Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا تكلم بطليموس

الخلاف اليوناني التركي في شرق المتوسط ينعكس على المسألة الليبية من باب الجغرافيا

تبدو السياسة الخارجية الليبية ضعيفة في وقتها الحالي من آثار ماض عقيم (أ ف ب)

"كوستا" أول شخص أجنبي عرفته في أول الصبا، وأول اسم أجنبي أردده، وأول بنت شقراء جميلة تشدني ابنته. كان يعمل فنياً في شركة يونانية كبري، قامت بتطوير ميناء مدينة بنغازي، ثم ردم سبخة كبرى في حي الصابري حيث نسكن.

سكن "كوستا" قرب بيتنا، وكثيراً ما جاء وزملاؤه لدكانة أبي لشراء حاجياتهم، وهم جميعهم يونانيون يتكلمون اللهجة المصرية. وكثيراً ما شاهدت صيادين يونانيين في شوارع المدينة، وحتى جنوداً من البحرية اليونانية أثناء زيارة سفنهم للبلاد. وعند أول الشباب، كان لا بد لي من زيارة "أثينا" العاصمة اليونانية، المدينة الأجنبية التي كانت محجاً لجيلي.

طبعاً عند القراءة والدراسة، سأعرف أن الجغرافيا باب التاريخ وأساسه، ولهذا فإن المدن الأولى، ما أنشئت في شرق ليبيا قبل التاريخ بقرون، كانت المدن اليونانية الخمس وعاصمتها "قورينا"، وقد عرفت في الفكر من خلال الفلسفة القورنائية، واشتهرت بإنتاج "السلفيوم"، الزهرة السحرية الشافية من كل الأمراض، بحسبما تذكر المصادر اليونانية.

لهذا قال كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس الوزراء خلال زيارته إلى طرابلس 6 أبريل (نيسان) 2021 "إن العلاقات اليونانية الليبية تعود إلى 2600 سنة، منذ العهد الذي سافر فيه أبناء سانتوريني ووصلوا شواطئ ليبيا، وقاموا بتأسيس مدينة "قورينا/ شحات"، ومن ثم بنغازي والمدن الخمس اليونانية". وفي الختام أكد كيرياكوس "أننا زرعنا معاً في المكان نبتة (السلفيوم) الطبية النادرة، التي أطلق عليها ذهب ليبيا، وفي القرن الواحد والعشرين، ذهب شعوبنا هو السلام والتعاون والازدهار، فلنغتنم هذا الذهب".

ويقول روبرت كابلان في كتابه "انتقام الجغرافيا"، (رقم 420 في سلسلة عالم المعرفة الكويتية) "إن أوقات الاضطراب العالمي، التي تختبر افتراضاتنا حول ديمومة الخريطة السياسية، تؤدي إلى نهضة في التفكير حول الجغرافيا. ويكون هذا صحيحاً بشكل خاص، لأن الجغرافيا هي الأساس الحقيقي، للاستراتيجيا والجغرافيا السياسية. إن الاستراتيجيا كما عرفها نابليون هي فن استخدام الزمان والمكان بطريقة عسكرية ودبلوماسية، أما الجغرافيا السياسية، فتمثل دراسة البيئة الخارجية، التي تواجهها كل دولة عند تحديد استراتيجيتها الخاصة: على اعتبار أن هذه البيئة هي وجود دول أخرى، تكافح أيضاً من أجل البقاء والأفضلية. وباختصار، فإن الجغرافيا السياسية، هي تأثير الجغرافيا على الانقسامات البشرية. وكما قال نابليون، فإن معرفة الخصائص الجغرافية لأمة ما، ما تعني معرفة سياستها الخارجية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعل ما يدور في ليبيا وما يدور حولها، يبين محطة الجغرافيا باعتبارها أساساً في السياسة الخارجية، لليبيا وللدول التي تهتم أو تتدخل في الشأن الليبي، وأن المحطة التاريخية محطة ثانية وحتى ثانوية، ومن ذا فالخلاف اليوناني التركي في شرق المتوسط، ينعكس على المسألة الليبية من باب الجغرافيا، حتى وإن كان أردوغان الرئيس التركي، يكرر مؤكداً العلاقة التاريخية بين تركيا/ العثمانية وليبيا، التي ظلت ولاية عثمانية منذ بدء القرن السادس عشر وحتى 1912م.

لقد أزاحت المسألة الليبية بقوة الغبار عن باب الجغرافيا في السياسة الخارجية للدول، وظهر أن ليبيا الدولة النفطية، قبل وبعد، هي دولة الجغرافيا، ما تحتاز من البحر المتوسط وفي قلبه الجنوبي، على ألفي كلم تقريباً من شواطئه.

و"مذكرة التفاهم"، ما وقعها فايز السراج الرئيس الليبي السابق للمجلس الرئاسي ومجلس الوزراء، مع الرئيس التركي أردوغان المثير للزوابع! أثارت غبار التاريخ، لكنها أكدت الجغرافيا، التي معرفة خصائصها لأمة ما، كما قال نابليون، تعني معرفة سياستها الخارجية. وخصائص الجغرافيا التركية كما جعلت منها إمبراطورية، جعلت حدودها رجراجة غير ثابتة، وسياستها الخارجية قلقة، بين سكون وانكفاء وحركة ضاجة نحو الخارج، ودائماً طبعاً في علاقتها مع اليونان كما بركان لا يخمد.

أما السياسة الخارجية الليبية، فتبدو ضعيفة في وقتها الحالي، من آثار ماض عقيم فترة القائد الأممي معمر القذافي! وما بعده حرب أهلية لعقد من الزمان ولم تنته بشكل كامل بعد، رغم أن خصائص الجغرافيا، تمنح ليبيا حدوداً مفتوحة وقوية. وقد انعكس هذا الضعف، في زيارة حكومة عبد الحميد الدبيبة بقضها وقضيضها إلى أردوغان، لصبغ "مذكرة التفاهم". فيما زار في نفس الوقت محمد المنفي اليونان، ليصرح أنه ليس من حق المجلس الرئاسي ومجلس الوزراء الحاليين توقيع أي اتفاق لاعتبارات قانونية ليبية. وهذا قد يوحي بانقسام مضمر في السياسة الخارجية لليبيا.

ليبيا في الحقيقة، يمكنها أن تستعيد الروح والقوة من السياسة الخارجية، حيث جعلت الجغرافيا منها مقصداً، لسياسات خارجية في الإقليم وحتى لأوروبا، وبأن يتم توظيف هذه اللحظة الاستثنائية، من باب القوة لا الضعف، أي استثمار أنها مركز الآن وهنا، في المتوسط وفي التوسط لحلحلة أزمات أوروبية ومتوسطية، فالحراك السياسي الذي أعقب حلحلة المسألة الليبية يؤكد ذلك، ما جعل الجغرافيا الباب الأول، والحدود كائنات حية.

  • كلوديوس بطليموس، رياضي وعالم فلك وجغرافي، ومنجم وشاعر إبيجراما في الأنثولوجيا الإغريقية. من أهل القرن الثاني للميلاد. ولد نحو سنة 87م وتوفي قرب الإسكندرية نحو 150م. وهو وصاحب كتاب المجسطي. يقوم نظامه الفلكي على أساس أن الأرض ثابتة، وأن الأفلاك متحركة. وكان يعد أب الجغرافيا.                            
اقرأ المزيد

المزيد من آراء