

عن مصدر هذه الرواية الآسِرة، صرّحت فينوس أنها "انبثقت داخل ذهني في شارع إدغار كينيه الباريسي، لدى خروجي يوماً من حانوت لدفن الموتى، حيث قدّمت لنفسي هدية لما بعد وفاتي: لحداً في المقبرة الأقرب إلى منزلي، كي أتمتع دائماً بإطلالة على حديقتي". ومثل فينوس، بطلة روايتها الجديدة، "ديان"، شاعرة وروائية أرملة ومتقدّمة في السن نراها في مطلع النص، تقصد حانوتاً لدفن الموتى من أجل شراء مدفن فردي لها، لكنها تضطر إلى شراء مدفن لشخصين لكونه الوحيد المتوفر، فتبدأ بالبحث عن رجل، من بين عشاقها القدامى، يرضى بأن يدفن معها ويلطّف صمت لحدها المخيف.

حياة بوهيمية

خلال حياتها البوهيمية، عشقت "ديان" حفنة من الرجال، بعضهم غادرته مللاً، وبعض آخر غادرها بنفسه، ودفنت ذلك الذي كان الأغلى على قلبها. بالنتيجة، ها هي وحيدة في زمن الرواية، لا يكسر عزلتها حتى مواء قطة وكي لا تلحق هذه العزلة المريرة بها إلى العالم الآخر، تنشط في البحث بين عشاقها الذين ما زالوا أحياء عن ذلك الذي يملك الكفاءة والخُلُق كي يكون رفيقاً مثالياً لها خلال السبات الأخير.

على رأس لائحة الرجال الذين أحبّتهم "ديان"، لدينا أولاً بول، الزوج الذي توارى باكراً و"دُفِن في قبر أصدقاء له لا مكان لكِ فيه". لدينا "رجل عظيم" غادرته، وحين حاولت معرفة أخباره ورأيه بمبتغاها، أرسلت زوجته لها رماده في قارورة لم تعرف ماذا تفعل بها، فوضعتها تحت المجلى، مع مستحضرات التنظيف. لدينا عالِم شهير بالحضارة الصينية لم تكن قادرة على استضافته في منزلها بسبب معاناته من حساسية تجاه وبر القطط، وتوارى عن الأنظار منذ فترة طويلة حين قرر تتبّع خطى ماو تسي تونغ خلال "مسيرته الطويلة" إلى السلطة.

أحبّت ديان أيضاً كاتباً بيروفياً تعود جذوره إلى حضارة الإنكا، لكنها ابتعدت عنه لأنه كان متزوجاً، قبل أن يتوفى إثر تحطّم الطائرة التي كانت تقلّه إلى بلده. وخلال حرب البوسنة، عرفت ثلاثة فنانين منفيين من ساراييفو كانوا يعيشون معاً في الشقة التي تعلو شقتها: يورغو الرسام، فلادا النحات وسيريل رسام الشرائط المصوّرة. وفي زمن الرواية، لدينا أخيراً قريبها، الشاب الجميل رافاييل، ابن الـ18 سنة، الذي التقته خلال مراسم دفن أحد أفراد عائلتهما وأدخل قليلاً من الدفء إلى قلبها حين أسرّ لها بأنه متيّم بها منذ الطفولة وحاول بجهدٍ مؤثّر إقناعها بمشروعية علاقة حب بينهما، على الرغم من فارق العمر الكبير بينهما...

العزلة المؤلمة

على طول النص، تكلّم "ديان" نفسها وتستعين في ذلك بصيغة المخاطب. بالتالي، الـ "أنتِ" في النص لا تعني أن ثمة شخصاً آخر يخاطبها، بعدما غادرها وتركها غير قابلة للمواساة لكونه لا يعوَّض، بل إنها في الواقع "أنا" مقنّعة لا تخفي في النهاية سوى الفشل المأساوي لحياة "ديان" الذي يتمثّل في عزلتها المؤلمة. عزلة تخشى هذه المرأة من أن تلحق بها إلى قبرها، وتمنحنا الانطباع بأنها "ميتة على قيد الحياة"، مهما سعت إلى تبديد رمادية معيشتها.

وفعلاً، خلال بحثها عن رفيق محتمل لآخرتها، لا تتلقّى "ديان" المساعدة أو التشجيع سوى من صديقة وحيدة وحميمة تُدعى "إيلين"، وهي أرملة مثلها تتوجّه في مطلع الرواية إلى الجنوب الفرنسي من أجل بيع الفيلا التي ذُبِح فيها زوجها المحامي قبل عشرين عاماً على يد المافيا الكورسيكية، وتعثر في هذا المكان، وبشكل غير متوقّع، على مَن سينير حياتها. امرأة تشكّل إذاً نظيراً لشخصية "ديان" في الرواية، ونتابع مسيرتها، السديمية بقدر مسيرة صديقتها، مع فارق جوهري، وهو أنها تلجأ لتحسين ظروف حياتها إلى علاج يشكّل نقيضاً لمشروع ديان المعتِم: البحث عن النشوة والسعادة من خلال الاستسلام إلى ملذات الحياة مع رجلين تجدهما يعيشان في الفيلا. كائنان رقيقان لا تلبث أن تتقاسم معهما مغامرات مختلفة تتراوح بين أسفار وحفلات سهر وأكل وشرب، من دون أن ننسى جلسات تحضير الأرواح، المولعة بها، وذلك على الرغم من شكّها في كونهما قاتلَي زوجها. فهل ستكون أكثر نجاحاً من صديقتها في ذلك النضال المشترك ضد ما يبدو في النهاية كمحنة كبيرة ناتجة من عزلتهما في هذه الحياة، لا من خوفهما من الموت الوشيك؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جدّية بقدر ما هي طريفة وغريبة، تمنحنا إذاً هذه الرواية، التي تقارب مواضيع الموت والعزلة والكآبة بخفّة ظريفة ورشيقة، بورتريهين آسِرَين لسيّدتين متقدّمتين في السن، متواطئتين بشكلٍ ممتع، وملهمتين بشكل مدهش، على الرغم من اختلاف شخصيتيهما العميق. أما الرجال، فيحضرون فيها كمجرّد كائنات عابرة. رواية قصيرة ذات طابع تهتّكي، يلوّن نثرها الشعري المعتم دعابة سوداء جامحة، وتتلاعب داخلها كاتبة، في قمّة فنّها، بقوانين النوع الروائي من أجل تجسيد شخصية مضحكة وحزينة في الوقت ذاته، محبَّبة وأنانية على حد سواء، مغرية ومثيرة للشفقة، لكن قبل أي شيء، كاتبة لا يلهمها شيءٌ أكثر من حياتها ونكساتها العاطفية، ما يجعل من مقارنتها بمبتكِرتها مسألة يتعذّر تجنّبها، وما يمدّ هذا النص ببعد سيرذاتي أكيد، مثل سائر أعمال فينوس.

رواية تستمد أيضاً قيمتها وسطوة خطابها من طرح صاحبتها فيها أسئلة عميقة يتعذّر على أي منّا تجنّبها، وفي مقدمتها: ما الذي يتبقّى عند نهاية رحلة الحياة؟ أي بصمة أو أثر سنترك خلفنا؟ مَن سيتذكّرنا؟ أي قلب استطعنا مسّه؟ مَن سيحضر لمرافقتنا؟ أسئلة تتأمل "ديان" فيها على طول الرواية، وهي التي تحثّها على البحث عن رجل مستعد لتقاسم معها مثواها الأخير.

في مكان ما من النص، تكتب "إيلين" لصديقتها في واحدة من رسائلها: "الحياة والموت حلقة مغلقة، ثعبان يقضم ذيله". إعادة إحياء لعلامة الـ"أوروبورس" الفرعونية ولتأويلها الأكثر تفاؤلاً كرمز لدورة الحياة والموت والانبعاث، بالتالي للخلود؟ لا تقدّم فينوس أي جواب أو مخرج للقارئ، لكن الصدى العميق الذي تخلّفه أسئلتها داخله سيدفعه حتماً إلى التفكير ومحاولة الإجابة بنفسه عنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة