بداية سبتمبر (أيلول) 2020 أعلنت وزارة السياحة في السعودية بدء ترميم المنزل الذي أقام فيه لورنس العرب فترة قصيرة قرب ميناء ينبع على البحر الأحمر، قبل مئة عام تقريباً. ذلك، المؤلف من طبقتين كان خراباً، عاكساً صورة الماضي الملغز التي رافقت سيرة الرجل الذي مر من هناك ولم يكن مجرد عابر سبيل، بدليل سيل المعلومات التي تحدثت عنه، والكتب والأفلام التي تناولت دوره وشخصيته.
تجربة لورنس العرب تحاكي تاريخاً لم يطوه الزمان بعد من تاريخ المنطقة العربية. هي، ليست سيرة شخصية خاصة بل جزء من تاريخ وأحداث رسمت خريطة المنطقة مع مجموعة أسماء شاركت في التحوّلات.
السيرة الملتبسة
توماس أدوار لورنس، هو الاسم الحقيقي للورنس العرب، بعدما تلبّس أكثر من اسم ومن شخصية، وبقيت سيرته مبهمة محاطة بالأساطير والبطولات الخارقة التي تحاكي الخيال لتصنع منه رمزاً لقصة تتلاحم فيها الجاسوسية مع الدبلوماسية، والسياسة مع العسكر، والتاريخ مع الجغرافيا، والشرق مع الغرب.
قصته تشبه هذا المنزل الذي أقام فيه. تحتاج إلى ترميم وإلى إعادة بناء للذاكرة بعد مئة عام على مرحلة تاريخية شارك فيها وتخلى عنها، وأثارت الكثير من الجدل، خصوصاً ما يتعلق بالمهمة التي قام بها. قد يكون واحداً ممّن صنعوا تاريخ المنطقة، لكنه حاز المدى الأوسع للشهرة مع الكثير من التشويق والإثارة، وربما هذا الأمر ناتج من غموض سيرة الآخرين الذين لم يُكشف عن أدوارهم الكبيرة.
أن تعيد وزارة السياحة السعودية ترميم ذاك المنزل وتنبش الذاكرة هي مسألة تتعلق بالاعتراف بما قام به لورنس الذي ارتبط اسمه بثورة الشريف حسين وانتهى معها. ليس هذا فحسب. فالرجل اعتبر أنه نفذ مهمته ثم انسحب إلى بلاده ليلعب أدواراً أقل أهمية، قبل أن يصبح أسير تجربته وينتهي منعزلاً عن الناس ليلقى حتفه في حادث على دراجته النارية في 19 مايو (أيار) 1935 وهو في عمر الـ 47.
عندما أتى لورنس إلى العالم العربي ليدرس تاريخ المنطقة لم يكن يعلم أنه سيصير جزءاً منه، لم يخطط ليلعب هذا الدور بل قاده قدره إليه وبرع فيه وصار ذلك "البطل" الذي تُكتب عنه الروايات والقصص، في حين كان يمكن أن يبقى منسياً. محارب ومغامر حقق انتصارات وانتهى مهزوماً. لمع كنجمة قبل أن ينتهي رماداً.
في 16 أغسطس (آب) 1888، ولد توماس إدوارد لورنس في عائلة بريطانية مرموقة اجتماعياً ومالياً. والده توماس تشابمان كان متزوجاً عندما ارتبط بعلاقة عاطفية مع مربية المنزل سارة لورنس، فأحبها وترك زوجته من أجلها وعاش معها من دون زواج كنسي، وأنجبا خمسة أولاد هم، بوب وتوماس وويل وفرانك وأرنولد. من الواضح أن توماس لورنس حمل اسم عائلة والدته الإسكتلندية وليس اسم عائلة والده الإيرلندي البريطاني. بين باريس ولندن تنقل مع عائلته، في طفولته، قبل أن يستقر في مقاطعة أكسفورد ويلتحق بمدرستها ثم بجامعتها.
على متن دراجة
كان معجباً بنابوليون بونابرت، لذلك رغب في دراسة هندسة القلاع العسكرية، وقدم بحثاً في الجامعة حول التاريخ العسكري في فرنسا أنجزه في العام 1909، بعدما تنقل في كل المقاطعات الفرنسية على متن دراجة قاطعاً مسافات بلغت نحو 2400 كيلومتر. ما قام به لقي استحساناً وتقديراً نظراً للمهارة التي تمتع بها فشكل بداية الطريق نحو الشرق حيث أراد استكمال دراساته وأبحاثه عن القلاع التي بناها الصليبيون خلال حملاتهم العسكرية. ركب البحر إلى ميناء بيروت في أواخر العام 1909، ممّهداً لهذه الجولة بتعلم اللغة العربية.
بين لبنان وسوريا والعراق، تنقل لورنس في مهمة علمية، لم يكن يدري أنها ستقوده إلى أخرى أكبر ذات أبعاد مختلفة ستدخله التاريخ. أنجز الدراسة وعاد إلى بلاده ليقدمها في الجامعة، التي تسلمتها وأطلعت الاستخبارات عليها، فاعتبرتها عملاً قيماً ومفيداً للدخول إلى الشرق الأدنى الذي كان تحت سيطرة السلطنة العثمانية. حينها كانت بريطانيا تحتل مصر تراودها أحلام الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في تسابق دولي لوراثة السلطنة العثمانية التي توشك على الانهيار بعدما سميت "الرجل المريض".
المهمة الاستخبارية
اتّصلت به الاستخبارات لتكليفه بمهمة طابعها علمي، وفي حقيقتها استخبارية تتعلق بدراسة طوبوغرافية - جغرافية عن منطقة سيناء حيث كانت تتحسب لأي محاولة عثمانية لاستعادة القاهرة انطلاقاً من الشرق وتحديداً سيناء. هكذا أصبح لورنس ضابطاً في الاستخبارات يعمل من المقر العام البريطاني في العاصمة المصرية. عندما انخرطت بلاده في الحرب العالمية الأولى كان هناك، ولم تكن عائلته بعيدة من مجريات الأحداث، حيث أن شقيقيه، فرانك وويل، قُتلا بفارق شهرين فقط على الجبهات الأوروبية في العام 1915، ما شجعه للانخراط أكثر في المهمة التي اختير لها.
كانت الثورة العربية الكبرى قد بدأت عندما انطلق توماس لورنس في مهمته، ودوره كضابط ارتباط بريطاني الدخول على خط التنسيق معها، مع منتدبين آخرين بتكليف من الدبلوماسية البريطانية أو الاستخبارات، ومن دون أن يكون أي منهم على معرفة بما يقوم به الآخر.
مهمة ضمن استراتيجية كبرى
في دهاء ومن أجل مصالحها الخاصة، وخلال مراسلات متبادلة بين الشريف حسين وبين المعتمد البريطاني في القاهرة السير هنري ماكماهون، تعهدت إنجلترا بالاعتراف بدولة عربية مستقلة بقيادته نتيجة التحالف ضد الأتراك، في الوقت الذي اتفقت فيه مع فرنسا على اقتسام تركة السلطنة العثمانية في الشرق، في ما عرف بـ"اتفاقية سايكس بيكو"، التي شملت تقاسم لبنان وسوريا وفلسطين والعراق مناطق نفوذ بينهما. بالإضافة إلى تعهدها لليهود بـ"وعد بلفور" القاضي بإقامة دولة لهم على الأرض الفلسطينية. كانت مهمة لورنس جزءاً من هذه الإستراتيجية التي اعتمدتها في الشرق، وعلى الرغم من انكشاف اتفاقها مع فرنسا بعد انتصار الثورة البولشفية في روسيا، لم يتغير المخطط ولم تتبدل التحالفات. في الأثناء، حاولت السلطات العثمانية إعادة التعاون مع الشريف حسين، لكنه كان قد مضى بعيداً في ثورته وأحلام إقامة مملكة عربية بدعم بريطاني بالخبرات والسلاح والعتاد، واستناداً إلى دراسات لورنس واتصالاته ودوره على الأرض، خاضت قواته معارك ناجحة ضد الأتراك وصولاً إلى السيطرة على ميناء العقبة الذي شكل نقطة تحول في الحرب ساهمت في نجاح عمليات الإنزال العسكري للقوات الإنجليزية التي كان لها دور كبير في فتح الطريق أمام القوات العربية نحو الشرق وصولاً إلى دمشق وبغداد.
وسط المعارك
بحسب المتناقل من الروايات التاريخية، كان من الطبيعي أن يبدأ لورانس في الاتصال بالشريف حسين، الذي أحاله على أولاده علي وعبد الله وفيصل، ففضّل التعاون مع الأخير لقدرات القيادية أكثر من الآخرَين، إضافة إلى تكليفه بالاتجاه على رأس قواته نحو الشرق، أي دمشق والقدس وبيروت.
شارك لورانس فيصل في القتال، فرسم الخطط ونقل المعارك من جبهات إلى أخرى، وقد وقع في أسر القوات التركية في درعا السورية، التي لم تتعرف إلى هويته ودوره فعذبته ثم أطلقت سراحه. ساعد لورنس في محاولة فيصل الحصول من الدولة البريطانية على ما كانت تعهدت به لوالده، خصوصاً قيام المملكة. لذا، رافقه إلى دمشق وعبرها إلى مؤتمر الصلح في باريس بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى من أجل تحديد الخرائط في المنطقة.
التجاذب بين بريطانيا وفرنسا
نتيجة الاتفاق البريطاني الفرنسي لم يكن القرار في يد إنجلترا وحدها. فالقوات الفرنسية إلى جانب قوات الأخيرة بقيادة الجنرال اللنبي كانت دخلت إلى لبنان وسوريا وتوغلت من القدس إلى بيروت، بينما وصلت قوات فيصل إلى دمشق، وحين رفع العلم العربي في لبنان استبدلته فرنسا بعلمها، ناقضة الاتفاق بين الحسين وبريطانيا. وفي 24 يوليو (تموز) عام 1920 هزمت الجيوش الفرنسية الجيش السوري الموالي للأمير فيصل، بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون عند أبواب دمشق وبسطت سيطرتها على كامل سوريا. وفي أول سبتمبر من ذلك العام أعلن الجنرال الفرنسي غورو من مقر المفوضية الفرنسية في قصر الصنوبر في بيروت دولة لبنان الكبير قبل أن تصير فرنسا الدولة المنتدبة على لبنان وسوريا.
لم تتخل بريطانيا نهائياً عن الشريف حسين وثورته، وعوّضت على أسرته بإعلان الأمير فيصل ملكاً على مملكة العراق الجديدة، وجعلت ابنه الثاني الأمير عبد الله ملكاً على شرق الأردن والقدس.
هذه المرحلة رافقها لورنس، ولم يكن راضياً عن الحل البريطاني ولكن في استراتيجيات الدول لا مكان للعواطف والعلاقات الشخصية. صحيح أنه بنى علاقة قوية وصداقة مع الأمير فيصل، وكان يرغب في أن تكون بريطانيا وفية لما وعدت به من إقامة المملكة العربية، وتولية الشريف حسين عليها، لكنه في النهاية بقي ذلك الضابط الذي لا يمكنه إلا أن يلتزم بما تقرره دولته من دون أن يعترض على عدم الأخذ بخلاصات تقاريره وأفكاره. لذا، عاد إلى مقر المفوضية البريطانية في القاهرة جندياً في خدمة المملكة منتظراً تكليفه بمهمة جديدة. وكان لديه شعور بالإخفاق في الفصل الأخير من معركته.
الشهرة
قبل انتهاء الحرب أصبح لورنس من المشاهير، بعدما كشف دوره وحقيقته الصحافي الأميركي لويل توماس الذي كتب قصته في الحرب. عدا ذلك، لن يكون له مستقبل مشرق بناه على ماض مجيد بالنسبة إليه.
عام 1921 عينه وزير المستعمرات ونستون تشرشل مستشاراً له للشؤون العربية، لكنه استقال عام 1922 وانضم إلى سلاح الجو الملكي ثم إلى سلاح المدرعات باسم مستعار، على الرغم من ذلك سرعان ما انكشفت هويته الحقيقية بعد الشهرة التي نالها وبعدما دبّج كتابه تحت عنوان "أعمدة الحكمة السبعة" الذي صدرت طبعة خاصة منه عام 1926. ولم تصدر الطبعة العامة إلا بعد وفاته.
انعزل لورنس عن العالم في كوخ صغير. وبحسب دائرة المعارف البريطانيه ترك سلاح الجو الملكي وتقاعد في 26 فبراير عام 1935، ثم انتهت حياته في منتصف العمر بعيداً من الجزيرة العربية، إذ لقي حتفه في 19 مايو من العام ذاته، في حادث دراجة نارية كان يستخدمها في تنقلاته. قبل عامين في 8 سبتمبر 1933 كان توفي الملك فيصل الأول في بغداد. أما الشريف حسين فتوفي في 14 يونيو عام 1931، بعدما أضطر إلى مغادرة مقره في مكة وتسليم السلطة إلى ابنه علي الذي أرغم بعد أعوام بالتسليم بسلطة الملك عبد العزيز آل سعود الذي أعلن قيام المملكة العربية السعودية عام 1932، وكان إلى جانبه ضابط بريطاني آخر جاء من مقر المفوصية البريطانية في الهند هو السير جون فيلبي، الذي أدى دوراً أكبر في رسم خريطة المنطقة، على الرغم من عدم حظوته بشهرة لورنس. لكن، لم ينته دوره بانتهاء الحرب، ولم يعتزل كما لورنس، بل اعتنق الإسلام وعاش في المملكة مستشاراً مقرباً من الملك ومات ودفن في لبنان.