Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يحيى حقي يروي الصراع بين لورانس "العرب" و"الحاج" فيلبي

جاسوسان بريطانيان يتنافسان بين القاهرة ومومباي لرسم خريطة المنطقة

كان يحيى حقي من الأدباء الحقيقيين (مواقع التواصل الاجتماعي)

قد يبدو الأمر لمُحبِّي أدب يحيى حقي غريباً بعض الشيء، لكنَّ هذا هو واقع الحال في الحقيقة. لقد كان حقي من أوَّل وأفضل الذين كتبوا، ذات يوم، عن حكاية صراع الجواسيس بين لورانس (العرب) والحاج عبد الله فيلبي، وتحديداً على "مستقبل منطقة الشرق الأوسط"، لكن حقي لم يكتب عن الموضوع بلُغة المُؤرِّخ، بل بلُغة الأديب الساخر الذي أتاح له وجوده في العشرينات كقنصل لمصر في جدة أن يرصد ما يحدث عن كثب. فكتب نصّاً طريفاً حول ما رصده من صراع إنجليزي - إنجليزي، بين "المكتب العربي" في القاهرة، و"الديوان الهندي" في مومباي، مؤكداً أن فحوى الصراع كان الوضع العربي بعد هزيمة الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى. لقد جاء نص يحيى حقي ظريفاً سريعاً، لكنه كان بالتأكيد يفتح الطريق أمام فهم، أكثر وعياً، لما حدث حقّاً أوائل القرن العشرين، شارحاً كيف أن ما يمكن أن نراه من قضايا كُبرى لعبت في مصادر منطقتنا العربية، لم يكن في حقيقة أمره أكثر من لعبة جواسيس.

وعود... وعود

تبدأ الحكاية، كما يخبرنا يحيى حقي في أحد فصول كتابه "خلّيها على الله"، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، ودخول الامبراطورية العثمانية فيها، ما أتاح للإنجليز إدراك أن أموراً كثيرة ستتبدَّل قريباً في الشرق الأوسط؛ ما يعني أن عليهم أن يستعدوا لذلك ويبدأوا العمل الفعلي. وكانت الخطوة الأولى من نصيب ما كان يسمى "المكتب العربي" في القاهرة، الذي كان يرأسه الميغور كلايتون، بمساعدة سير رونالد ستورز.

وكانت مهمة ذلك المكتب رصد تطور الحركة القومية العربية داخل إطار الامبراطورية العثمانية. وكان هذا المكتب تابعاً لوزارة الخارجية البريطانية، التي كان همُّها أن تُؤمِّن سلامة الخط البحري الذي كان يعتبر الشريان الوحيد لحركة الامبراطورية بين القارة الهندية والجزر البريطانية: خط خليج عدن - البحر الأحمر - قناة السويس. ومن أجل هذه الغاية راح "المكتب العربي" يسعى إلى تعبئة الأمراء العرب على ساحل البحر الأحمر، ضد الأتراك، وبخاصة شريف مكة حسين بن علي، زعيم الهاشميين، الذي سيُعلن نفسه عام 1916 ملكاً على الحجاز. وفي ذلك العام بالتحديد أرسل كلايتون إلى تلك المنطقة عميلاً شاباً يُدعى لورانس، كان قد أمضى عامين في عمل تمريني دؤوب داخل إطار "المكتب العربي". وكانت مهمة لورانس محددة: إبلاغ الشريف حسين وأبنائه الثلاثة أن المفوض السامي البريطاني المعتمد في القاهرة سير هنري مكماهون قرر جعل هؤلاء حكاماً مطلقين على الاتحاد العربي الذي سينشأ بعد زوال الوجود العثماني في المنطقة. وكان من الواضح أن تلك كانت سياسة رسمها مكماهون بالتعاون مع كلايتون ومساعديه، في الإسكندرية (فيليب فكري)، وفي الخرطوم (ريجنالد وينغيت). كل هذا حمله لورانس وذهب به إلى الهاشميين مطمئناً، لكنه كان يجهل، في ذلك الحين أن بلده، بريطانيا، يلعب في اللحظة نفسها لعبة أخرى على عادة الإنجليز التي ربما كان لورانس، لفرط غيابه عن لندن، قد نسيها!

المعركة الرئيسة

ففي الوقت نفسه، كان هناك "ديوان مومباي"، المكلف من قبل لندن حماية المستعمرات الإنجليزية مهما كان الثمن. وكان "ديوان مومباي" غير موافق على سياسة "المكتب العربي" في القاهرة، ومن ثم قرَّر أن يتحرك هو، بجهوده وعملائه، نحو منطقة أخرى من الجزيرة العربية، هي منطقة جنوب الجزيرة، حيث كان ابن سعود قد قرر بدوره أن يرفع لواء الثورة العربية ضد الأتراك.

وهكذا، في الوقت الذي تحرك فيه لورانس في اتجاه الهاشميين لإطلاق ثورتهم وتحركهم العسكري في اتجاه الشمال ضد الأتراك في شرق الأردن ونحو سوريا، طوال عام 1915، تحرك "ديوان مومباي" في هجوم مضاد. وفي مقابل لورانس، رجل "القاهرة". حرك المكتب الهندي سير جون فيلبي (والد الجاسوس السوفياتي لاحقاً كيم فيلبي) الذي سيعتنق الإسلام لاحقاً، ويُطلق على نفسه اسم الحاج عبد الله. كان فيلبي هذا شخصاً لا يقل غرابةً وجرأةً عن غريمه "القاهري"، فهو قد وُلد في سيلان ابناً لصاحب مزرعة للشاي، بثلاث سنوات قبل لورانس، لكنه درس في كامبردج، متخصصاً في الدراسات واللغات الشرقية – قيل إنه كان يُتقن ما لا يقل عن ست لُغات من هذا النوع هي العربية والبنجابية والبلوشية والفارسية والأفغانية والهندوستانية. وبفضل هذه "المواهب" ما كان لفيلبي أن يجد عملاً حقيقيّاً جديراً بذكائه سوى في دوائر الاستخبارات. وهكذا جُنّد، وأرسل الى مومباي. ومن مومباي أرسل إلى الجزيرة العربية من قبل ديوانها لرسم سياستها هناك. ومنذ تلك اللحظة بات واضحاً أن "المعركة الرئيسة" صارت بين ابن كامبردج، وابن أكسفورد.

خيبة جاسوسين

طبعاً، نعرف نهاية هذا كله. نعرف اليوم ما لم يكن في وسع لورانس، من ناحية، وفيلبي من ناحية أخرى، أن يُخمِّناه في ذلك الحين: "طلع الاثنان خائبين". أو على الأقل، لم يحقق أي منهما ما كان يتطلع اليه، حتى وإن كان سان جون فيلبي قادراً، لاحقاً، على القول إنه خرج منتصراً على الهاشميين، بعد طرد الأتراك. وفي المقابل، حتى وإن كان لورانس قد شعر بالهزيمة فإنه في النهاية "لم يطلع من المولد بلا حمص"، بل تمكن من أن يمهد الطريق لإنشاء المملكة الهاشمية بزعامة عبد الله بن الحسين، شرق الأردن، لكن هذه حكاية أخرى. غير أن هذه "الترضية" لم تخفف من غضب لورانس على بلاده، وهو غضب عبر عنه في تقارير سرية أو مُعلنة، وفي نصوص، من المؤكد أن فيلبي، في الوقت الذي كان يعتنق فيه الإسلام، ويسمي نفسه الحاج عبد الله، كي يتسلل إلى مؤتمر شعوب الشرق في باكو، لنسف المساعي الشيوعية لتجنيد شعوب آسيا المسلمة ضد بريطانيا، كان يضحك ملء شدقيه حين يقرؤها، كما يروي يحيى حقي على الأقل.

الأكثر موسوعية

رحل يحيى حقي عن عالمنا في ديسمبر (كانون الأول) 1992، عن عمر يناهز السابعة والثمانين. ولئن كان الرجل تركي الأصل. وكان ثمة في الحياة الأدبية المصرية من "يُعيره" بذلك الأصل ويأخذ عليه نقصاً في العروبة، فإنه كان في أدبه كما في حياته مصرياً أصيلاً ومُدافعاً عن القضايا العربية ومُنغمساً في اللغة العربية حتى النخاع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان يحيى حقي من الأدباء الحقيقيين، أي من ذلك الصنف النادر من الكتاب الذين كانت الموسوعية سمتهم الأساسية والحقيقية، فهو قد اشتهر كروائي، ولكن عبر رواية أساسية واحدة هي "قنديل أم هاشم" التي أصدرها في عام 1943، واعتبرت دائماً واحدة من أهم الروايات المصرية، على قصرها، من ناحية المضمون كما من ناحية الشكل. إذ كان يحيى حقي في تلك الرواية، من أوائل الذين استخدموا لغة عربية مُبسَّطة تقترب من العامية، وقدَّموا موضوعاً طليعيّاً حادّاً، يقول بين سطوره أكثر مما يقول في بنائه الخارجي.

من النقد إلى التهكم

إلى تلك الرواية نشر يحيى حقي العشرات من القصص القصيرة، التي استوحى فيها حياة المجتمع والناس البسطاء، ومن أهم مجموعاته "دماء وطني"، و"أم العواجز"، و"صحّ النوم"، وهي تنتمي جميعاً إلى الفترة الفاصلة بين سنوات الأربعين وسنوات الخمسين، أي حيث كان يحيى حقي لا يزال مُنخرطاً في السلك الدبلوماسي المصري.

وُلد يحيى حقي في القاهرة، وحصل على ليسانس الحقوق، وبدأ حياته العملية في مكتب للمُحاماة بالإسكندرية، وبعدها انتقل إلى دمنهور. وفي عام 1929، قُيِّض له أن ينتمي إلى السلك الدبلوماسي، حيث تنقَّل خلال ما يقرب من عشرين عاماً بين جدة وروما وباريس وأنقرة، حتى ختم حياته الدبلوماسية بأن عُيِّن وزيراً مفوضاً في ليبيا في عام 1952. واستقى من تجربته الدبلوماسية الفتية تلك عدداً كبيراً من الدراسات والمقالات التي نشرها في الصحف أولاً، ثم جمعها في كتب، هي أشبه بالسيرة الذاتية، لكنها سيرة ذاتية مُواربة، ومن أشهر تلك الكتب "خلّيها على الله" الذي استعرنا منه الحكاية التي رويناها أول هذا الكلام، و"كناسة الدكّان". وتتميز كتاباته في ذلك الحين بطابع تهكُّمي حادٍّ، وبنظرة قاسية يُلقيها على المجتمع وعلى البشر، وبرؤية ثاقبة مبكرة للاوضاع السياسية. إضافة إلى ذلك كله أسهم يحيى حقي في التأريخ للقصة المصرية عبر كتابه "فجر القصّة المصرية"، كما كتب في النقد الأدبي "خطوات في النقد".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة