Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"نساء في حديقة" لكلود مونيه تجدد الانطباعية وتطلق المؤتمن عليها

لعبة النور والظل في لوحات تخلق عالماً من السحر والدهشة

لوحة "نساء في الحديقة" لكلود مونيه (غيتي)

حدث هذا يوم كان الرسام الفرنسي كلود مونيه في بداية مساره الفني يتلمس خطواته في العالم الانطباعي الذي كان اختياره الأول. وهو حدث قبل عقود بالطبع من تحوّل مونيه ليصبح واحداً من الكبار بين الانطباعيين بارزاً في الفن ولكن أيضاً في الحياة الاجتماعية إلى درجة أنه بات الصديق الأقرب للسياسي الداهية جورج كليمنصو الذي على رغم مشاغله سيجد من الوقت ما يكفيه لكتابة أكثر من مئة وخمسين رسالة له ومن ثم تأليف كتاب عنه. وحدث بالتأكيد قبل زمن طويل من إنجاز مونيه تلك اللوحات المدهشة حول حشائش الماء والتي أنجزها في عزبته في جيفرناي.

رفض يثير غضباً

كان ذلك إذاً عام 1868 ومونيه لا يزال في الثامنة والعشرين من عمره يتبع خطوات الانطباعيين بدقة ويرسم تلك اللوحة الشهيرة التي ستعير التيار كله اسمها، "انطباعات شمس مشرقة". في ذلك العام إذا رفضت لجنة تحكيم "الصالون" عرض لوحة كان مونيه أنجزها لتوه بعنوان "نساء في حديقة" كحلقة في سلسلة لوحات أراد أن يجمعها موضوع بورجوازي واحد وعنوان عريض واحد هو "الإفطار فوق العشب"، لكنه لم يتمكن سوى من تحقيق عدة دراسات واعدة، إضافة إلى تلك اللوحة التي بلغ ارتفاعها مترين ونصف المتر وعرضها أكثر قليلاً من مترين. وكان الغريب في الأمر أن رفض هذه اللوحة أتى بعد عام من قبول اللجنة نفسها لوحة "كاميل" للرسام نفسه وإن على مضض. ومن هنا كان غضب النقاد كبيراً لذلك الرفض وفي مقدمتهم إميل زولا، الذي لم يفته أن يكتب كلاماً بالغ القسوة ضد اللجنة. أما الرسام بازيل، الانطباعي بدوره وصديق مونيه فكان أكثر عملية: اشترى اللوحة بألفين وخمسمئة فرنك، ما كان رقماً ضخماً في ذلك الحين. وهو قال يومها إنه لم يشترها نكاية بـ"الصالون" ولا لأن "الصداقة تفرض عليه ذلك"، بل ببساطة لأنه يعرف أن قيمتها ستكون أكبر من ذلك بكثير. فهو كعادته إنما يراهن بماله على المستقبل. وكم كان على حقّ!

في الهواء الطلق

ولكن كان على حق أيضاً الرسام كوربيه الذي كان بدوره صديقاً إنما أكبر سناً بكثير لمونيه، حين كان يزوره في الموقع الذي كان اختاره لرسم اللوحة في الهواء الطلق في حديقته بمنطقة السيفر ويستمع مبتسماً إلى التعليقات الهامسة من حول مونيه، والتي تبدي دهشة من التقنية المعقدة التي ابتكرها الرسام كي يبقي اللوحة أمينة في مكانها ليعود إليها يوماً بعد الآخر يتابع إنجازها، لأنه لا يمكنه أن يحملها معه كل يوم جيئة وذهاباً، كما كانت حال الانطباعيين عامة في تنقلهم للرسم بين مكان وآخر. مونيه كان مضطراً لترك اللوحة في مكانها وقد حفر لها خندقاً ينزلها فيه ما إن تغيب الشمس ويعيدها منه عبر بكرات وشرائط ما إن تعود. ويروي كوربيه أنه كان يصل أحياناً إلى المكان الذي يشتغل فيه صديقه الأصغر سناً ويراه جالساً محدقاً فيسأله عما يفعل فيقول: "أنتظر الشمس". وذلك لأن الشمس تلعب دوراً كبيراً في هذه اللوحة، بل دوراً أكبر كثيراً مما لعبته في أية لوحة انطباعية أخرى.

بين الطبيعة والمحترف

والحقيقة أن هذا الدور لم يكن واضحاً في البداية حين كان الفنان يشتغل على اللوحة في الهواء الطلق. ولكن لاحقاً حين نقلها في المرحلة الأخيرة من إنجازها إلى داخل محترفه ليضفي عليها لمساته الأخيرة، بات كل شيء واضحاً حيث، ومن الذاكرة تحديداً، وبعد أن اشتغل تلوين النور والظل للمنظر الطبيعي للحديقة انطلاقاً من تفاعله مع ضوء الشمس، ها هو الآن يشتغل على تصوير النساء الأربع وهنّ مغمورات بالضوء بشكل ندر أن شوهد في لوحة من ذلك النوع. ولنسرع ههنا للقول إن النساء لم يكنّ في الحقيقة سوى امرأتين، إحداهن صديقته كاميل دونسييه التي استخدمها ثلاث مرات لرسم النساء الواقفات، فيما استخدم غابريال عشيقة صديق إميل زولا موديلاً للمرأة الرابعة الجالسة حاملة مظلتها، بينما لا تحتاج النساء الثلاث الأخر إلى مظلة بالنظر إلى أنهن يقفن في ظل الأشجار تاركات بقعة الشمس تغمر جزءاً من المشهد يتضمن مكان جلوس غابريال.

لعبة جديدة

كان من الواضح هنا أن مونيه إنما يلعب لعبة جديدة مع النور والظل اللذين يتضافران في بعض النقاط من اللوحة ليفترقا في نقاط أخرى، ما يؤدي هنا إلى إمحاء الخطوط المحيطة بالأشكال التي تحل مكانها بقع لونية. ومهما كان من الأمر هنا، كان واضحاً أن ما أراد مونيه التركيز عليه في هذه اللوحة المبكرة، ولم يكن واضحاً لديه ولا حتى في اللوحات/ الدراسات التي كان مهّد بها للمجموعة ككل، لوحات "الإفطار فوق العشب"، إنما هو التعبير عن تلك الحياة البورجوازية من خلال الضوء الذي يبدو وكأنه لا يغمر سوى السيدات، مبرزاً ثيابهن وتبرجهن بفضل بقع ضوء غنية خصّ بها السيدة الجالسة أرضاً، جاعلاً اللون البنفسجي الباهر يتصاعد منها ليصل إلى صاحباتها في وقفتهن نوراً حقيقياً يقف بالتعارض التام مع النور الذي يتم التوصل إلى رسمه داخل المحترف عادة، حتى وإن كان الرسام قد حقق تلك اللمسات الأخيرة داخل المحترف إنما بعد أن خزنها في ذاكرته طويلاً ورسم كل الخلفيات التي سيكون من شأنها إبرازها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

توفيق بين عالمين

بشكل عام إذاً، عرف كلود مونيه كيف يوفق هنا بين تعاليم الانطباعيين والدعوة التي كان كوربيه قد أطلقها عبر حثه الرسامين على الانطلاق لرسم لوحاتهم في الهواء الطلق. فمونيه رسم الجزء الأساسي من اللوحة في الهواء الطلق وأحياناً تحت رقابة كوربيه. لكنه في الخطوة التالية انصرف إلى داخل محترفه لينجز مهمته الفنية، التي أسفرت في نهاية الأمر عن تلك اللوحة التي بعد الألم الذي تسبب له فيه رفض "الصالون" للوحة والذي عرف إميل زولا وبازيل كيف يمحوانه، عرفت كيف تشكل انطلاقة جديدة للفن الانطباعي. ولكن تحديداً لفن كلود مونيه نفسه، هو الذي ربما يصح القول إنه سيجعل من معظم المراحل التالية لفنه، مساراً ينطلق تحديداً من تلك اللوحة، لا سيما في رسم علاقة لا تنفصم لديه بين لعبة النور والظل، ولكن بخاصة في المشاهد الخارجية، بعدما كانت تلك اللعبة تكاد تكون وقفاً ومنذ النهضة الهولندية وكارافاجيو، على المشاهد الداخلية.

مجدد حتى النهاية

وفي هذا السياق تحديداً يعتبر كلود مونيه (1840–1926) مجدداً كبيراً في التيار التعبيري الذي ظل طوال مساره الفني محافظاً على أطره الأساسية مجدداً في تفاصيله. وهو ولد في باريس لكن أسرته انتقلت به بعد ثلاثة أعوام من ولادته إلى مدينة الهافر حيث كانت بداياته الفنية في محترف صانع إطارات يدعى بودان. وكان هذا أول من اكتشف مواهبه الفنية واعترف بها موجهاً إياه لرسم لوحات مبكرة كان يصر على أن ترسم في الهواء الطلق، ومن ثم يؤطرها ويبيعها عارضاً إياها في واجهة حانوته. وهو نصحه بعد حين بالتوجه إلى باريس لاستكمال دراساته الفنية، وهكذا فعل الفتى حيث توجه إلى العاصمة ودخل الأكاديمية السويسرية حيث التقى بيسارو وتعرف معه إلى أعمال ديلاكروا وكوربيه وكورو وميّيه. ولسوف يمضي إثر ذلك عاماً في الجزائر في خدمة عسكرية مكنته من التفاعل مع الضوء والشمس هناك. ولدى عودته مبكراً لأسباب صحية بدا أنه قد رسم طريقه: سيعيش من فنه على رغم رفض عائلته. لكنه لن يقطع مع العائلة بل سيتوجه معها ليعيش عامين في لندن وبعد ذلك فترة في هولندا، وسيتزامن ذلك مع نجاحاته ولوحاته الأولى وأول المقالات التي أشادت بموهبته. هكذا ما إن أطلت سنوات السبعين حتى كانت مكانته قد ترسخت وبدأت أعماله تنتشر، لا سيما بعدما انتمى إلى جمعية جديدة للفنانين المستقلين، جمعته برينوار وسيسلي وعززت علاقته ببازيل وبيسارو، كما بعدد من كبار جامعي اللوحات، وأقاموا معاً معارض مشتركة ورسموا بعضهم البعض ما أتاح لمونيه أن يعيش فعلاً من فنه. ويواصل على ذلك المنوال حتى بعد رحيل معظم رفاقه ليبقى هو حتى نهايات الربع الأول من القرن العشرين أميناً على التراث الانطباعي، ولكن على طريقته.

المزيد من ثقافة