Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية مجهولة من الزمن الإليزابيثي تخاطب العصر

فولك غريفل عضو مجلس العموم البريطاني يمسرح في "مصطفى والسلطان" الحكم المتسلط وسطوة زوجة الأب

مشهد من العصر الإليزايثي في بريطانيا (غيتي)

تكاد تكون نادرة، بل نادرة جداً، الأعمال المعروفة بـ"المسرح الذهني"، وهو المسرح المخصص للقراءة أكثر مما هو للعرض والمشاهدة على الخشبة. ومن بين هذا النادر يأتينا النص المسرحي "مصطفى والسلطان" لكاتب وشاعر إنجليزي شبه مجهول تقريباً في ثقافتنا العربية، كاتب من العصر الإليزابيثي الشكسبيري هو فولك غريفل  fulke greville(1554–1628)، فهو شاعر وفيلسوف وسياسي من ذلك العصر، كما أنه احتل موقع عضو في مجلس العموم البريطاني، وينتمي إلى طبقة النبلاء، فقد شغل مناصب عدة في الدولة، إذ بالإضافة إلى أنه كان من أهم رجال الحاشية الملكية المقربين من الملكة إيليزابيث الأولى، فقد شغل منصب أمين خزانة القوات البحرية.

النص الذي قامت بترجمته عن الإنجليزية المترجمة السورية ندى محمد (دار العائدون للنشر والتوزيع- عمان، يناير 2021)، قليلاً ما نعثر في المشهد المسرحي العربي والعالمي على مثيل له، فهذا اللون من الكتابة المسرحية بأبعاده الفكرية والفلسفية، فضلاً عن الدرامي التراجيدي، هو نص مسرحي يعالج فلسفة الحكم المتسلط، ومخاوف السلطان من المتربصين بالحكم، خصوصاً تجاه الابن الشريك والمحبوب لدى الشعب، الأمر الذي يجعل من هذا الحب سبباً لحَبك مؤامرة قتله، مؤامرة تحيكها زوجة أبيه الحاكم، وتزرع في رأس (الإمبراطور الوالد) فكرة تآمر ابنه (مصطفى) للاستيلاء على الحكم، فيقرر قتل ابنه (الخائن بحسب اتهامات باطلة)، وبلا أي دليل.  

تهمة التأييد الشعبي

تتداخل أصوات الحوارات بين السلطان ومن حوله، مثلما تتعالق المونولوغات العامرة بالتأملات والتفكير والمراجعات، فنستمع إلى القيادات ورجالات الدولة، وإلى أخت مصطفى وأخيه غير الشقيقين. ما بين من يدافع عنه، ومن يعزز مسألة إدانته، ويكون التفاف الشعب حوله أحد أسباب إدانته. وتتصعد التراجيديا حين يقرر الابن مصطفى الانصياع لرغبة والده في قتله، فيأتي طائعاً، بل يأمر الخصيان العبيد بالإسراع في تنفيذ الأمر السلطاني حين يترددون، ليثبت صدقيته لدى والده، تاركاً خلفه التحركات الشعبية وحتى الرسمية، ونرى السلطان وزوجته هائمين يتساءلان عما فعلا.

النص الذي يتوزع على فصول ومشاهد، يبدأ بحوار بين السلطان وزوجته روسا، حيث يخاطبها فيه قائلاً، أتعلمين يا روسا؟ لا تطلب الحكمة الأبدية إلينا أن نتمتع بعقل راجح، أو قوة استثنائية، بقدر ما تحثنا على التحكم بعواطفنا. وهذا ليس عبثاً، إذ إن عاطفتنا هي التي توجه أفكارنا وتتحكم بكل منها. إني حائر بشأن ولدي مصطفى. كيف لي أن أتيقن من ولائه (لي) وأنا أرى الجموع الغفيرة تتراكض نحوي للتعبير عن حب لا يتعدى أن يكون في حقيقته مجرد محاباة ومجاملة؟ بئس الحكم الذي يطلقه المرء على من يحب! ولكن هل يمكن لعاطفتي تجاه ولدي أن تضعف يوماً سطوتي على دولتي؟

وترد روسا بقدر كبير من تحريض السلطان على ابنه، "سيدي سليمان، أنت ملك هذه البلاد ومصطفى هو ابنك البكر، لذلك لقد فكرت للحظة كأي امرأة ساذجة أنه من البديهي أن يرثك من يجري دمك في عروقه، ولكن الآن لم تعد تخفى علي مطامعه في عرشك وأنت لا تزال حياً تُرزق، فها هو يتمتع مبكراً بسمعة طيبة وواسعة، وبات يحوز ولاءات كثير من رجالات البلاط، يمنحهم شرف مرافقته فيمنحونه الولاء والقوة، وكلما عاملهم بتواضع أكبر، ازداد عظمة في عيونهم".

من هنا تبدأ خيوط مؤامرة روسا "زوجة الأب" التي تريد لابنها وراثة الحكم. هذا أحد أسباب المكيدة التي تحيكها الملكة، فتستحضر علاقة مصطفى مع الفُرس الذين كانوا حتى وقت قريب أعداء للإمبراطورية، واستطاع مصطفى مصالحتهم. وبدلاً من مقولة "العدل أساس المُلك"، تبتكر روسا شبكة مقولات مثل "يجب على الملك أن يكون الحاكم المطلق، فبالقوة وحدها تصبح المملكة كلها في قبضته، ومهما كانت قبضته شديدة لا ضير، فالقوة أساس الملك". هكذا يجمع المؤلف خطوط لعبة تراجيدية بامتياز، فهو يكتب قريباً من الفكر والفلسفة، وتحديداً قريباً من الرواقية ومبادئها التي تعتمد العقلانية وتنبذ العاطفة.

تقول المترجمة عنه إنه "لطالما حافظ على مسافة متساوية من جميع أطراف النزاعات الناشبة في إنجلترا في ذلك الوقت، وعلى الرغم من انتقاده للنظام الملكي، فقد بقي هذا النظام في نظره أفضل أنظمة الحكم، وهذا ما نلمسه في مقالته الطويلة عن الملكية. وإن لم يكف عن انتقاد الجانب المستبد من السلطة السياسية، لكنه في الوقت ذاته لم يشجع قيام أي ثورات شعبية من شأنها أن تنشر الفوضى والدمار. فسلطة الصولجان تبقى بالنسبة إليه صمام الأمان، وهو ما عبر عنه في مسرحيته مصطفى".

كالفن وسينيكا

وتتوقف المترجمة عند تأثر غريفل بعدد من الكتاب قبله مثل سينيكا، وتأثره بالكالفينية والفلسفة الرواقية، وهي تلاحظ في أغلب أعمال غريفيل، سواء النثرية منها أو الشعرية، ميله الواضح إلى الفلسفة الرواقية. فقد تطورت كتاباته ابتداءً من قصائد عاطفية، حتى كتابه "رسالة إلى سيدة عفيفة". ففي هذا الكتاب "يطلب غريفيل إلى سيدة تعامَل بقسوة من زوجها أن تكبح مشاعر الانتقام لديها، وأن تتخذ الفضيلة ولغة العقل والصبر والإيمان أسلوب حياة، حتى تصل إلى الحكمة التي بدورها سوف توصلها إلى بر السعادة والأمان".

وهي ترى أن تفضيل غريفل الفلسفة الرواقية عن غيرها "ينبع من تأثره بالفيلسوف والكاتب المسرحي الروماني الكبير سينيكا، الذي كان له التأثير الأعمق والأكبر على كُتاب عصر النهضة عامةً، والعهد الإيليزابيثي بخاصة. فأفكار سينيكا عن عظمة الفضيلة وتحكم المرء في رغباته وأحاسيسه الجسدية لاقت انتشاراً واسعاً في ظل جو متشائم يسيطر عليه التوتر والقلق في فترة تاريخية تنتقل فيها أوروبا من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، عصر الاكتشافات والتغييرات الجذرية، ومناقشة جل الأفكار والمواضيع التي كانت تُعد إلى عهد قريب محرمةً. بالإضافة إلى أن عدم وجود وريث شرعي للملكة إيليزابيث، كان يشكل هماً عاماً لدى الإيليزابيثيين، وخوفًا من اندلاع أعمال عنف ونزاعات للاستيلاء على العرش. فتعاليم الفلسفة الرواقية توفر ملجأً من القلق وشيئاً من التسليم بالقدر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما اختيار المترجمة ندى محمد، لهذا الكاتب وكتاباته الأدبية والمسرحية، فقد جاء في سياق رسالتها لشهادة الماجستير، وهي اختارت مسرحيته الأولى اللحام في السنة الأولى، لتناقش من خلالها موضوع الاستبداد، ثم تخصصت في دراسته في السنة الثانية مكتفيةً بتحليل مسرحيتَيه "اللحام" و"مصطفى"، بنوع من التحدي لأستاذتها التي حذرتها من صعوبة هذا الكاتب، ثم اختارت البدء بهذا النص لترجمته، ومن يقرأ هذه الترجمة يشعر أن ندى نجحت في الاختبار والتحدي، إذ قدمت ترجمة للنص بديعة على الأصعدة كافة، من إمساك بأفكار الكاتب المدهشة، واللغة التي نُقلت إليها المسرحية، حيث لغة المترجمة على قدر كبير من الصحة والدقة في صياغاتها وتصويرها.  

إنها الترجمة العربية الأولى لنص من نصوص غريفيل، الإنجليزي من العصر الإليزابيثي، نص جدير بالتقدير، ربما يحتاج إلى من يجيد إعداده لخشبة المسرح، لنقف على عمل مسرحي فذ، عمل يجعلنا نرتجف رعباً مما وصلت إليه العلاقات البشرية من انحطاط، وما تنطوي عليه روح الإنسان من شر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة