ذات مرة، اشتكى لي مقاتل سابق في "داعش" من أن المتطوعين الغربيين الذين سافروا إلى ما سُميّ "الدولة الإسلامية" في شمال شرقي سوريا، شكّلوا عبئاً لأنهم لا يتحدثون العربية وليست لديهم خبرة عسكرية ولا يعرفون الكثير عن الإسلام، وغالباً ما سافروا لأنهم عانوا شعوراً بالملل أو بعدم السعادة في أوطانهم.
وأضاف أن أهميتهم الرئيسية بالنسبة إلى "داعش" تكمن في الدعاية، لأنهم يُظهرون من خلال خوضهم رحلة صعبة بهدف الانضمام إلى دولة الخلافة المزعومة، أن أيديولوجية التنظيم تحظى بجاذبية عالمية.
في هذا الصدد، حققت شميمة بيغوم، التي قررت المحكمة العليا البريطانية منعها من العودة إلى بريطانيا بهدف الاعتراض على سحب جنسيتها، بالفعل أكثر من توقعات "داعش". فعلت ذلك في 2015، عندما سافرت في سن الخامسة عشرة، عبر رحلة مثيرة إلى سوريا للانضمام إلى "داعش" برفقة صديقتين من "بيثنال غرين أكاديمي"، ما أثار ضجة في وسائل الإعلام البريطانية تكررت عندما عاودت الظهور عام 2019 في مخيم "الهول" للاجئين الذي يسيطر عليه الكرد في سوريا.
كان من الأفضل أن تنأى الحكومة البريطانية بنفسها عن القضية برمتها، لأن أي شيء تفعله يمكن أن يُطيل قصة بيغوم ويعزز قيمتها بالنسبة إلى عناصر "داعش" و"القاعدة" كأيقونة دعاية. وكذلك توجّب على الوزراء ألا يفعلوا شيئاً على الإطلاق، وأن يسمحوا لها بالعودة إلى بريطانيا. حينئذٍ، كانت ستتهم بمساعدة الإرهاب، لا سيما إذا كانت تشكل "تهديداً حقيقياً وقائماً للأمن القومي"، بحسب محاميي وزارة الداخلية.
لكن وزراء الحكومة لا يحبون أن يُنظر إليهم على أنهم لا يفعلون شيئاً عندما تتاح لهم فرصة الظهور في مظهر الشخص الصارم والمسيطر على الأمور. لذلك عمد وزير الداخلية آنذاك ساجد جاويد إلى تجريد بيغوم من جنسيتها البريطانية ومنحها بذلك دعاية كبيرة. ولا أعني أنها خططت هي و"داعش" لذلك، لكن تلك النتيجة بدت حتمية ومتوقعة.
وفي نظر كثيرين، لقد حوّلتها الحكومة من مؤيدة تساند حركة قتل جماعي إلى ضحية تثير الشفقة تلاحقها سلطات عديمة الشعور. علاوة على ذلك، لقد لاحقتها الحكومة بطريقة مشكوك في شرعيتها، ما أوجب الطعن فيها عبر المحاكم. كذلك لن تختفي تلك القضية لأن قرار المحكمة لم يحسم وضعها قانونياً. إذ أفاد بأنه ينبغي تأجيل استئنافها ضد حرمانها من الجنسية البريطانية حتى تصبح في وضعية تمكنها استئناف [الحكم ضدها] من دون المساس بالسلامة العامة.
قد يجادل البعض بأنها كانت مراهقة صغيرة عندما ذهبت إلى سوريا للمرة الأولى، ولا يمكن تحميلها المسؤولية الكاملة عن أفعالها. وربما "أُعِدَّت" كي تنضم إلى "داعش"، على الرغم من أن هذا يفترض أن الفتاة البالغة من العمر 15 سنة لا يمكنها اتخاذ قرارات بمفردها، وتالياً يتوجب إعفاؤها من المسؤولية عندما تتبين غلطتها.
في 17 فبراير (شباط) 2015، سافرت بيغوم وصديقاتها من المدرسة من "غاتويك" إلى إسطنبول ومن ثم إلى الرقة، عاصمة "داعش" الفعلية في سوريا. وفي ذلك الوقت، تصدّرت فظائع التنظيم نشرات الأخبار التلفزيونية والصفحات الأولى للصحف، على مدى ثمانية أشهر. لذلك لا بد أنها هي وصديقاتها كُنّ على علم بقتل واغتصاب واستعباد الإيزيديين والإيزيديات على يد "داعش". وربما سمعن حتى عن مذبحة معسكر "سبايكر" في العراق في يونيو السابق (حزيران 2014) حينما تقدّم التنظيم جنوباً بعد احتلال الموصل، وقتل ما لا يقل عن 1095 من طلاب القوات الجوية الشيعية غير المسلحين بعد أسرهم.
كنتُ في شمال العراق قبل ثلاثة أشهر من وصول بيغوم إلى الرقة، وأجريتُ مقابلة مع امرأة مسيحية تُدعى فداء بطرس ماتي التي أسَرَتها "داعش" وأخذتها إلى الموصل مع أطفالها الثلاثة كي تتحوّل قسراً إلى الإسلام. أخبرتني كيف جرى اصطحابهم إلى منزل في الموصل ووضعوا في غرفة ملاصقة لأخرى اغتصب فيها 30 فتاة إيزيدية تتراوح أعمارهن بين 10 و18 سنة، بشكل متكرر، من قبل حراسهن. ولقد أخبرتني السيدة ماتي أن "الفتيات الإيزيديات كن صغيرات السن لدرجة أنني كنت قلقة على نيفين (ابنتها) وأخبرت الحراس أنها تبلغ من العمر ثماني سنوات على الرغم من أنها في الحقيقة تبلغ العاشرة من العمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت هذه الوحشية معهودة في النظام الذي كانت تدعمه بيغوم، ولا يمكن لأي درجة من السذاجة أو الغباء أن تبرر ذلك.
واستطراداً، أورد محامو وزارة الداخلية أن بيغوم، البالغة من العمر الآن 21 سنة، قد تطرفت و "لم تعد لديها حساسية ضد العنف". في المقابل، أكد محاموها أنها لم يسبق أن قاتلت أو تدربت أو شاركت في أي نشاط إرهابي خلال سنواتها الأربع في ما سُميّ "دولة الخلافة". ومع ذلك، قررت المحكمة العليا أنها تمثل تهديداً أمنياً إلى حدّ أنه لا ينبغي السماح لها بالعودة إلى المملكة المتحدة كي تتابع استئنافها ضد فقدانها جنسيتها البريطانية.
في المقابل، يغفل هذا النهج النقطة السياسية الأكثر أهمية التي تتمثّل في أن الحكومة أوقعت نفسها في فخ إعطاء أنصار التطرف السنّي، الذين يفوقون عدداً بكثير متعصبي "داعش"، شهيداً يتعاطفون معه. وعلى نطاق ضيق، يكرّر نهج السلطات في قضية بيغوم الذي عزّزه قرار المحكمة العليا الأخطاء نفسها التي ارتكبتها الحكومات منذ 11 سبتمبر (أيلول)، بمعنى استخدام الإرهاب مرّة تلو الأخرى كذريعة لتوسيع سلطتها التعسفية، وكذلك تجاهل العدالة والإنصاف بدعوى الأمن العام.
وبفعلها [الحكومات] ذلك، بغض النظر عما تزعم أنها تفعله، حوّلت [الحكومات] نفسها بشكل واضح إلى أدوات تجنيد لمصلحة "القاعدة" التي لم يتمثّل نجاحها الأكبر في تدمير البرجين التوأمين في نيويورك، بل في استفزاز حكومة الولايات المتحدة ودفعها إلى إساءة استغلال الخطر الذي يهدد الأمن العام، عبر شرعنة التعذيب وسجن الأشخاص من دون محاكمة في "غوانتانامو"، وقبل كل شيء، بغزو العراق.
وبدلاً من تعزيز الأمن العام، وفق زعم الحكومات، فعلت الولايات المتحدة وحلفاؤها عكس ذلك تماماً. إذ سهّلت نمو "القاعدة" من منظمة تضم بضع مئات من الأتباع إلى حركة جماهيرية، ومكّنت "داعش" لاحقاً من إنشاء دولة خلافة بحجم بريطانيا العظمى.
ومع ذلك، فقد استخدمت المحكمة العليا في رفض استئناف بيغوم الحجج نفسها حول أولوية الأمن العام على جميع الاعتبارات الأخرى. ولقد اعترف رئيس المحكمة القاضي روبرت ريد بأن حرمان بيغوم من الجنسية البريطانية سيكون له تأثير عميق عليها، لأنها غير مرتبطة بشكل وثيق مع جنسيتها البديلة [البنغلاديشية]. وعلى الرغم من ذلك، أشار ريد إلى أن "الحق في محاكمة عادلة لا يعلو على جميع الاعتبارات الأخرى، كالسلامة العامة".
وعلى نحو حاسم، ذكر ريد أن تحديد من (وما الذي) يشكل بالفعل خطراً أمنياً، يشكل أمراً يعود شأنه إلى الحكومة وليس المحاكم. ومع أن هذا قد يبدو معقولاً، إلا أنه ينبغي أن يضع المرء في الاعتبار أن ذلك النوع من القرارات الحكومية التي تخدم مصالحها الذاتية وتؤدي إلى نتائج عكسية، هي التي خلقت الظروف المواتية في ظهور "داعش" ودولة الخلافة المزعومة التي هاجرت إليها بيغوم وصديقاتها في رحلة مميتة عام 2015.
© The Independent