Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرية الأوتار علميا وفلسفيا (الحلقة الثانية)

إن التسليم بوجود الله الخالق يُسهّل علينا عملية التفكير في فهم الوجود الطبيعي والكوني... فالنظام لا يأتي من لا نظام والحياة لا تأتي من ميت

عالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينغ (رويترز)
 

نظرة نقديَّة
إن نظرية الأوتار تنفي ما توصَّل إليه العلم بأن محتويات الكون عبارة عن جُسيمات أوليَّة داخل تراكيب الذرات، وتنصَّ على أن أوتاراً أو خيوطاً دقيقة تتحرك وفق ذبذبة مهتزة إلى الأمام وإلى الوراء، فالأوتار هي مقومات مجهريَّة فائقة الصغر، تتكون منها الجُسيمات الدقيقة، التي منها تنشأ الذرات في كل شيء موجود حياً أو جماداً.

بيد أن هذه الجواهر الوتريَّة أو النقط الصغيرة لا يمكن مشاهدتها قط. ويزعم أصحاب هذه النظرية أن أدوات القياس الحاليَّة لم تصل بعد في تقنياتها إلى المستوى الذي تستطيع فيه أن تتحسس تلك الجواهر الوترية، وهذا يعني علينا أن نسلّم بالطرح الرياضي بجعل طول الوتر المجهري أقل بمئة مليار مرة من نواة الذرة، لحين أن نطوّر تقنية القياس. وهذا الطرح يفرض نفسه على أُسس رياضية خيالية لا يمكن التسليم به، إذ إن الفرض العلمي من دون البرهنة والإثبات يبقى مجرد فرض نظري لا قيمة عملية له البتة.

أمَّا جعل الأوتار أن تكون مضمومة عنوة مع الكواركات، بغية أن تكون هي الوصف الوحيد للقوة التي تمسك بالكواركات معاً، فهذا تخريج نظري ضمن دائرة النظريَّة في مجال الكم، إذ تحتاج إلى إثبات وبرهنة عينية أو أثرية لهذا الالتصاق الجامع فيما بينهما. فالوتر، حسب مفهوم النظريَّة، هو الأصل في بنية الدقائق من عناصر إلكترونات وبروتونات ونيترونات وكواركات، وبهذا من المحتمل أن يكون عبارة عن خط دائري مغلق، أو يكون مفتوحاً بطرفين. القوى الثلاث: الكهرومغناطيسية والنووية الشديدة والنووية الضعيفة، يكون الوتر مفتوحاً في "طرفين ملتصقين" بغشاء الكون. أمَّا القوة الجاذبية فالوتر عبارة عن خيط دائري ليس له طرف ليرتبط بهذا الكون، إنما له الحرية بحركة الدخول والخروج من هذا الكون. كما في المغناطيس والمسمار مثالاً. ومع ذلك لم يستطع علماءُ هذه النظرية أن يقدّموا أي إثبات عملي على هذا التنظير الذهني، لأن الأوتار تبقى خارج نطاق المشاهدة.

إن نظرية الأوتار تدّعي أنها تقدم فهماً لجميع الأحداث، التي جرت عند نشوء الكون ووقوع "الانفجار العظيم"، إذ يعتقد الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ أن الحرارة الهائلة للانفجار العظيم تؤدي إلى انعدام الفوارق بين الزمن والفضاء، ويُصبح الزمن بُعداً فضائياً. بيد أن هوكينغ يعتمد في رؤيته الفيزيائية على الأعداد التخيلية في تطبيقه مفهوم الزمن "المتفضأ". إن الالتجاء إلى الأعداد التخيلية يسير ضمن السّمة العامة لنظرية الأوتار، التي تقوم على الفرض الرياضي والهندسة العلمية الخيالية؛ أي هي تنفع أفلام هوليوود في الخيال العلمي أكثر من الواقع الحقيقي. إذ إن الأعداد التخيلية لا تقود بالضرورة إلى اليقين العيني، بل تبقى ضرباً تصورياً من الخيال المحض.

أمَّا براين غرين (1963) فيذهب بخياله العلمي إلى أبعد من هوكينغ، إذ يشير إلى أن في ومضات زمنية قصيرة جداً، نحو واحد إلى عشرة ملايين الترليونات، الترليونات، الترليونات من الثانية؛ ومسافة قصيرة جداً، نحو واحد من مليار ترليون، ترليون من السنتميتر، تشوه اضطرابات آلية الكم والفضاء والزمن إلى حد أن المفهوم التقليدي للاتجاهات: اليمين واليسار، الأمام والوراء، الأعلى والأسفل، القبل والبعد، يصبح لا معنى له. والهدف الذي يبغيه غرين هو حصر صورة الخلق الذاتي للمادة في وهلتها الأولى، ولو بطريقة رياضية خيالية لا واقع حقيقي لها.

إن نظرية الأوتار عبر مراحل تطورها توزّعت في نظريات وترية عديدة، منها "البوزونية"، التي تحدد 26 بُعداً، وإن الوتر عبارة عن جُسيمات تنقل القوة فقط، سواء كان وتراً مفتوحاً أو مغلقاً. لكن المشكلة في هذه النظرية، أنها تعتبر الوتر عبارة عن جُسيم أطلقت عليه اسم "تاكيون" أي الجسيم التكويني، وهو ذو كتلة افتراضية تخيلية سرعته تفوق سرعة الضوء. وانتهت هذه النظرية إلى طريق مسدود بعد أن أدرك واضعوها أن مجالات الكتلة الافتراضية لا تنتج في الواقع جُسيمات أسرع من الضوء.

أمَّا بقية النظريات الوتريَّة فإنها تتفق على وجود 10 أبعاد، 4 تقليدية معروفة، و6 يفترض أن تكون خفيَّة غير منظورة؛ لكنها تتفاوت مع بعضها بعضا في وصف "التناظر الفائق" للوتر. لذلك يعترف جون شوارتز بوجود صعوبات جمّة تواجه تلك النظريات الوترية، نذكر منها ما يلي:

  1- افتراض جُسيم بلا كتلة بواسطة معادلات رياضية إلزامية، والمفروض أن تكون عبر مجموعة الجُسيمات الخاضعة للتجربة والمشاهدة في العمليات النووية المعتادة.

 2- إن الأبعاد الإضافية للنظرية فيها خطورة في مجال توصيف الجُسيمات النووية، إذ إن الوضع العلمي والعملي لا يحتمل مزيداً من الأبعاد.

 3- هناك مشكلة عويصة في محاولة فهم النظرية، إذ كل فريق يدّعي عنده الحل الأفضل، بينما لا يوجد معيار رياضي واحد لاختيار مَنْ عنده الحل الأفضل.

 4- لا يمكن إخضاع النظرية بصورة عملية في دائرة المختبر، بسبب الحيز المتناهي الصغر الذي تفرضه النظرية.

 5- من الصعوبة الارتكاز على فكرة أن العالم قائمٌ على مبادئ رياضية، ويمكن إيجاد تفسير منطقي لكل شيء، والرياضيات طريقة لوصف الأشياء بشكل منطقي.

نظرة عقليَّة
إن العلماء والمفكرين الماديين، الذين يؤمنون بوجود المادة من الأزل وإلى الأبد، ويطرحون تصوراتهم وأفكارهم وفق مراحلهم الزمنية ومُعطياتها؛ إلا أنهم وعبر التاريخ، لم يثبتوا قط بالمشاهدة والتجربة على أن المادة قائمة بذاتها، ومنها حدث الخلق والتطور. فكل ما يقدمه أولئك الماديون ليس أكثر من افتراضات نظرية تحتاج إلى البرهنة والإثبات، ويمضي الزمن وتبقى فرضياتهم حبيسة الأفكار الخيالية. وبما أن موضوعنا عن نظرية الأوتار الإلحادية، لذا نجد أن الوتريين من فينيزيانو إلى براين غرين يرومون إلى إثبات النظرية علمياً، لتكون حصناً لماديتهم، التي تنفي وجود خالق أول للمادة. علِماً أنه لا يوجد أي مانع علمي أو فكري أن نفترض وجود الله الخالق مثلما نفترض وجود المادة الخالقة.

نقول، إن وجود الخلق يوجب وجود الخالق القادر على خلق الوجود، وإن وجود الله والمادة يوجب وجود أحدهما بالأولوية، وإذا ثبت لأحدهما الأولوية، يجب أن يكون الآخر مخلوقاً له. ومن العقل والمنطق أن نسلّم بوجود كائن حي خالق، أفضل من التسليم بمادة ميتة خلقت الحياة والوعي والنظام الصارم في الطبيعة والكون. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الله هو الأول، وإن المادة والروح وكل شيء موجود مخلوقٌ له.

أمَّا السؤال: إن المادة مرئية ومحسوسة، بينما الله لا مرئي ولا محسوس. فإن الجواب يتعلق بالمادة نفسها، فكل ما يتم إثباته علمياً في دقائق الذرة من إلكترونات ونيترونات وبروتونات وكواركات لم نرَها بالعين المجردة، لكن نتائجها في المختبرات العملية تثبت وجودها، وبما أنها موجودة ولا مرئية، فهي إثبات وجود الله اللا مرئي.

إن هوكينغ وغيره من أقطاب نظرية الأوتار عندما يستندون في تصوراتهم إلى الجانب الخيالي فيزيائياً ورياضياً، فذلك ناتجٌ عن ضعفهم في مواجهة الدقة الشديدة في الأنظمة والقوانين السائدة في الوجود الطبيعي والكوني، مما يدل على وجود خالق عظيم القدرة وجليل الحكمة، وإن لهذا الخلق رعايةً وعنايةً إلهية. أمَّا مفاهيمهم العلمية عن "الوتر"، فيكفي تفاوتهم مع بعضهم بعضا في الفهم الأفضل للنظرية، وعدم إمكانية خضوعها إلى حقل التجربة والاختبار، كما أشار صاحبهم شوارتز، إلى أن نظريته بحاجة إلى كثير من الرياضيات، بغية تطويرها وفق صيغ جديدة تساعد أكثر في فهم مضامينها، علاوة على أفكارهم ومفاهيمهم الرياضيَّة والهندسيَّة تجعل النظرية أقرب إلى الفلسفة من العلم.

ومن الإثباتات على ما يؤكد ابتعاد النظرية عن الحقل العلمي الخالص نحو الحقل الفلسفي العقلي هو التعامل مع النظريتين الكمومية والجاذبية بطريقة الرياضيات المعقدة، التي فاقت فيها تعقيدات رياضيات النسبية من ناحية، وكذلك الغوص التصوري الكلامي تجاه تفاصيل الكمومية المعقدة من ناحية أخرى. وبذلك تخرج النظرية من حيز الواقع في التشخيص والتحليل إلى حيز الخيال في التفكير والتصوير.

عندما يعتقد براين غرين أن العالم مقبلٌ على ثورة كبرى، ستكشف النقاب عن الطبيعة الجوهرية للزمن والفضاء، وما سيترتب من صيغ جديدة لقانون طبيعي جديد، يدفع بالعلماء إلى التخلي عن المفاهيم التقليدية عن الفضاء - الزمن، نحو عالم مجرد من الفضاء والزمن. فهذا الموقف فيه مبالغة شديدة، ومكابرة لصالح النظريَّة، بل إقحام لا داعي له، لأنه فوق طاقة ما متاح تحقيقه. خصوصاً أن الأمر كله يتعلق بالاحتكام إلى الرياضيات، التي قد تؤدي إلى نتائج عكسيَّة ومن دون قصد، كما حدث لكثير من النظريات والفرضيات. علاوة على أن العلم الخالي من الإيمان، يدفع بصاحبه إلى مثل هذه المبالغة الطائشة، لأنه يتكلم عن مستقبل غيبي لا مستقبل زمني وفق أُسس علميَّة أو منطقيَّة. إذ إمّا أن نكون مؤمنين بالغيب من منطلق روحي إيماني، أو في حالة الإنكار، علينا الاعتماد على الزمن المستقبلي بما يتم طرحه ضمن الواقع المادي لا التصوري، أعني الجانب العلمي الخاضع للتجربة والمشاهدة؛ وإلا سيكون كلامنا العلمي فيه غيبية مرفوضة مادياً ومقبولة إيمانياً.

هذا إن لم نُدخل في حساباتنا أن المادة المظلمة التي يستدل عليها من آثار الجاذبية، التي تمارسها على المادة المرئية والإشعاع والبنية الفسيحة للكون، وكذلك الطاقة السوداء التي هي من الأشكال الافتراضية، التي تملأ الفضاء، وتملك ضغطاً سالباً، وبما أن العلماء ما زالوا يدرسونها ويرصدونها، فإن أي اكتشاف مستقبلاً في هذا الصدد، فإنه سيغير من مفاهيمنا العلمية الحالية، وهذه طبيعة التطور العلمي. لذلك ما يذهب إليه الماديون الوتريون في نشوتهم الإلحادية، فإنهم ليسوا على أساس يقيني مستقر، بل عرضة للتراجع والانزواء إن لم يرفدوا نظريتهم بتجربة عينية واقعية خالية من الخيالات العلمية والرؤى الغيبية.

إن نظرية الأوتار، التي استطاعت أن تكون حلقة الوصل بين النظريتين النسبية والكمومية، لكن استطاعتها هذه، قائمة على الافتراضات الوهمية الهادفة إلى الإقرار بالبناء الذاتي للمادة. ومن هنا، تأتي النواقص والاحتياجات التي تعانيها النظرية، فهي تفرض الأوتار الفائقة الصغر، وتزعم أن تقنية أجهزة القياس الحالية بالية لا يمكنها رصد الأوتار. وهذا هروب من التسليم بأن ما يفرضونه خيالي لا واقع له. وإذا كانت المراهنة على المستقبل في تقنية متطورة ترصد الأوتار وآثارها في قاعات المختبرات، فهذا أيضاً هروبٌ عن مواجهة الحقيقة، لأن الفرض الوهمي، الذي يعتمد على الزمن المستقبلي في إثباته، يعني أن فيه خللاً؛ وبدلاً من المناورة في الكلام، علينا أن نسلّم بأن المادة لا يمكن أن تكون قائمة بذاتها، وإلا ما كان هناك كمٌ هائلٌ من الافتراضات المادية، التي عفَّى عليها الزمن، ولم تحقق شيئاً يذكر.

وإذا كان بالأمس القريب، الحديث عن احتفاظ المادة بطاقتها الذاتيَّة، فإن نظرية "الصفر المطلق" أثبتت فشل هذا الادعاء. وإن نظرية الصدفة والاحتمال في الخلق المادي أصبحت من الماضي، بعد أن أثبت علماء الرياضيات استحالة هذا الفرض. واليوم تأتينا نظرية الأوتار لتثبت بطريقة خيالية أن المادة ذات بناء ذاتي موسيقي.

وبذلك فإن التسليم بوجود الله الخالق يُسهّل علينا عملية التفكير في فهم الوجود الطبيعي والكوني، فالنظام لا يأتي من لا نظام، والحياة لا تأتي من ميت، وإن فكرة الإيمان بالعلم والوقوف عند حدوده الماديَّة فقط، لا لشيء إلا لنفي فكرة وجود الله الخالق، فإن فكرة الإيمان بالله ورؤية قدرته بالخلق المنتظم من الذرة إلى المجرة، أصوب وأدق عقلاً ومنطقاً. وعليه فإن أي افتراض في فهم أي عملية ماديَّة في نظرية الأوتار أو غيرها من النظريات الإلحادية، يجب أن لا تنحصر في حدود المادة نفسها فحسب، إنما بالتسليم أولاً بوجود الله الخالق المادة والحياة والروح.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء