Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مدينة ياسمين رشيد تزداد أعطابها بين صيف وآخر

رواية بالإنجليزية توثق أحداثاً مؤثرة شهدتها القاهرة في مراحلها الجديدة

لوحة للرسام المصري محمد عبلة (صفحة الرسام على فيسبوك)

في روايتها "حدث ذات صيف في القاهرة" (دار الشروق – القاهرة، ترجمة أحمد شافعي عن الإنجليزية)، تلتقط ياسمين الرشيدي صوراً لمدينة ألِفت الخسارة واعتادت التحول باتجاه القبح. وعبر رحلة جمعت بين ثلاثة أصياف متباعدة، رصدت الكاتبة تداعيات أحداث كبيرة وقعت في أزمنة مختلفة، لكن كان لها الأثر نفسه، فجميعها نحتت ندوباً عميقة في ظهر التاريخ.

اختارت الكاتبة أسلوب السرد الذاتي لسرد الأحداث التي بدأت في صيف عام 1984، فلم تتجاوز شخصيتها المحورية بضعة أعوام من عمرها. فالبطلة طفلة تشكّل وعيها في بيت تباينت فيه الرؤى والخلفيات، بين أم تنحدر من طبقة أرستقراطية تضررت بانتهاء العصر الملكي وخسرت ممتلكاتها في ظل قوانين ثورة 1952، وأب يحب عبد الناصر ويراه رجلاً حقيقياً منح الكثير لشعبه. وهكذا اندلعت المعارك بينهما التي كان عبد الناصر سبباً في أغلبها.

هذا التباين والشجار غرسا بذور التيه والانقسام لدى الابنة في طفولتها، ثم حلت تناقضات أخرى بدأت من مدرستها البريطانية ومعلمتها التي تعاقبها إذا نطقت كلمة عربية، تعلمها تاريخ استقلال بريطانيا العظمى وتأخذها إلى السفارة البريطانية لتنشد مع تلاميذ المدرسة دعاء لله كي يحفظ الملكة! لكن ابن عمها "ديدو" يخبرها أن مدرستها هي البقية الباقية من تركة الملكية والاستعمار وأن "الضباط الأحرار" صنعوا الثورة التي أنقذت مصر من البريطانيين والحكم، وحققت لها الاستقلال. تناقض آخر بين ما يخبرها به "عبده" الطباخ السوداني من أن الإنجليز والأميركان هم "سبب كل البلاوي"، بينما تغضب الأم مما يقوله الطباخ. جهاز التلفاز أيضاً أسهم عبر إرساله الموزع – حينذاك- على قناتين فقط، في إبراز تناقضات أخرى عمّقت بدورها الحالة ذاتها من الانقسام والتيه التي عاشتها الطفلة مبكراً. فبينما ينقل أخبار الجوعى في الصومال وإثيوبيا، لا يلتفت إلى أولئك الجوعى المنتشرين تحت الجسور وعلى أرصفة القاهرة. تتلقى الفتاة كل تلك التناقضات في بداية تشكل وعيها وفي بداية عهد جديد مع وصول مبارك إلى الحكم وسط حاشية يقول عنها الأب، إنها تصنع فرعوناً جديداً. ثم يبدأ لغز اختفاء الأب، الذي يغيب عن المشهد ولا يتبقى منه سوى ما تستدعيه ذاكرة الابنة إلى أن تخبو صورته شيئاً فشيئاً، بينما يظل لغز اختفائه حاضراً. لكن الكاتبة ترجئ حله والإفصاح عنه كحيلة تشويقية تزيد ارتباط القارئ برحلتها السردية.

الوعي الطفولي

يختزن وعي الطفلة ما يُقال لها عن الملك، عبد الناصر، والسادات، والإخوان، والشيوعيين، وحسني مبارك وسوزان مبارك، مع حرصها على تكرار عبارة، يقول بابا، تقول ماما، يقول عمي، يقول ديدو، وكأنها أرادت أن تبث فكرة بعينها حول صناعة التاريخ والحقائق وذاكرة الأجيال، التي تعتمد في جوهرها على "ما يقولون"، تلك الأقوال التي تغيب في ثنايا اختلافاتها الحقيقة المطلقة. غير أن هناك تأويلاً آخر قد ينطوي عليه إصرار الكاتبة على استخدام هذه الصيغة "يقول ..."، يكمن في كونها تعي دور الأدب في توثيق التاريخ الحقيقي، لا الذي يكتبه المنتصرون. لذا كان حرصها أن تعزو ما لم تره لمن تناقلوه وتداولوه، ولا تستخدم ضمير الأنا إلا في موضع يمنح عينيها مساحة الرؤية والرصد، ويتيح لها بعداً آخر تنتجه هي بعيداً مما يقوله الآخرون. وقد بدا ذلك في رصدها ماشاهدت حين داهمت سيارة الشرطة امرأة بائسة تبيع الطماطم والخيار على الرصيف، وحين رأت العمائر الجديدة تظهر في كل مكان فتلتهم ملامح جزيرة الزمالك، ويبيت الجمال كما كل شيء، شيئاً من الماضي، وحين شاهدت سقوط الجثث في التظاهرات برصاصات من الخلف... "إن من يكن شاهداً على التاريخ، فقد حُمّل عبئاً لا يتحمله إلا المصطفون" ص 130.

ولارتباط مفهوم الثورة بالتغيير (وفقاً لكل ما قيل لها)،  فإن التغير في بيتها الذي فقد ألفته مع الذين غابوا بالموت أو بالرحيل، والتغير في مدينتها التي توارت فيها مساحات الجمال، رسّخا لديها دلالة سلبية عن الثورة بحيث أصبحت مرادفاً للتحول إلى الأسوأ!

يبدأ الصيف الثاني في عام 1998، وتواصل الكاتبة رحلة السرد على لسان الابنة التي عبرت الطفولة إلى الشباب، وعبرت معها المدينة إلى مزيد من القبح ومزيد من الخسارات. تستمر في التقاط الصور فتُبرز العطب الذي حل بالمدينة، مثل إزالة معالمها الجميلة، واستشراء الزحام، واختفاء صفحة النيل خلف أندية جعلته حكراً على كبار الموظفين، وتفجيرات بين الحين والحين، وانتشار الحجاب بحيث لم يعد مخيفاً بعد أن أصبح الكل يرتديه. وبالمنهج ذاته الذي يمزج بين ما ترصده العين وما يقوله الغير، استمرت الكاتبة في استدعاء (على لسان بطلتها) ما يقال عن تورط الحكومة آنذاك في الاعتداء على المسيحيين والوعود الزائفة بمشروعات كبيرة مثل مشروع توشكى، وعن انتشار الفساد والسرقة. هكذا خرج مارد الغضب من قمقم الصمت وحدثت الثورة التي قادت إلى تولي محمد مرسي منصب الرئاسة، ثم ثورة أخرى أزاحته. ثم يأتي صيف أخير لم يبقَ فيه من المدينة القديمة سوى صورة باهتة بينما تفيض المدينة الجديدة بالمتسولين، والزحام، والكمائن، والبضائع الصينية المكدسة، والعنف والسجون. تفيض المدينة الجديدة بالمرضى بينما تغيب كل احتمالات النجاة، وتنتهي الأحداث كما بدأت ذات صيف تحزم فيه الابنة وأمها أغراضهما استعداداً لمغادرة البيت.

الوصف المتعدد

أجادت الكاتبة في استخدام الوصف في مستوييه الإبهاري والتفسيري، ووظّفته كاستراحة للقارئ. زادت من جمالية البناء من جهة، وأدت دوراً رمزياً يخدم الحبكة وينقل رسائل  مبطّنة من جهة أخرى. فهي حين تصف شارع النيل واللافتات الشاهقة فوق الأرصفة التي تعلن عن شركات الهواتف النقالة الجديدة والأوراق الإعلانية عن المقهى، إنما تشي عبر هذا الوصف (بما ينطوي عليه من رمز) بالحالة الاستهلاكية التي تعمّقت في المجتمع بعد الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات. وتبين طبيعة المنتج الذي يتم الاستثمار فيه (الهواتف النقالة – المقاهي) وفي ذلك تفسير لحالة الـ"بور انهيار"، وهي مفردة اخترعها ابن عمها ليصف تردي المدينة. كذلك استخدمت الكاتبة المستوى نفسه من الوصف لتبين زحف القبح وانسحاب الجمال من الشوارع والميادين... "يغرزون حواجز معدنية في الأسفلت، مغلفة بالمينا ومطلية بالأسود. لم يبق في المدينة الآن من بقع خضراء إلا ما تحيط به أسيجة. لكن العشب ميت على أي حال، ولونه حائل إلى لون القش" ص 64.

ويفسر هذا الوصف الحالة النفسية لبطلة الرواية وغضبها الصامت الذي كان يتنامى مع خسارة كل ملمح جميل من ملامح المدينة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحذف تقنية أخرى برز حضورها في البناء الروائي، فقد توالت الأحداث خلال ثلاثة أصياف غير متعاقبة، يمثل كل صيف مرحلة عمرية من حياة البطلة. وما بين تلك المراحل من أحداث وقعت تحت طائلة الحذف، بلغت الكاتبة ما أرادت أن تقدمه للقارئ خلال الفضاء الزمني الذي اختارته وما قامت من حذف أسهم في الإسراع بالسرد. ولم تبرز الأحداث الكبيرة ولم تخض في رسمها وتصويرها كمقتل السادات أو ثورة يناير (كانون الثاني)على سبيل المثال، وإنما رمت دوماً إلى رصد تداعيات تلك الأحداث وآثارها على المدينة وساكنيها.

وكما لعبت تقنية الحذف دوراً في الإسراع بالسرد، لعبت أيضاً دوراً تشويقياً في مواضع أخرى من النسيج، كحادثة اختفاء الأب التي حُذفت ملابساتها وأسبابها والأحداث التي قادت إليها، فظل اختفاؤه لغزاً يغري القارئ باقتفاء أثره لاكتشاف الحل الذي لن يتأتى اكتشافه إلا عبر تتبع مسيرة السرد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة