الآن، وقد جاءت إدارة جديدة إلى واشنطن، كيف ستتحرك إيران معها لتنفذ ما تريده في المرحلة المقبلة؟ الجواب عن هذا السؤال الوجيه يبدأ بمحاولة معرفة ما الأولويات لدى طهران، وما معرفتها بأجندة الرئيس جو بايدن وفريقه، وما خطوط النظام الحمراء؟ فلنحاول الغوص في أعماق الاستراتيجيات الإيرانية.
الأولويات الإيرانية
مما لا شك فيه أن أولوية الأولويات الإيرانية مالية، أي عملياً سيولة سريعة، ما يعني مداخيل جديدة، أو رفع عقوبات، والنخبة الحاكمة في طهران تعيش حياتها المادية طبيعياً، ولكن عسكرها، وميليشياتها، وبيروقراطييها، وأنصارها، بحاجة دائمة لتمويل ميداني، بينما النظام يضع أولوية أمنه، وقدراته المالية قبل حاجات مختلف قطاعات الشعب، كما تروي المعارضة.
والأولوية الثانية هي مسألة الاستمرار بالإمساك بالبلاد ومختلف القطاعات بطريقة استبدادية، ما يعني عدم الإقدام على إصلاحات سياسية واجتماعية، خوفاً من تغيير كبير يطيح النظام، وزاد القلق لدى النخبة الحاكمة بعد تظاهرات خريف 2019، التي كشفت عن عمق الرفض الشعبي للنظام.
أما الأولوية الثالثة فهي التمسك بنشر الميليشيات بما باتت شبه "مستعمرات إيرانية" في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، إذ إن سحب هذه الميليشيات في هذه الدول قد يقود لانهيار في إيران نفسها.
والأولوية الرابعة هي استمرار طهران بتوسيع أسلحتها الاستراتيجية، بدءاً بالصواريخ الاستراتيجية، والصواريخ المضادة للطائرات، والدرونات، والزوارق السريعة، بالإضافة طبعاً لبرنامجها النووي العسكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طهران غير قادرة على التغيير
إن طبيعة النظام الخميني، كالأنظمة الكلية الأخرى من الاتحاد السوفياتي إلى "طالبان"، لا يمكن أن ينجو من تغييرات جوهرية تصيب أولوياته الأساسية، إذا ما تم القبول بها، فأي تراجع على أي "محور" سيتسبب بانهيار على كل المحاور، كما حدث مع موسكو بعد إصلاحات الـ"غلاسنوست" والـ"بيريسترويكا"، ولهذا الموضوع مراجعة في ما بعد. والسؤال الآن هو، كيف يمكن لطهران أن تأخذ ما تريده من بايدن، وتقنعه بالعودة إلى الاتفاق، ولا تعطيه شيئاً لا يمكنها أن تعطيه؟ سؤال كهذا يشغل نصف الكونغرس، والشرق الأوسط ومختلف معارضات النظام الإيراني في المنطقة. وهذه هي مقاربي.
أولاً: الاستفادة من خروج ترمب
إن النقطة الأولى التي تستفيد منها إيران، هي من دون شك خروج دونالد ترمب من البيت الأبيض، واحتمال تراجع سياسة "الضغوط القصوى" التي هندسها بومبيو وبراين هوك، هذا الواقع هو أهم ما ستستفيد منه طهران فوراً، على الرغم مما يؤكده بعض المحللين من أن إدارة بايدن لن تتراجع عن هدفها لمنع حصول طهران على القنبلة النووية، والمسألة اليوم ليست بافتراضيات المستقبل، بل بمعادلات الحاضر، وما سيتغير، وقد بدأ بالتغير، هو وقف التصعيد في العقوبات، على الرغم من إبقاء العقوبات بعض من الوقت.
وإن كان وقف التصعيد تدريجياً، شبه خفي، فهو عملياً ما تنتظره طهران من الإدارة الجديدة في واشنطن في هذه المرحلة، وليس أكثر بكثير.
العودة إلى المفاوضات
النقطة الثانية بالنسبة للقيادة الإيرانية هي العودة للمفاوضات مع الولايات، أياً كان شكلها ومحتواها، إذ إن مجرد الجلوس مع إدارة بايدن سيعيد بعض الرصيد السياسي والدبلوماسي "للجمهورية الإسلامية"، بعد أن خسرت الكثير من هذا الرصيد خلال أعوام إدارة ترمب، وجهود هذه الأخيرة لعزل النظام الإيراني. عندما سيجلس ممثلو خامنئي مع طاقم المفاوضات الأميركي، سواء أكان في إطار ثلاثي مع الأوروبيين، أو في إطار الخمسة زائد واحد، أو غير أطر، فإن تلك الصورة ستستعمل من قبل القيادة الإيرانية في الداخل الإيراني لزعزعة أمل الناس العاديين بأي تغييرات، وإضعاف ثقة المعارضات في المنطقة، وتصلب الميليشيات في مواقعها، وإعادة الإيرانيين إلى الطاولة ستقويهم إعلامياً ودبلوماسياً.
بعض السيولة
النقطة الثالثة هي المحاولة للحصول على سيولة باتت صعبة المنال منذ العقوبات الأميركية والدولية، لذا، فإذا كانت هناك من مساومة مع فريق بايدن، فستكون على موضوع الـ"cash"، ومفاوضو بايدن سيعدون النظام بمداخيل، إما عن طريق رفع بعض العقوبات غير الكبيرة، وإما عن طريق شركات تعطى استثناءات، وفي المقابل، تتعهد إيران بألا "تخربط" سياسة بايدن الدقيقة خلال 2021، بما يعنيه أن طهران ستحصل على سيولة كأكسجين، بينما إدارة بايدن ستحصل على "الرصيد السياسي" مع الرأي العام الأميركي، ومع إسرائيل، ومع التحالف العربي، بمعنى أنها لن تستسلم لإيران، أما ما بعد الانتخابات النصفية، فلكل حادث حديث.
"المستعمرات"
النقطة الرابعة تتعلق بالعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، أي "المستعمرات الإيرانية"، فستحاول طهران، وقد تنجح نسبياً، بتحييد هذه الدول عن تدخل إدارة بايدن في ملفاتها المتعلقة بحقوق الإنسان، والديمقراطية، والميليشيات، والاستفادة الاقتصادية، لقاء أن تمتنع إيران، أو تخفف، من أعمالها الأمنية ضد دول التحالف العربي، وهنا النتائج ستكون أكثر رمادية، فالمصالح الاقتصادية الأميركية ستحاول الاستفادة أيضاً من تخفيف التشنج في الدول التي يسيطر عليها الحرس الثوري، وإيران ستحاول إضعاف الخليج وإرباكه كلما سنحت الفرصة. من المبكر التكهن.
أما ما دون هذه الأولويات الإيرانية الرئيسة، فالعناوين تبقى هي هي، حتى استقرار الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة في السنتين المقبلتين، لذا فشعوب الشرق الأوسط التي كانت تأمل بتغييرات كبرى يأتي بها ترمب في السنوات الأربع المقبلة، ولو عشوائياً، وبضجيج، وأخطاء من وقت إلى آخر، ستحصل على أربع سنوات إضافية من سياسة أوباما، وإن لم تشبهها بالشكل، والتوقيت، والخطاب الدبلوماسي.
والاستثناء الوحيد هو انفجار القنابل البشرية، كما حدث إبان "الربيع العربي"، ولكن في دول أخرى، أم حرب غير محسوبة في معادلة غير مضبوطة. سنرى.