تنتهي رواية "نجم المساء" للروائي الكوري الجنوبي هوانغ سوك ـ يونغ من حيث تبدأ، من الناحية النصية. الرواية صدرت حديثاً عن دار "ثقافة للنشر" بترجمة زينة إدريس. ويونغ المولود في العام 1943 هو أشهر أدباء كوريا. نال عديداً من الجوائز الكورية. وجرى تحويل روايته "الطريق إلى سامبو"، الصادرة في العام 1973، إلى فيلم سينمائي ناجح. وباعت روايته الملحمية "تشانغ كيلسان" ما يزيد على مليون نسخة، ولا تزال من أكثر الأعمال مبيعاً في كوريا.
تبدأ "نجم المساء" بقول تشون، الراوي الأساسي والشخصية المحورية فيها، "في ذاك الشتاء اتُّخِذ قرار ذهابي إلى فيتنام" (ص 5). وتنتهي بقوله، "في طريقي إلى فيتنام، أدركت أنني بلغت في حياتي نقطة تحول لا رجعة فيها، لكن لم تساورني أي مخاوف بشأن مستقبلي غير المؤكد" (ص 253). وما بين البداية والنهاية، المتباعدتَين نصياًّ، المتطابقتين وقائعياًّ، مجموعة من الوقائع والأحداث المتمحورة حول حياة الراوي الأساسي، ومجموعة من أصدقائه، قبل بلوغها البداية / النهاية، أي قبل نقطة التحول التي لا رجعة فيها، في حياته.
في هذه الحياة، يقدم لنا الكاتب مجموعة من الطلاب في مدرسة ثانوية. يعاني معظمهم عدم التكيف. ويضيقون ذرعاً بالأطر المدرسية التقليدية التي تعيد إنتاج النظام الاجتماعي نفسه. ويعبّرون عن ذلك بسلوكيات، تصطدم بالأطر الجامدة، ما يؤدي إلى طرد البعض منهم، وانقطاع البعض الآخر عن الدراسة. ويروحون يبحثون عن معنى لحياتهم خارج الأسوار المدرسية، فيعثر بعضهم عليه، ويعود بعضهم الآخر من الغنيمة بالإياب.
البحث عن الذات
تدور أحداث الرواية في مدينة سيول العاصمة، في الستينيات من القرن العشرين، بعد تحرر كوريا من الاحتلال الياباني، وفي ظل انقسامها إلى دولتين، جنوبية وشمالية. ففي هذه اللحظة التاريخية يحس جيل بكامله بالضياع واللامعنى وفقدان الاتجاه، ويروح يبحث عن نفسه، ويتعرف إلى وطنه، من خلال مجموعة من الآليات، منها التمرد والتشرد والتسول والتسكع والرحلة والتأمل والخلوة والكتابة والرسم والعمل الشاق والدراسة والاكتشاف والمغامرة، ما ينخرط فيها أفراد المجموعة بنسب متفاوتة، وتتمخض عن نتائج تختلف من فرد وآخر. والكاتب يعبّر، من خلال المجموعة، عن حياة جيل كامل.
تلعب شخصية تشون دوراً محورياً في الرواية، في الشكل والمضمون. ففي الشكل، يسند إليه الكاتب روي سبع وحدات سردية من أصل ثلاث عشرة وحدة، هي مجموع فصول الرواية، بينما يسند الوحدات الست الباقية لست شخصيات بعدد وحدة واحدة لكل شخصية. وبذلك، يروي أكثر من نصف الرواية. وإذا ما علمنا أن تشون يحضر في الوحدات التي يرويها الآخرون كلازمة، تتأكد لنا محورية الشخصية في الشكل. وفي المضمون، يرسم لنا الكاتب شخصية تكره طاعة الأوامر، تميل إلى المشاغبة والسخرية، تضيق بالأطر الضيقة، وتنزع إلى التمرد على المواضعات العامة.
كوكب صغير
من هنا، وفي مواجهة الأطر المدرسية الجامدة، والأنظمة التربوية البالية، يقرر تشون قراره بمغادرة المدرسة واكتشاف الحياة، على طريقته، لا سيما بعد طرد زميله إينهو منها، لمحاولته رفع الظلم عن أحد التلاميذ، والتصدي ليونغون المتزعم عصابة طلابية. ويبرر قراره بالقول، "أريد أن أعيش حياتي على طريقتي، حتى ولو كان ذلك يعني التخلف عن الركب مهنياً"، وبالقول، "أنا كوكب صغير خرج عن مداره. سأتبع مساري وأترك نفسي للتيار" (ص 35). هذا الوعي المبكر بالفرادة والاختلاف يدفع تشون إلى الانخراط في حياة التسكع والانتقال من مكان إلى آخر، في محاولة منه لاكتشاف النفس، والتعرف إلى البلد. وبذلك، يعول على الخبرة الميدانية، المكتسبة من الترحال، والتخييم في العراء، والإقامة في كهف جبلي، والقيام بأعمال شاقة، أكثر من تعويله على ما تقدمه المدرسة من دروس. على أن ذلك لم يحل دون ممارسته هوايتي القراءة والكتابة بالتزامن مع الخبرة الميدانية.
في اختباره الميداني، يلازمه صديقه إينهو الذي يقاسمه الميل إلى التمرد وممارسة هوايات القراءة والكتابة وتسلق الجبال لأطول فترة ممكنة فيما ينضم إليهما الأصدقاء الآخرون لفترات قصيرة تختلف من صديق إلى آخر. فيشاركهما يونغجيل وتشونغسو في بعض الرحلات، ويقيم معهما سانغجين بضعة أيام في الكهف الجبلي. ويلتقي الجميع لقاءات شبه دورية في مقهى موتسارت حيث يتجاذبون الحديث، ويتبادلون الأنخاب، ويأكلون الطعام. فيشكل المقهى مكاناً محورياً يتواصل فيه الأصدقاء بعد انقطاع، وقد ينضم إليهم آخرون أو أخريات، ويكون بداية لعلاقات عاطفية، تطول أو تقصر، تبعاً لمقتضى الحال.
مسارات ومصائر
في غمرة بحث كل منهم عن نفسه، قد تتشابه الاهتمامات، وتتقاطع المسارات، وتلتقي المصائر، فيشترك تشون وإينهو في القراءة والكتابة وتسلق الجبال. ويتقاطع تشونغسو وتشانغ مو وسوني في ممارسة فن الرسم. ويحاول كل من تشون وسانغجين الترهبن والانتحار، وينخرط تشون والملازم في الأعمال الشاقة. على أن القاسم المشترك بين الجميع هو البحث عن معنى، والقلق من الحاضر، والخوف من المستقبل.
وخلال هذا التشابك العلائقي بين الشخوص المختلفة، تتمظهر مجموعة من القيم الإنسانية الجميلة، كالصداقة والتضامن والحب والكرم والوفاء والمروءة ومساعدة المحتاج والانتصار للضعيف ورفض الظلم وغيرها. وعلى الرغم من تعالق المسارات المختلفة، في محطات معينة، يكون لكل من الشخوص مصيره المختلف عن الآخرين، فتشون يجد نفسه أخيراً في الانخراط في الجيش، ويستعد لتنفيذ قرار الذهاب إلى فيتنام للمشاركة في الحرب دون أن تساوره مخاوف بشأن مستقبله. وإينهو يعثر على ذاته في زراعة الأشجار. وتشونغسو يوشك الارتباط بسوني، ويدرس الهندسة المعمارية نزولاً عند رغبة حميّه. ويونغجيل وسانغجين يمارسان شغفهما بالمسرح. وميا تشعر بالحرية حين يتردد تشون في قبول عرضها قضاء الليل معاً، وتعود إلى الجامعة. وسوني تفعل مثلها تنفيذاً لأمر أبيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، يعثر كل من شخوص الرواية على بداية جديدة، بعد تخبط وضياع وارتباك. فهل يكون "نجم المساء" الذي تكنّي به الرواية عن كوكب الزهرة معادلاً روائياً للنجم القطبي الذي يهدي القوافل إلى الاتجاهات المقصودة، فلا تضيع في مهامه الصحراء".
الخطاب الروائي
يستخدم يونغ في روايته تقنية تعدد الرواة، فيعهد إلى سبعة شخوص القيام بمهمة الروي، يتناوبون عليها، كل من موقعه، ما يجعلنا إزاء لعبة مرايا متقابلة، طرفها الثابت تشون، وطرفها المتغير هو الآخرون. وفي هذه اللعبة، تتعدد روايات الواقعة نفسها بتعدد المرايا العاكسة، وينجم من هذا التعدد منظور روائي متكامل. وينسحب التعدد في "نجم المساء" على أنماط الكلام، فتتراوح بين السردي والوصفي والحواري، يرصد الأول حركة الأحداث في الزمان، ويتناول الثاني حركة الإنسان في المكان، ويعبّر الثالث عن حركة التواصل بين الشخوص المختلفة. على أن استئثار النمط الوصفي بالحيز الأكبر من النص يتناسب مع مقتضيات أدب الرحلة، بما هو مشاهدات وانطباعات واكتشاف للمكان، مما يشغل مساحات واسعة في الرواية. ولا يقتصر التعدد على الرواة والمناظير والأنماط وحسب، بل يمتد إلى الأنواع أيضاً، فيتم كسر نمطية الروي بقصة قصيرة جداً أو حكاية مدرسية أو أغنية أو قصيدة أو معلومة تاريخية أو غيرها. وغني عن البيان ما يضفيه التعدد، على أنواعه، من حيوية وتنوع على النص، ما ينعكس بدوره على عملية التلقي، ويشحذ قدرة القارئ على القراءة.