Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فونتامارا" للإيطالي إغناسيو سيلوني رواية الفلاحين وثورتهم المجهضة

الرحم الذي ولدت منه إبداعات بينها "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي

الكاتب الإيطالي إغناسيو سيلوني (غيتي)

تعد رواية "فونتامارا" للكاتب الإيطالي إغناسيو سيلوني، واحدة من أشهر الروايات الفلاحية التي كتبت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي تتميز في نظر مؤرخي الأدب بخاصيتين قد لا تنفرد بهما تماماً، لكنهما تبدوان صارختين: من ناحية كونها رواية لم يتوقف كاتبها منذ أنجزها للمرة الأولى، عن تعديلها وتبديل أحداث ومعان فيها، ليس لاعتبارات جمالية أو أدبية، بل تبعاً لتغيراته السياسية والأيديولوجية، بحيث تكاد آخر طبعاتها في حياته تبدو متناقضة مع أولى تلك الطبعات. وثانيتهما كون كثير من الكتاب في أوروبا وخارجها قد كتبوا على منوالها، وبشكل واضح يقترب من حدود "النسخ" أحياناً، روايات مشابهة لها عرفوا في معظم الأحيان كيف يضفون عليها طابعاً محلياً وطنياً بدا دائماً مقبولاً. وفي هذا الإطار قد يكون في إمكاننا أن نذكر رواية "الأرض" للكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي التي تكثر نقاط التشابه بينها وبين "فونتامارا" إلى حد سمح لكثيرين، ولا سيما منذ أن حولها يوسف شاهين إلى فيلم يعد دائماً من أفضل أفلام السينما العربية، بالقول إنها تكاد تكون نسخة من الرواية الإيطالية، غير أن هذا القول غير دقيق على الرغم من كثرة ضروب التماثل بين الروايتين، والأكثر دقة هو القول إن الشرقاوي واتته عندما قرأ "فونتامارا" – وهو قرأها بالتأكيد، وأحسن قراءتها – رغبة بكتابة "نسخة" مصرية لها. ولنعترف هنا بأن الشرقاوي عرف كيف "يمصّر الموضوع"، بفضل معرفته العميقة بأحوال الريف المصري، فأتى عمله مصرياً خالصاً، بل أتى قادراً حتى على الانفتاح على شؤون عربية/ مصرية ركز عليها شاهين في فيلمه، فأتت دقيقة في ارتباطها بالشأن العربي إلى ارتباطها بالشأن الاجتماعي الريفي المصري، بيد أن هذه مسألة أخرى ليس هنا مكانها.

ثورة الفلاحين المجهضة

ما يهمنا هنا هو أننا مع "فونتامارا" أمام رواية شعبية واقعية ترسم بطولات الفلاحين الإيطاليين البائسين في ريف أمبروزيو، ونضالاتهم، في سبيل قضية الري وملكية الأرض خصوصاً، ضد الإقطاعيين، وضد رجال السلطة، التي راح وجهها الفاشي القمعي يظهر أكثر وأكثر منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي مع تحول موسوليني نفسه من الاشتراكية إلى الفاشية.
كتب سيلوني "فونتامارا" في عام 1934، و"فونتامارا" في الرواية هي القرية التي تدور فيها الأحداث. وفيها يعيش الكافوني (طائفة الفلاحين البائسين)، لا سيما من حول واحد منهم هو بيراردو فيولا – لا بد أن نلاحظ أن محمد أبو سويلم في "أرض" الشرقاوي، يكاد يكون نسخة كاملة منه - فهو ساخر من وضعه سخرية تعطيه ثقة بالذات في بعض الأحيان، مناضل دون هوادة في سبيل حقه وما يتصور أنه حقوق الآخرين، يخوض نضالاته بين الحين والآخر، غالباً حين يتمكن من أن يجمع من حوله رفاقه ليثوروا معاً، لا سيما حينما يحل موسم الري ويكتشفون تماماً كما في "الأرض" أن الإقطاعي الأمير تورلونيا المتحالف وهو في المدينة، مع سلطة الدولة، ومع المحامين ورجال الدين، يحصل على الماء لنفسه ولأراضيه من دون أدنى اعتبار لمصالح الفلاحين الذين بالكاد يمتلك أيهم شيئاً، سوى حماره، والحد الأدنى من مقومات العيش. وهكذا تقدم لنا الرواية مروية بشكل خاص على لسان فلاح وامرأته وابنه، الصراعات على مستويات عدة: الريف ضد المدينة، والبائسون ضد مستغليهم، والفلاحون ضد تحالف الإقطاعيين، والدولة والكنيسة. وفي مثل هذه الصراعات، يحدث لفيولا، وهنا أيضاً كما ستكون حال محمد أبو سويلم، أن يبقى في نهاية الأمر في الصراع وحيداً، بعد أن يغدر به الجميع، عن تواطؤ أو عن خوف أو عن لا مبالاة، ولكن فيما ينتهي الأمر ببيراردو فيولا إلى الرحيل عن القرية، وتحديداً حينما بدأ أهلها الإعداد لثورتهم العارمة، ينتهي الأمر بالبطل المصري إلى أن يسحل وهو متمسك بأرضه وترابه. وفي الحالين، مع فوارق النهاية، نجد أنفسنا أمام بطل فردي، لا يعدم الكاتب أن يدين فرديته، ولو ضمنياً لمصلحة ثورة اجتماعية.

بين سيلوني ومورافيا

إذا استثنينا ألبرتو مورافيا الذي يعد، في جميع الأحوال، أشهر كاتب أنجبته إيطاليا في القرن العشرين، من دون أن يترتب على ذلك، بالطبع، اعتباره أفضل كتابها، سيكون بإمكاننا أن نعتبر أغناسيو سيلوني واحداً من الكتاب الإيطاليين الذين عرفهم قراء العالم بأسره أكثر من غيرهم، ولا سيما منذ عام 1930، حين صدرت "فونتامارا" (في ترجمة ألمانية قبل أن تصدر بالإيطالية)، وترجمت بعد ذاك إلى عشرين لغة على الفور، ليتلقف مئات الآلاف من القراء أدب سيلوني ويقرؤوه بنهم منتظرين بشغف صدور كتبه ورواياته التالية، التي كانت سرعان ما تترجم إلى شتى اللغات بدورها، غير أن هذا النجاح لن يمنعنا من طرح سؤال أساسي: هل كان سيلوني كاتباً كبيراً حقاً له قامة ألبرتو مورافيا؟

ثائر ضد الرومان

في هذا المجال، وكمحاولة للرد على هذا السؤال يمكن المقارنة بين الاثنين، انطلاقاً من أن هذين الكاتبين الإيطاليين الأشهر لم يقرآ على نطاق واسع بسبب جودة أدبهما، بقدر ما قرآ بسبب ما يقف في خلفية ذلك الأدب: العامل الجنسي لدى مورافيا، والعامل السياسي لدى سيلوني. فالحال أن قراء هذا الأخير، كان أشد ما يجذبهم إليه العامل السياسي وعنصر التمرد الأيديولوجي، الطاغيين على كتبه. وسيلوني، على عكس مما قد يخيل للكثيرين، لم يبدأ حياته كاتباً وأديباً، بل بدأها كمناضل سياسي. وهو حتى حين اختار لنفسه اسماً مستعاراً (إغناسيو سيلوني) بدلاً من اسمه الحقيقي (سيكوندو ترانكويللي)، إنما اختار اسم ثائر انتفض يوماً ضد الرومان.

ولقد عبر سيلوني في معظم كتبه عن معاركه السياسية، وربما كان هذا ما جذب إليه آلاف وعشرات آلاف القراء في زمن كان فيه الحلم الاشتراكي لا يزال يداعب فيه خيال المثقفين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

افتتاح الحياة بمأساة

سيلوني، الذي افتتح حياته بمأساة هزة أرضية قضت على أبيه وإخوته، نشأ لدى أسرة متواضعة ريفية هو المولود في عام 1890، في الأول من مايو (أيار)، كما كان يحب دائماً أن يشير، وكان من الطبيعي له في بلد يعتاش من التمرد والسياسة (الريف الإيطالي)، أن ينخرط في العمل النقابي والسياسي باكراً، حتى أصبح رئيساً للشبيبة الاشتراكية. وحين تأسس الحزب الشيوعي الإيطالي خلال مؤتمر ليفورنو في 1921 انضم إليه سيلوني مع أعضاء شبيبته الاشتراكية، ليصبح بعد حين، إلى جانب غرامشي وتولياتي واحداً من قادة الحزب، وهذا ما اضطره في 1928، إثر صعود الفاشية، للهرب لاجئاً إلى سويسرا، بعد ذلك، في 1930، عندما اشتدت قبضة ستالين على الاتحاد السوفياتي، وبدأ الحبل يشتد من حول رقبة تروتسكي، وقف سيلوني مدافعاً عن هذا الأخير، وهو الذي يعرف موسكو والحياة الحزبية فيها بشكل جيد، فكان أن طرد من الحزب الشيوعي في 1930، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه روايته الأولى "فونتامارا"، التي تتماشى مع مزاجه السياسي والفكري لتلك المرحلة.

بداية جديدة

ولقد سجلت تلك الرواية بداية حياة سيلوني الأدبية، وكذلك بداية المرحلة الأولى من المراحل الثلاث التي تشكل، حسب مؤرخي حياته، مجمل مساره الأدبي: مرحلة المنفى (حيث كان يعيش في سويسرا، وأصدر نحو عشرة كتب، منها ما هو رواية، وما هو مجموعة قصصية، وما هو دراسة)، ثم مرحلة المنفى داخل الوطن (عاد إلى إيطاليا في عام 1945)، لكن الأوساط اليسارية الأدبية تجاهلته بسبب عدائه للحزب الشيوعي، بينما تجاهلته الأوساط اليمينية انتقاماً من ماضيه، وأخيراً مرحلة التكريس، ابتداءً من 1965، وهي المرحلة التي تمكن فيها من أن يفرض نفسه ويجتذب إلى أدبه وكتاباته الأخرى قراءً إيطاليين بدأوا يقرؤونه بلهفة وسط مناخ كانت الأيديولوجية قد بدأت تبتعد عنه. ومنذ تلك اللحظة بدأ سيلوني ينال الجوائز والتكريم، وصارت مجلته "الزمن الراهن" واحدة من المجلات المقروءة أكثر من غيرها في الأوساط المثقفة. و"الزمن الراهن" هي المجلة التي أسسها سيلوني وراح يدافع فيها عن مواقفه، ويتابع معركته ضد شتى أنواع الجمود الأيديولوجي.

وصية سياسية

إذاً، منذ إعادة اعتباره أواسط الستينيات، وحتى رحيله عام 1978، فريسة المرض والإجهاد، صار سيلوني معلماً من معالم الحياة الثقافية الإيطالية حتى وإن كان قد كف عن أي نشاط خلال العقد الأخير من حياته. ساعد على ذلك كتابان أخيران نشرهما، وكانا أشبه بوصية سياسية، أولهما بعنوان "باب الخروج" (1965)، وفيه يروي حكايته مع الحزب الشيوعي الإيطالي، وثانيهما "مغامرة مسيحي مسكين" (1968)، وفيه يروي، بدلالة لم تفت قراءه، حكاية البابا سيليستين الخامس، الذي كان البابا الوحيد في تاريخ الكنيسة حتى ذلك الحين، الذي استقال من منصبه في العصور الوسطى. ومن بين أشهر كتب سيلوني الأخرى "خمر وخبز" (1936)، و"رحلة إلى باريس" (1934)، و"سر البحيرة" (1956)، علماً بأن أحداث معظم رواياته كانت تدور في أوساط الفلاحين البائسين الذين تفنن دائماً في الحديث عنهم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة