Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفرنسي جاك تاتي رصد العصر بعيني فيلسوف ماكر

رؤيته السينمائية تسبق المفكرين في "بلايتايم" و"ترافيك"

مشهد من فيلم "بلاي تايم" (غيتي)

حسبنا، إن لم تتوفر لنا الإمكانات العملية للحصول على نسخ من أفلام المخرج والممثل السينمائي جاك تاتي، ولا سيما منها "ترافيك" و"عمي" و"إجازة مسيو هولو" وبخاصة "بلايتايم"، أن نأتي بكتاب مصور عن هذا السينمائي وأفلامه ونتأمل الصور المرفقة بأية نصوص منشورة عن تلك الأفلام وغيرها. فمن المدهش أن الصور في حد ذاتها، وإن كانت لا تغني بالطبع عن مشاهدة الأفلام، كفيلة بأن تخبرنا أشياء كثيرة عن سينما هذا الفنان الذي تبدو أفلامه أشبه بتلك الدمى الروسية ذات الطبقات والتي كلما رفعنا منها طبقة واجهتنا حكاية جديدة. والحقيقة في إمكاننا القول إن الطبقة العليا الأولى كفيلة في نهاية الأمر بإمتاعنا لمقدار ما توفره من تسلية وقدرة على الإضحاك حتى ولو لم يبذل تاتي أي جهد لإضحاكنا. ومن هنا طبعاً تتخذ مشروعيتها تلك الفكرة التي بدأنا بها حديثنا من أن كلّ صورة من أي فيلم له تفي بالغرض حتى ولو لم تتحرك.

استباق للزمن

فكيف لو تحركت؟ لو كشفت عما تحمله الطبقات الأخرى؟ عندها لن نجد أمامنا ممثلاً يؤدي دوراً فحسب، بل سينمائياً يستبق زمنه في التعبير عما سيحمله العصر من قضايا وما سيواجه الإنسان فيه على ضوء حداثة زاحفة نعرف أن سبر أغوارها والتحسب لمخاطرها قد يكونان من مهمة الفنانين، لكن الوصول إلى الترياق سيكون بالتأكيد من مهمة الفلاسفة. صحيح أن تاتي لم يزعم يوماً أنه فيلسوف ولا عدّ نفسه حتى بين "كبار السينمائيين المفكرين" غير أن لا شيء يمنعنا حين نشاهد أفلامه ونسبر غور طبقاتها من التساؤل: إذاً من أين جاء بتلك الأفكار المغلفة بالفكر والرصد وحتى بالاحتجاج الذي ينطلق من رصده لليومي، ليطرح هموماً حضارية كونية؟

ولنتذكر هنا مثلاً، نظرته الساخرة إلى سلوك الطبقات البورجوازية الصغيرة في أفلام اجتماعية مثل "عمي" و"إجازة مسيو هولو" ولنتجاوز فكرة أن غايته كانت الضحك على تصرفات طبقة وتبيان سخافتها الاجتماعية، ولسوف نجدنا مباشرة أمام فكر لا يكتفي بالرصد أو الإدانة بل يتجاوز ذلك للتعمق في جذور الظروف التي جعلت شريحة واسعة من الناس تتصرف على تلك الشاكلة، ولكن من دون أن يتحول ذلك إلى مجرد دروس في الأخلاق.

 

الفرد يواجه العصر

غير أن الأكثر أهمية هنا، والذي لا بد من التوقف عنده في هذا السياق، هو النظرة الثاقبة التي ألقاها جاك تاتي في فيلمين له على الأقل، على موقع الإنسان المعاصر من "الحداثة". فهو، في "ترافيك" و"بلايتايم"، مثلاً، وضع شخصيته السينمائية الرئيسية في مواجهة سمتين أساسيتين من سمات العصر الراهن: من ناحية ازدحام المدينة واستحالة التحرك فيها حتى وإن كان السبب تلك الاختراعات التي من شأنها أن تسهل على المواطن عيشه، ومن ناحية ثانية السمات البيرقراطية التي تعشّش في المؤسسات وتراصّ المكاتب وتحوّل الموظفين إلى ما يشبه الروبوتات بحيث يفقد الفرد شخصيته ضمن إطار مؤسسات تبتلعه وتجعله رقماً صامتاً يقوم غالباً بأعمال لا يدرك عنها شيئاً، على غرار العمال كما يصورهم لنا تشارلي شابلن في "الأزمنة الحديثة" حيث تطحنهم الآلة بالمعنى الحرفي للكلمة.

تكامل مع الفلاسفة
طبعاً قد لا يكون جاك تاتي، أول سينمائي أو مبدع بشكل عام، تحدث عن انسحاق شخصية الإنسان أمام الآلة والعصور الحديثة التي، بحسب تعبير شهير لكارل ماركس "شيّأَّت" كل شيء وسلّعت البقية، وما عاد في إمكان الفرد إلا أن يلهث وراء الآلة والبضائع الاستهلاكية، غير أن تاتي كان الأبرع في تعبيره هذا، والأكثر تبكيراً. فهو قبل هربرت ماركوزه بزمن طويل، تحدث عن "الإنسان ذي البعد الواحد"، وقبل غي ديبور بسنوات تحدث عن "مجتمع الاستعراض"، ولكن الفارق الأساسي يكمن في أن الفيلسوفين هذين وغيرهما، تحدثوا عن هذه الأمور محللين انطلاقاً من عقلانية تحليلية واعية، فيما انطلق تاتي دائماً من مجرد حدس وشعور فنان يرى الإنسان أمامه ينزلق إلى الهاوية من دون أن يدري لذلك تحليلاً وفلسفة عميقة.
من هنا يظل بُعد الإدانة لدى جاك تاتي، بصرياً رؤيوياً، ربما تعبر عنه أفضل تلك اللقطة "الكافكاوية" المستقاة من فيلمه "بلايتايم" (زمن اللعب)، حيث نراه بثيابه وشكله اللذين اشتهر بهما: القبعة، المعطف الواقي من المطر، والغليون، والمظلة، يطل من منصة عالية على مجموعة كبيرة من موظفين يبدون كالألعاب أو كالأسماك داخل الأكواريوم، وراء مكاتبهم يعملون كالآلات في زمن الكمّ والتشابه والامتزاج بين الآلة والمشتغل عليها.
يقيناً إن هذه الصورة تجد جذورها في مشهد شهير لشارلي شابلن في فيلم "الأزمنة الحديثة"، لكن تاتي لم ينكر أبداً تأثره به وبأزمنته الحديثة هذه، بل إن كثيرين كانوا ينظرون إلى الهزلي الفرنسي بوصفه نسخة فرنسية عن شابلن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

روسي الأصل

جاك تاتي الذي رحل عن عالمنا عام 1982، حيث طوى مظلته الخالدة و"ولى الأدبار" إلى الأبد، كان ولد في العام 1908 تحت اسم جاك تاتيشيف، فرنسي من أصل روسي كان يفخر أن جده كان سفيراً للقيصر في فرنسا، وفضل الاستقرار فيها على العودة إلى بلده حين انتهت مهماته. وهو كان في العشرين من عمره حين انخرط في فن الكاباريه، ممثلاً إيمائياً، يلجأ إلى التعبير بالحركة لا بالكلام وسيظل على الدوام إيمائياً، حتى في أفلامه التي صنعت أيام السينما الناطقة. وخلال المرحلة بين 1931 و1945، أي مرحلة عمله في الكاباريه، شارك في التمثيل في أفلام قصيرة كتب لها السيناريو والحوار بنفسه، وفيها بدأت ترتسم ملامح الشخصية التي سيتخذها سمة له لاحقاً "السيد هولو" على وزن شارلو - شارلي شابلن. وخلال الفترة بين 1945 و1947 أتيح له الظهور في أدوار لا بأس بها في أفلام عدة منها فيلم "الشيطان في الجسد" لكلود أوتان - لارا.

هكذا تكلمت كوليت

في العالم 1947 قرّر أخيراً الخوض في الإخراج، فحقق فيلماً قصيراً هو "مدرسة سعاة البريد" أتبعه في العام التالي بفيلم "يوم العيد" الذي من خلاله تعرّف إليه الجمهور العريض، وأحسّ الفرنسيون أنهم للمرة الأولى، منذ انتحار هزليّهم الكبير ماكس ليندر، صار لديهم كوميدي من وزن عالمي. أما شخصية "مسيو هولو" المكتملة فلن تظهر إلا في العام 1953 حين حقّق "عطلة مسيو هولو" الذي عاد وحقّقه من جديد في العام 1966. ومنذ تلك اللحظة صار المسيو هولو شخصية أساسية في الحياة السينمائية الفرنسية، عبر أفلام تتالت مثل "عمي" 1958 و"بلاي تايم" 1971، و"سيرك تاتي" 1974، هذا الفيلم الغريب والحنون، وشبه المجهول الآن، الذي كان أشبه بتكريم من تاتي لعالم السيرك.

في هذه الأفلام كلها، أبدى جاك تاتي، الصامت المبتسم بملعنة دائماً، والمفكر بعمق في شؤون الحياة والعصر، حسَّ ملاحظة نادراً وتفهماً دقيقاً لما يعتمل في أذهان الناس. هو الذي، عبر حسّه الساخر، كان من أهم الراصدين لتطور الذهنيات الاجتماعية في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن هنا كانت قدرته الهائلة على رسم مناخات ندر وجود مثيل لها في السينما الفرنسية. وهذا كله جعل الكاتبة الفرنسية كوليت تقول عن تاتي يوماً: "أعتقد أن ليس ثمة عيد، أو استعراض فني، أو أي نوع من أنواع البهلوانية، يمكنه أن يستغني عن هذا الفنان الذي عرف كيف يخترع شيئاً ما. إن ما اخترعه ينتمي في الوقت عينه إلى الرياضة والرقص والهزل واللوحة الحيّة. اخترع لقاء امتزاجياً بين اللاعب والطابة وحارس المرمى، والملاكم وخصمه، والدراجة وراكب الدراجة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة