Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف وقع هاينريش مان ضحية شهرة أخيه وسطوة الفن السابع؟

يوم محا "الملاك الأزرق" البروفيسور أونرات من الوجود

لم يكن هاينريش مان ( على يسار الصورة) في مستوى يقل عن أخيه توماس في مدار الكتابة (غيتي)

لا شك في أنهم كانوا ولا يزالون كثراً هواة السينما والثقافة بشكل عام من الذين لو سألتهم عما يعنيه لهم عنوان "الملاك الأزرق" سيبادرونك بأنه يعني ثلاثة أمور: ملهى ليلياً أوجدته السينما في برلين بدايات القرن العشرين، والفيلم السينمائي الذي يلعب فيه هذا الملهى دوراً أساسياً، لكن قبل هذا وذاك: مارلين ديتريش، فاتنة السينما التي جعل الفيلم هذا اللقب تُعرف به طوال حياتها ومسارها السينمائيّ.

لكن جرّب هنا أن تطرح سؤالاً تالياً يبدو لك منطقياً وهو: وماذا يعني لكم اسم البروفيسور أونرات؟ فلن تجد من يجيبك اللهم إلا عدد قليل جداً من غلاة الهواة من الذين يصادف أنهم يعلمون ثلاثة أمور أخرى أساسية: أولها، أن البروفيسور أونرات هو الشخصية الأساسية في ذلك الفيلم نفسه، وثانياً، أن الرواية التي اقتُبس منها تحمل في الأصل اسم البروفيسور عنواناً لها، وثالثاً، وهو الأمر الأساسي على أية حال، أن تلك الرواية كانت أكثر شهرة من أي فيلم حقق عنها، ومن تأليف كاتب يبدو اليوم منسياً هو هاينريش مان.

المشكلة أن هاينريش، قد لا يُذكر اليوم إلا عرضاً في معرض الحديث عن مان آخر، هو بالطبع توماس مان صاحب أعمال روائية كبيرة طبعت أدب القرن العشرين من "دكتور فاوستوس" إلى "الموت في البندقية". يُذكر هاينريش مان ليقال إنه شقيق توماس مان، بالتالي إن هناك عدداً لا بأس به من الكتّاب الذين يحملون اسم العائلة نفسه "مان". أما أشهرهم فهو، بالطبع، توماس مان وأما من يلي توماس في الشهرة فابنه كلاوس، وربما لأنه مات انتحاراً، ومن بعد ذلك شقيق توماس هاينريش الذي نتذكره هنا.

أين الخطأ؟

لا شك في أن هذا الترتيب ظلم كبير، لكن سيكون من عدم الإنصاف "اتهام" توماس مان، بأنه طغى على شهرة أخيه عن قصد. بل يمكن الاستناد إلى كثير من المراجع والشهادات لتأكيد أن توماس مان لم يكن مستاءً من شهرة أخيه يوم كان هذا محلقاً في سماء الشهرة، تحديداً بفضل روايته "البروفيسور أونرات" التي قرئت على نطاق واسع عند صدورها، وصارت زوادة لكل قارئ قبل أن تصبح الفيلم الذي نعرف.

علماً أنه كان لدى هاينريش أكثر من دزينة من السنوات يستمتع خلالها بروايته ومقروئيتها ومكانتها، قبل أن يظهر الفيلم فينسف له كل شيء. هو كتب الرواية عام 1905 والفيلم ظهر عام 1928 مرة، ليحقق من جديد مرات أخرى طوال القرن العشرين منها واحدة وأكثر في السينما المصرية، من دون ذكر اسم الكاتب. لكن هل كان أحد ليعبأ بهذا الاسم وهناك مارلين ديتريش وإميل جاننز في الدورين الرئيسيين؟

شخصيات من لحم ودم

مهما يكن من أمر، من المؤكد أن هاينريش مان، لم يكن ككاتب، في مستوى يقل عن أخيه توماس، بل إن هناك بين النقاد والمؤرخين من يعتبره أكثر أهمية منه، على الأقل لأن اتجاهاته الفكرية كانت أكثر وضوحاً من صاحب "الجبل السحري". خصوصاً، في رأي أولئك، لأن الشخصيات لديه كانت من لحم ودم، بينما غلب الرمز وسطوة الفكرة على رسم توماس مان شخصياته.

 

 

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هاينريش مان لم يكن، بأية حال من الأحوال، مؤلف كتاب واحد، بل كان غزير الإنتاج متنوّعاً، واضح الرؤية، كل ما في الأمر أن السينما حين استولت على روايته الأكبر "البروفيسور أونرات" ظلمت مبدعها. من هنا اعتبر هاينريش مان نفسه، في المقام الأول ضحية الفن السابع، الذي سوف يكون له عدد كبير جداً من الضحايا على امتداد تاريخه بعد ذلك.

الوقوع في فخ "لولا"

ولد هاينريش مان عام 1871 في لوبيك في ألمانيا، وهو لئن كان قد بدأ الكتابة والنشر قبل أخيه الأصغر فإنه بقي مرتبطاً بأبيه، تاجر الحبوب المزدهر المقيم والعامل في برلين. لكن بعد رحيل الأب في العام 1891، استقل هاينريش بنفسه اقتصادياً، وانخرط في النضال الاشتراكي جاعلاً من أدبه وسيلة للتعبير، لا سيما في تلك النصوص، الروائية وغير الروائية، التي راح يصور فيها، منذ وقت مبكر، انحطاط المجتمع الألماني الرفيع في زمن الإمبراطور ويلهلم الثاني.

كانت انطلاقته الأولى والأساسية في كتاب أصدره في العام 1900 بعنوان "في بلاد النميمة" اعتبر حين صدوره أشبه ببيان اجتماعي. ومنذ ذلك الكتاب لم يتوقف هاينريش مان عن التعاطي النقدي مع شؤون المجتمع، بحيث إنه في كتبه الأخيرة راح يتوقف مطولاً عند الجشع المرتبط بالثراء والجاه والسلطة في ألمانيا تلك الحقبة.

في هذا السياق، تبدو روايته "البروفيسور أونرات" مرآة للسقوط الاجتماعي والأخلاقي المدوي، التي تدور من حول أستاذ مدرسة ثانوية محترم ومجدّ في عمله لا يتوقف عن تقديم النصح لطلابه بعدم ارتياد النوادي الليلية، لا سيما النادي المعروف بـ"الملاك الأزرق" لفساده وقدرته على إفسادهم. ثم إذ يحدث له يوماً أن يلاحق الطلاب وصولاً إلى الملهى كي يردعهم، يجد نفسه وقد وقع في الفخ: فخ الملهى وحياته الليلية والمغنية الراقصة الفاتنة لولا لولا.

هكذا تنقلب حياته وينهار على كل الصعد كصورة لانهيار المجتمع نفسه. ونعرف أن هذا هو الموضوع الذي سحر كثراً من الناس، ليس في الرواية طبعاً حيث لم تكن هناك مارلين ديتريش وسحرها وغناؤها، بل في الفيلم الذي أنسى الناس مغزى الحكاية ليوقعهم بدورهم في فخ لولا لولا.

غيبوبة رواية

هكذا نُسيت الرواية ولم يعبأ كثر حتى بالأداء الرائع في الفيلم الذي قدمه إميل جاننز نفسه. هم الذين لم يعبؤوا بالتالي بالرواية نفسها التي راحت تغيب أكثر وأكثر منذ ذلك الحين!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن، يبقى الأشهر بين أعمال ذلك الكاتب، الذي راح منذ وفاة والده يعيش معظم أيامه في الخارج، لا سيما في فرنسا التي صار جزءاً من حياتها الثقافية، فهي ثلاثيته المعنونة "ثلاثية بلد القيصر". في تلك الرواية التي لم يمكّنها طولها ومحلية موضوعها من أن تنال حظها من الشهرة والمكانة، رسم هاينريش مان صورة أدبية رائعة للأنماط الاجتماعية التي ينتجها المجتمع التسلطي. لكن انخراط هاينريش مان في الكتابة الناقدة، جعله يتجاوز الكتابة الروائية، لينشر كتباً ودراسات تهاجم صلف السلطة وخضوع المواطنين.

عودة أخيرة ومتأخرة

في الحرب العالمية الأولى 1918، وبعد هزيمة ألمانيا، أصبح هاينريش مان ناطقاً أساسياً باسم النزعات الديمقراطية الراديكالية، حيث نشر كثيراً من الكتب السياسية وقاده هذا إلى أن يسلك درب المنفى عند استيلاء النازيين على السلطة في العام 1933. ومنذ ذلك الحين أمضى الشطر الأكبر من سنواته متنقلاً بين فرنسا الشطر الأكبر من أيامه والولايات المتحدة، حيث أصدر كتاباً عنوانه "هنري الرابع" في جزءين في العامين 1935 و1938 عن نظرته إلى الحكم المثالي وإلى أمثل الأساليب التي بها يمكن ممارسة السلطة بشكل يتسم بنزعة إنسانية.

رحل هاينريش مان عن عالمنا يوم الثاني عشر من مارس (آذار) 1950 في سانتا مونيكا في الولايات المتحدة الأميركية، خمس سنوات قبل رحيل أخيه توماس. وحينها، ذكر كثيراً بوصفه من المثقفين الكبار العاملين ضد النازية وهتلر، لكن بالكاد ذكره أحد ككاتب روائي كبير، حتى وإن لم يفت البعض تذكّر "الملاك الأزرق"، الفيلم الشهير الذي عاد للارتباط باسمه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة