Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إبراهيم فرغلي يواصل سرد متاهات الذاكرة

"قارئة القطار" رواية الهوية المفقودة في عالم الحقائق والأوهام

لوحة للرسام الأميركي الراحل إدوارد هوبر عنوانها "القارئة في القطار" (صفحة الرسام على فيسبوك)

في روايته "قارئة القطار" (الدار المصرية اللبنانية)، يصنع المصري إبراهيم فرغلي متاهة جديدة مؤكداً ولعه بالمتاهات التي لطالما احتوتها رواياته، وفي قلبها سؤال الذاكرة وعلاقتها بالهوية والتاريخ الشخصي والوجود والعدم والأحلام والأوهام، والقراءة والتدوين، والوعي واللاوعي.

يستهل صاحب "أبناء الجبلاوي: سيرة رواية"، عمله الروائي الأحدث والذي يتألف من 255 صفحة، باقتباس من أمل دنقل "مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة، والسفر الطويل، يبدأ دون قاطرة"، قبل أن يضعنا بين عالمين يبدوان متباعدين تمام التباعد، من خلال الراوي الذي يركض ليلحق بقطار مجهول الوجهة، أبرز ركابه امرأة عمياء وكسيحة ترقد عارية و"تقرأ" معظم الوقت، إذا جاز التعبير، فذلك القطار الذي يبدو أنه يجسد عالماً موازياً للواقع ومفارقاً له في الآن نفسه، لا يعرف أهله معنى للوقت.

الراوي الذي سيتبين أنه فاقد للذاكرة لدرجة أنه لا يعلم لنفسه اسماً، سيطلق على تلك القارئة اسم "زرقاء القطار"، مستدعياً أسطورة "زرقاء اليمامة" العربية، وستخبره تلك المرأة بأنها تقرأ لكيلا يتوقف القطار، كما ستخبره بتفاصيل حياة عاشها عشية وقوع مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، وتحديداً في ذروة الثورة العرابية، التي عاصرها صبياً، ثم ما تلاها وصولاً إلى عودته من القاهرة شيخاً إلى القرية التي ولد فيها ليموت بين أهلها الذين يصنعون له ضريحاً يتبرك به الناس باعتباره الوحيد بين أهله الذي نجا في طفولته من وباء الطاعون. لكنها لا تخبره بشيء عن حياة ثانية سبقت صعوده القطار بملابس وأفكار تشي بأنه من أهل حقبة زمنية تلت ذلك التاريخ بما لا يقل عن مئة سنة.

"زرقاء القطار" إذن تبصر الماضي، بعكس "زرقاء اليمامة" التي توقعت ما سيحل بقومها، لكنهما تشتركان في التمتع بقوة البصيرة، لا البصر. ولأمل دنقل نفسه قصيدة شهيرة عنوانها "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وفيها يستدعي تلك الأسطورة العربية، ليؤكد أنه - وغيره من المثقفين -  قد استبصر الهزيمة التي ترتب عليها احتلال سيناء وقتل وأسر عدد كبير من الجنود المصريين في صيف عام 1967. وهنا يضيف فرغلي اقتباساً من تلك القصيدة قبل أن تشرع الرواية أبوابها على عالم يكتسيه الغموض، لكنه مع ذلك ثري في دلالاته ورمزيته "ماذا تفيد الكلمات البائسة؟ قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغُبار، فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوَار".

تغريبة من الماضي

في أجواء يسودها الغموض، يسعى الراوي لاستكشاف عالم القطار هذا، وفي ذروة يأسه من فك طلاسمه، تسرد له القارئة ما تقول إنها سيرته، فيجد نفسه شاهداً على تغريبة من الجنوب إلى الشمال بطلها فتى خرج من مقبرة حياً، بعد ما أودعته جدته فيها لينجو من الطاعون، ليبدأ رحلة هربه من مكان في أقصى الصعيد تسوده عادة القتل للثأر وتفتك بأهله الأوبئة في الوقت ذاته، إلى عالم "المحروسة" وهو الاسم المتداول للقاهرة في ذلك الحين، حيث يعيش الناس من مِلل وأعراق مختلفة في "بحبوحة" نسبية.

القسم الأول من الرواية يبدأ على النحو التالي "استيقظتُ على صوت نداء قادم من عالم بعيد، سرعان ما تبينتُ أنه النداء الأخير للقطار. نهضتُ مخطوفاً بالذعر. تلفتُ حولي أتأمل وجوه الجالسين في المقهى. لم أجد وجهاً مما ألفتُ قبل أن أغفو في مكاني. كيف تحوّلت الغفوة التي غافلتني إلى نوم غادرٍ عميق؟". من تلك اللحظة سيدخل الراوي في ما يشبه حلماً طويلاً ملغزاً، يغلفه واقع سحري، مع أنه كان مستيقظاً وليس نائماً، كما يؤكد. 

ومع بداية القسم الثاني، سنكتشف أن في القطار سلطة تتصدى عملياً لكل من يحاول إيقافه... "أمسكوني، وانتهى الأمر بي مقيداً ومساقاً بأيدي من لا أعرفهم، من دون قدرة على المقاومة".

ويلي هذان القسمان، الذي بدأ أولهما بنداء للحاق بالقطار، فصل بعنوان "نداء"، لا يزيد على ثماني صفحات، يبدأ هكذا "لا أدري كم مرَّ عليَّ من الزمن في مقصورتي في هذا القطار. لم أعد أهتم، لكني لم أعد أشعر بالخوف، ولا بالحيرة. في النهاية أصبح لي تاريخ دوَّنته بنفسي، وأعتز بكل ما فيه".

في البداية يلاحظ الراوي أن كل ما يتذكره هو أن فوات القطار؛ "يعني فقدان وظيفتي الجديدة، التي من المتوقع أن أتسلمها بعد تواصلهم معي وتأكيد قبولهم لي في العمل كمندوب للتسويق في شركة أدوية". هو متحمس لشغل تلك الوظيفة من أجل فتاة تدعى "دلال"، ولرغبته في الفكاك من أسر أمه وأبيه اللذين بدآ في تلك اللحظة ينسى ملامح وجهيهما، وكأن قدره دائماً أن يعيش حيوات يرغب في الفرار منها، فعلاً أو مجازاً.

كتاب الأحلام

ثم سيتضح أن الراوي ما إن صعد إلى ذلك القطار، بات لا يتذكر حتى اسمه، لكنه يرجح أنه ربما كان ذات يوم كاتباً وربما يكون هو "حنا هارون" مؤلف "كتاب الأحلام" الذي وجد "زرقاء" تقرأ فيه. ثم لاحقاً يظهر كتاب آخر عنوانه "كتاب الأوهام"، تبدو صلته غامضة بعمل يحمل العنوان نفسه للكاتب الأميركي بول أوستر، وإن كانت رواية فرغلي تتقاطع مع رواية أوستر في الاتكاء على المتاهة بغية الوصول إلى كشف غموض ما.     

يروي "كتاب الأوهام"، الذي اعتبره كثير من النقاد أفضل ما كتب أوستر، قصة "ديفيد زيمر"؛ الأستاذ في جامعة فرمونت، الذي يفقد زوجته وولديه الصغيرين في حادث تحطم طائرة، ويقضي أيامه يتخبط في حياة من الحزن ومعاقرة الخمر ورثاء الذات، إلى أن حدث انقلاب في حياته عندما كان يُشاهد التلفزيون في أحد الأيام، إذ يصادف مقطعاً من فيلم مفقود نفذه الفنان الكوميدي من زمن السينما الصامتة "هكتور مان". يتحرك فضول "زيمر"، وسرعان ما يجد نفسه منطلقاً في رحلة حول العالم بحثاً عن كتاب صاحب تلك الشخصية الغامضة الذي اختفى عن الأنظار عام 1929، وافتُرض على مدى 60 سنة أنه مات. وبعد مرور عام على نشر الكتاب، تصل إلى "زيمر" رسالة من بلدة صغيرة في نيو مكسيكو، تتضمن دعوة للقاء "هكتور"، ويتردد في الذهاب بين الشك والتصديق، إلى أن تظهر ذات ليلة امرأة غريبة أمام منزله، وتأخذ القرار بالنيابة عنه، وتغير حياته إلى الأبد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في "قارئة القطار"، تظهر شقيقة لـ"زرقاء"، سماها الراوي "ذكرى"، تسأله "هل يمكنك تخيل عدد الذين يتمنون أن تُمسح ذاكرتُهم تماماً لينسوا ما ارتكبوه من حماقات أو ما مورس ضدهم من دناءات البشر وخستهم؟" صـ 58. أما "زرقاء" فتؤكد له أن القراءة لم تعد تمثل لها الحياة فحسب، بل أيضاً هي أنقذتها من الجنون، لنعرف أنه في حياة أخرى كان لديها طفل يدعى "أنس"؛ مات مصاباً بالسرطان وهو في الخامسة من عمره.

تقع مقصورة "زرقاء" في العربة السابعة، وفي العربة التي تليها مكتبة، ما يجعل الراوي يردد "الحياة مستودع كبير للدراما"، خصوصاً بعد ما يجد في العربة العاشرة مسافرين بينهم فتاة تقرأ في "كتاب الأوهام"، ثم يصادف فتاة أخرى تقرأ في "كتاب الأحلام" وتدعى "إلهام"، تخبره بأن هناك ذكريات تربطهما خارج القطار، قبل أن تختفي، شأنها في ذلك شأن كثير من الشخصيات العجيبة التي يقابلها في هذه العربة أو تلك.

وفي الأخير يقول "تمنيتُ أن يكون كل ما أراه مجرد حلم طويل مشوش" صـ 90، ثم يقرر في النهاية أن يبقى في القطار الذي بات ينظر إليه وكأنه سفينة نوح، حتى بعد أن فقد بصره، ليتحول إلى قارئ بالبصيرة مثل "زرقاء" التي عرفناها تعيش لتقرأ، أو تقرأ لتعيش، ثم يلتقط "كتاب الأحلام" ليقرأ منه حتى لا يتوقف القطار... "في الحلم يعيش الوهم حراً، يتشبه بالحقائق. أما الحلم نفسه فيمضي في مسارات خفية في مدينة العقل الشاسعة، يتلمس دروبَه بين آلاتها، ثم يندثر في قاع الذاكرة، فإن أحيت الذاكرة الحلم عاش للأبد، وإن ألقته في أوديته السرية اندثر في هاوية النسيان".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة