شيوخٌ أجسادهم نحيلة، وأطفالٌ بملابس ممزقة تنهشهم الأمراض، نساءٌ ينتظرن العائل، عسى أن يأتي بما يسد الرمق. الشمس تحيط المكان، فتلفح أشعتها وجوه الموجودين، فتمنحهم سمرةً، بلون أيامهم، التي لم تكن في الحسبان، وترسم تجاعيد الزمن على جباههم، لا تفرق بين كبير وصغير، إنهم خارج الزمن، داخل المكان... ما سبق ليس خيالاً، بل مأساةٌ إنسانيَّة يعيشها مئات النازحين اليمنيين، ممن أجبرتهم الحرب على الفرار من ديارهم بحثاً عن مأوى آمن في مخيمات النزوح، داخل مخيم الرباط (20 كم شمالي العاصمة المؤقتة عدن)، ذلك المخيم، الذي خصصته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لاستقبال النازحين القادمين من محافظة الحديدة (غربي البلاد)، وهو واحدٌ من عشرات المخيمات في اليمن، الذي يشهد إحدى أكبر أزمات النزوح في العالم جراء الحرب الدائرة في البلاد، منذ أربع سنوات، بين القوات الحكومية مسنودة بالتحالف العربي من جهة، ومسلحي الحوثي من جهة أخرى.
أم وأربعة أطفال
يلتف أربعة أطفال حول ثريا ناصر، (46 عاماً)، التي تمسك بقطعة كرتون تستخدمها في إشعال جذوة النار، إذ تطهي بعض الخضار والأرز لأطفالها.
وتحكي ثريا، القادمة من ريف الحديدة، مأساتها الإنسانية، بينما الأطفال يحملقون في الإناء، وكأنهم ينتظرون الفرج، "فرَّرت وأطفالي من سعير الحرب المشتعلة بضراوة على تخوم قريتي في تهامة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستكمل الأم سرد معاناتها لـ"اندبندنت عربية"، "جئنا المخيم، لكن كما ترى نعاني شحاً شديداً في المستلزمات الأساسية، التي يحتاجها النازحون من الغذاء والماء والدواء والفرش ومستلزمات الحياة الأساسية الأخرى، نحن هنا منذ عامين، ولم يسأل عنا أحد، باستثناء ما يجود به القائمون على المخيم، ببعض السلال الغذائية".
وحينما سألناها عن عائل الأسرة قالت، "زوجي يجوب عدن بحثاً عن عمل يوفر لهم ما يكفيهم شر الحاجة".
500 خيمة
تقول الدكتورة شذى عمر، مسؤولة سابقة في مخيم الرباط، "إن المخيم يحوي نحو 500 خيمة، تضم كل واحدة عدداً من أفراد الأسرة النازحة، التي تختلف من أسرة إلى أخرى".
وأكدت عمر، في حديثها إلى "اندبندنت عربية"، أن "النازحين يعانون نقصاً في الغذاء على الرغم من حصولهم على سلال غذائية بشكل شبه شهري من أكثر من منظمه ومن فاعلي الخير، لكن مع الأسف يقوم بعض النازحين ببيعها مقابل الحصول على المال"، موضحة "أن أكثر الفئات معاناة في هذا الجانب هي فئات الأطفال والحوامل والمرضعات، باعتبارها فئات تتطلب غذاءً خاصاً".
وعن الأمراض المنتشرة بين اللاجئين أشارت شذى إلى أن "أكثر الأمراض الشائعة في المخيم تتمثل في الإسهال ونزلات البرد والأمراض الجلدية نتيجة التزاحم وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية، إضافة إلى الأمراض المزمنة كالضغط والسكر وأمراض القلب، وسببها نقص حاد في الوعي الصحي والثقافي لدى النازحين، فضلا عن بعد المسافة بين المخيمات ودورات المياه".
وفيما يتعلق بالتعليم أفادت شذى، أن "المخيم وفَّر للأطفال صفوفاً دراسية ومعلمات من النازحات أنفسهن".
وناشدت المسؤولة السابقة في مخيم الرباط، "المنظمات الدولية بسرعة العمل على رفع الوعي الصحي عند النازحين عن طريق التثقيف الصحي ونشر المطبوعات المزودة بالصور، التي توضح الطريقة الصحيحة للنظافة الصحية، ودورها في التقليل من نسبة الإصابة بالأمراض المعدية، وانتشارها وتوفير مزيد من وحدات دورات المياه الصحية".
أمراض ونقص في الغذاء
ويقول وزير حقوق الإنسان اليمني محمد عسكر، "إن الحرب خلّفت عدداً مهولاً من النازحين، يكفي أنه قبل عام تقريباً كانوا نحو 3,7 مليون نازح، أمَّا الآن فلا شك أن العدد تضاعف، نظراً إلى اتساع نطاق العمليات العسكرية في الحديدة والضالع".
وأضاف عسكر، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أنه "لا بد من تحرك عاجل قبل حلول الصيف لتنفيذ إرشادات طبية عاجلة بين صفوف النازحين والقيام بعمليات الإصحاح البيئي لمنع تفشي وباء الكوليرا، خصوصاً أن أكثر الفئات عرضة للإصابة بوباء الكوليرا هم الأطفال والنساء وذوو الاحتياجات الخاصة".
وعن الأوضاع الصحيَّة أشار وزير حقوق الإنسان اليمني، إلى أن "النازحين يعانون أوضاعاً صعبة للغاية، إذ يفتقدون إلى المأوى الآمن والإنساني، ويعانون سوء التغذية وتبعاتها، كذلك الأمر بالنسبة إلى العناية والرعاية الطبية والإصحاح البيئي والمياه النظيفة".
ووجَّه عسكر دعوة إلى "المنظمات الدولية لتحقيق هذه الاحتياجات بصورة عاجلة والوصول إلى مختلف أماكن النازحين وتقديم الغذاء والدواء في الوقت المناسب والعمل على تحسين سبل عيشهم وعدم تركهم للإهمال والمجاعة".
نزوح جماعي
يذكر أن اليمن يشهد منذ خريف عام 2014، حرباً بين القوات الموالية للحكومة من جهة، ومسلحي الحوثي من جهة أخرى، مخلفة أوضاعاً إنسانية وصحية صعبة، فضلاً عن تدهور حاد في اقتصاد البلد الفقير بالأساس.
وكشفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نهاية العام الماضي، عن "تشريد الحرب الدائرة في اليمن مليوني مواطن، جميعهم يواجهون حالة من انعدام الأمن، ولديهم احتياجات أساسية، ويعيش غالبيتهم مع عائلات مضيفة أو في سكن بالإيجار، بينما يعيش آخرون في مخيمات مؤقتة".
وفي إشارة إلى المستوى المريع، الذي وصل إليه حال النزوح الداخلي في اليمن جراء الحرب، أشارت اللجنة إلى أن "الأزمات الحادة والمباغتة تسببت في نزوح جماعي للسكان، يعجز عندها مصطلح النازحين عن رسم أدنى صورة للوقائع المروعة التي يواجهها هؤلاء الناس في مناطق عديدة من اليمن".