Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ربيع جابر ينقل أبطاله من جحيم بيروت إلى نعيم الكتب

ثلاث أخوات يتنافسن على اجتذاب سمعان في "تقرير ميليس"

نشاط فني لتجسيد السلام الأهلي في بيروت (غيتي)

"مات سمعان يارد مساء الخميس 20 تشرين الأول (اكتوبر) 2005. كان عائداً من فندق فينيسيا بعد سباحة دامت ساعتين. لم يبلغ بيته في شارع غندور السعد. عابراً أمام مطعم "بالتوس" أحسّ – من دون إنذار – بألم فظيع في صدره. تعثّر وسقط على وجهه". هذه الفقرة تشغل رأس الصفحة 290 من رواية الكاتب اللبناني ربيع جابر "تقرير ميليس". لكنها كان يمكن أن ترد في أية صفحة أخرى من الرواية. ذلك أن هذا الموت المباغت، العادي والمؤلم، كان معلَناً وبإصرار منذ أول الرواية. كل ما في الأمر أن "تقرير ميليس" (الرواية والتقرير في آن معاً)، قادنا إليه ببطء، بإصرار وبالتدريج. وكانت رنات محمول سمعان يارد، أيضاً قد قادته إليه.

رجل بلا سمات

سمعان يارد في رواية ربيع جابر لم يمت انتحاراً ولا بتفجير سيارة. لم يكن قبل ذلك مريضاً. اللهم إلا إذا حقّ لنا أن نعتبر مجرد وجود امرئ في بيروت داء عضالاً لا سيما خلال تلك الفترة الفاصلة بين اغتيال رفيق الحريري وصدور التقرير الأول للمحقق ميليس حول ذلك الاغتيال. ومع هذه تدل كل المؤشرات على أن لا علاقة لسمعان يارد بما جرى ويجري. فهو إنسان هادئ مسالم محايد. بل يكاد يكون رجلاً من دون سمات. سمعان يارد رجل عادي جداً. ثم إن موته شاباً موت عادي جداً أيضاً. والأغرب من هذا أن سمعان الذي بالكاد يقدمه لنا الكاتب مثقفاً أو محباً للقراءة، يصل إلى موته إثر وعد من أخته جوزفين – المخطوفة والمقتولة قبله بسنوات – بأن ثروته، ما وراء الموت، ستكون مكتبة ضخمة وأكواماً من المطبوعات والوثائق. والحقيقة إن كاتباً من طينة ربيع جابر ما كان في إمكانه أن يعد موتاه بنعيم أغنى من نعيم المكتبات. ربيع جابر نفسه قد يتصور الفردوس ما بعد موته، مكتبة بملايين الكتب تشغله إلى أبد الآبدين. يقرأ فيها كل ما لم يقرأه في حياته الأولى. حياة ما قبل الموت. ولكن هل ثمة حقاً ما لم يقرأه ربيع جابر بعد؟

الجواب ابتسامة درزية عذبة

ليس من السهل وصف ربيع جابر أو الحديث عنه. فهو الذي كان بالكاد تجاوز الثلاثين يوم كتب "تقرير ميليس"، كان قد أصدر حتى ذلك الحين أكثر من دزينة من الكتب ويبدو لك كاللغز مهما كانت درجة قربك منه أو معرفتك به. يفضل الصمت هو الذي غالباً ما لا يكون جوابه عن أي سؤال تطرحه عليه سوى ابتسامة عذبة مباغتة تطل ولو لجزء من الثانية. ولربيع جابر ابتسامات عدة مثلما حال كل درزي مخضرم. كل واحدة منها تعلن شيئاً أو موقفاً. وإذا كان ربيع جابر يفضل الصمت المبتسم على الكلام، فما هذا إلا لأنه يشعر دائماً بأن وقته ضيق. هو يريد أن يملأ الوقت بالفضول. والفضول عنده جزء من علاقته ببيروت. بيروت تثير استغرابه فيحاول سبرها رواية بعد رواية متجولاً في طوبوغرافيتها ليس كسائح ولا ككاتب بل كفضوليّ من طبقة مدهشة. إنها لديه مثل تلك المونوليت الضخمة التي ينصبها السينمائي ستانلي كوبريك أمام الكائنات الحية لغزاً يعييهم منذ فجر التاريخ إلى الألفية الجديدة.

لقد اعتاد ربيع جابر في العدد الأكبر من رواياته، أن يقود قارئه كما أبطاله في أزقة بيروت وساحاتها. في أسرارها وصولاً إلى ساحق تاريخها وغور أعماقها بحثاً عنها. وأبطاله، مثله، يعيشون بيروت بكل جوارحهم، منذ مارون بغدادي في "البيت الأخير" وأستاذ التحليل النفسي المنتحر في "رالف رزق الله في المرآة" وصولاً إلى آل البارودي في ثلاثية "بيروت مدينة العالم". وهو هنا يفعل الشيء نفسه في "تقرير ميليس": "بطله" هذه المرة هو سمعان يارد. وهنا مرة أخرى يخادع ربيع جابر قراءه: ففي الحقيقة إذا كان القارئ المفترض للرواية سيعتقد لوهلة أن سمعان هو الأنا/ الآخر لربيع جابر، فإن هذا غير صحيح. تماماً أن الكاتب لم يستخدم في الماضي لا مارون بغدادي ولا رالف رزق الله ولا حتى نور خاطر أنوات/ أخرى له، حتى وإن كان وقّع مرة، واحدة من رواياته باسم نور خاطر.

موت واقعيّ

هؤلاء كلهم يموتون في روايات هذا الكاتب. الموت عنصر أساسي في رواياته (هل الموت هو في نهاية الأمر كناية عن موت المدينة؟ من الصعب أن تكون ثمة هنا إجابة قاطعة. ذلك أن ليس ثمة مكان للكنايات في هذا الأدب "الواقعي"). هل قلتُ "واقعيّ"؟ تبدو الكلمة هنا ثقيلة الوطأة. ومع هذا كل شيء في "تقرير ميليس" كما في معظم روايات ربيع جابر الأخرى (حتى وإن تحدثت إحداها عن رحلة مشرقية قام بها غرناطيّ في العصور الوسطى؛ ووصلت ثانية إلى أغوار الصين مكاناً وموضوعاً) كل شيء واقعي. أو يكاد الكاتب يقسم أنه واقعي من دون أن يقسم (وهو في هذا تلميذ نجيب للأرجنتيني خورخي لويس بورخيس). بل إن إقامة التماهي بين شخصياته وأخرى استعارها من الحياة تصل أحياناً إلى حدود التطابق.

سرّ اللعبة

سرّ "اللعبة" التي بات ربيع جابر يتقنها تبدو في الظاهر بسيطة: إنه يقرأ كثيراً. يتجول في بيروت كثيراً. ويصغي إلى الآخرين بشكل يبدو معه وكأنه لا يصغي. ناهيك بأنه يشاهد على الكومبيتر يومياً أعداداً كبيرة من الصور واللوحات حتى من دون أن يكون عارفاً سلفا ًماذا يريد منها، ولا من الأفلام السينمائية التي يتقن مشاهدتها. وهو يخلط كل هذا في ذاكرته كما يفعل الطباخ المحترف حين يحضّر وجبة تبدو للوهلة الأولى مخادعة إذ يبدو الطماطم فيها وقد بقي طماطم والرز رزا واللحم لحماً... والتوابل كما هي، لكنها جميعاً سرعان ما تتخذ أشكالاً أخرى بدلالات أخرى. والحال أننا إذا كنا نستخدم صورة الطبخ هنا فالأمر ليس مصادفة. ذلك أن ربيع جابر طباخ ماهر وذواقة في الحياة الحقيقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

علاقات لا توجد إلا على الورق

في النهاية عبثاً يحاول أحد تفكيك "الطبخة" التي يحضّرها ربيع جابر، بالمعنيين الحرفي والرمزي. عبثاً يبحث عمن يكون سمعان يارد في الحقيقة. وعبثاً يتساءل، طالما أن العنوان يحمل اسم تقرير له علاقة باغتيال رفيق الحريري، عما إذا كان من الممكن لرفيق الحريري أن يكون في اللحظة عينها جالساً حقاً منكباً على قراءة أكوام من الكتب تحمل سير الشهداء الذين قتلهم معه الانفجار الذي أُعدّ له. كما سيكون من العبث لمن يزور منطقة الأشرفية قرب ساحة ساسين (على بعد أمتار من البيت الخفيّ الذي يقطنه ربيع جابر في الحياة الحقيقية) أن يشاهد بيت آل يارد كما يصفه الكاتب في الرواية. بل من غير المجدي البحث عن أية علاقة بين سمعان يارد وتقرير ميليس بل حتى موت الحريري.

طبخ وكتب وهندسة

ومع هذا يموت سمعان يارد على بعد ضئيل من المكان الذي فُجّر فيه موكب رفيق الحريري. ولكن هل مات رفيق الحريري حقاً؟ لو صدقنا رواية "تقرير ميليس" سيكون الحريري سعيداً هناك في البعيد حيث يقيم الآن وإلى الأبد بسعادة تماثل سعادة جوزفين الراحلة أخت سمعان التي يبدو أنها نجحت أخيراً في اجتذاب سمعان إلى عالم الما – وراء حيث تقيم. والحقيقة أن نجاحها هذا يشكل مـأثرة متميزة طالما أن الكاتب أخبرنا منذ بداية الرواية أن لسمعان ثلاث أخوات هجّرت الحرب أولاهنّ إلى أميركا والثانية إلى فرنسا أما الثالثة، جوزفين، فإلى الموت. وهو يخبرنا أن الأخوات الثلاث يتنافسن لاجتذاب سمعان. من هنا ليس غريباً ولا صعباً أن تفوز جوزفين في المنافسة ومن ثم يصل سمعان إلى هناك حيث تقيم ويتعرف على الحريري. فهو بعد كل شيء مهندس وله عشيقتان، والحريري مقاول كبير أمضى عقوداً من حياته يفكر في بيروت وعمرانها بفكر العصاميّ المحبّ، فلم لا يشارك هذا القادم الجديد تفكيره؟... ثم أوليس من السهل علينا أن نتنبه إلى كم أن حكاية الهندسة التي تجمع بين الحريري وسمعان يارد تبدو فائقة الأهمية هنا كالطبخ والكتب... اللذين نلتقيهما في ثنايا روايات ربيع جابر الأساسية ومتنها؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة