Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خريف البطريرك العربي!

استعاد الربيع العربي عنفوانه، وكما لم يكن في مكنة أحد استنتاج نواتج الموجة الأولى، فإنه لم يكن ممكنا استشراف الموجة الثانية، التي يبدو لي أنها تكملة للأولى ليس إلا

جانب من مظاهرات السودان (رويترز)

المشهد العام

(القيامة الآن)... علق في إجماع منقطع النظير فلاسفة واقتصاديون ورجال أعمال ومال، وما في حكم ذلك في أميركا وأوروبا وكُثر من دول العالم، كان ذلك عقب الأزمة الرأسمالية الكبرى عام 2008م، ذلكم الزلزال ما ضرب الدول الرأسمالية الكبرى وتوابعها، كما الحجر ضرب المياه الراكدة في العالم وخلخل كل هشّ ورخو، فإذا بظاهرات تندلع في تلك الدنيا كالهجرة غير الشرعية! والإرهاب، فالإرهاب المضاد، وما تبعها من شعوبية ويمين متطرف... وهلم. ولم ينتهِ العقد الأول من الألفية الثالثة حتى كان العقد الثاني، عقد ما سمي الربيع العربي، ومنذئذ لم يعد العالم العالم الذي نعرف رغم ظن الظانين، رغم تجزئتهم للوقائع وتفكيك المترابط، فلقد طال الشرر تِبناً جفّ ونَتِنَ وحان حرقه.

ومن هذا فإنه في ظني عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" لسان حال مرحلة جملة وتفصيلا، على الخصوص في العالم القديم وقلبه الشرق الأوسط، ما اهترأ وباد ولم يعد ينفع معه عطّار، لهذا بدا كالثمار الفاسدة يتساقط تباعا وبفعل أيدي جموع خرجت عن عقالها.

وإن في لحظة ما بان الحدث الأعظم، كما خريف فإنه حقا (خريف البطريرك) ما يتداعى كما الدومينو، ودون أن يلتقط البطريرك أنفاسه شبّ الحريق وغاص في كثبانه. (ياسمين تونس) ما انبثق في يناير (كانون الثاني) 2011م تتالى في دول ظنت أنها خارج التاريخ، أيّ ميتة وإن لم تدفن، لكن هذا الربيع العربي، ما تفجّر في الألفية الثالثة، أخرج ما بدا أنه مدفون، حتى أنه أعاد في الدول المتقدمة أفكارا قرووسطى، كتسوير الحدود، فركوب البشر البحر على ألواح مطاطية! في هجرات كما في أول التاريخ، ثم شيوع الحروب الأهلية كتكملة للمشهد الذي عمّ عقب سقوط إمبراطورية الاتحاد السوفييتي نهاية الألفية الثانية، وما شابه.

المشهد الخاص

إنك لن تنزل النهر مرتين، حسب قولة الفيلسوف هيراقليطس، ولن ترى الربيع العربي مرة ثانية، كما في أول العقد الثاني من الألفية الثالثة، لكنه في آخر هذا العقد استعاد الربيع العربي عنفوانه، وكما لم يكن في مكنة أحد استنتاج نواتج الموجة الأولى، فإنه لم يكن ممكنا استشراف الموجة الثانية، التي يبدو لي أنها تكملة للأولى ليس إلا، وما لم تكتمل بعد بطبيعة الحال.

وما يُلاحظ أنها دكتّ الحدود المرسومة على الخرائط، كما انبثقت في تتابع ملحوظ اختزل الزمن، فظهرت كظاهرة واحدة تُدعى الربيع العربي، ما شعارهُ "إسقاط النظام"، ما توضح أنه ليس إسقاطا لحاكم سياسي، بل لمنظومة متماثلة في المنطقة كلها، لا تفصلها حدود مرسومة على الورق.

في البدء حين تهدّم المعبد وخرجت الناس من عقالها، تبوّأ المسألة التيارُ الديني بكل ألوانه المسلحة وغير المسلحة المتطرفة وما في حكمها، ومنذ عهد الرئيس المصري محمد أنور السادات والمصالحة مع الدولة الدينية اليهودية (إسرائيل) بدأ النسج على المنوال، فالحل هو الإسلام. وتحت هذا الشعار قامت الثورة الإيرانية، كما قام بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي، بحشد ديني لمواجهة "دولة الإلحاد"، الاتّحاد السوفيتي.

كان تيار الإسلام السياسي المسلح المدعوم دوليا قد اجتاح المنطقة وهيمن على الشارع، لهذا سيطر على الموجة الأولى من الربيع العربي، فيما جناحهُ الأكثر تطرفا هيأت له الأوضاع أن يمارس جهادا أصوليا عالميا لغزو العالم ولجني حصاد ما زرع في (غزوة نيويورك). كان هذا بمثابة الفخ الذي وقع فيه، حيث كانت هذه العملية مرحلة المحرقة لهذا التيار، ما استخدم من قبل الولايات المتحدة في حربها ضد الاتحاد السوفيتي وخرج عن الطوق فلعب دور (الإرهابي المتمرد)، هذا الدور نهاية الفيلم الهوليودي لربيع التيار الإسلامي السياسي المسلح.

المشهد المقبل

الموجة الحالية للربيع العربي في الجزائر والسودان توكد أن الحالة الراهنة للمنطقة هي تابعات زلزال اجتاح العالم منذ نهاية القرن الماضي وإطلالة الألفية الثالثة، حيث أن الانهيارات تجتاح العالم تباعا، فمنذ أكثر من عقدين والتغيير يتتالى: أولا بإسقاط الأنظمة، وثانيا بسقوط المنظومة. وهذا التتابع يبين أن ما يجتاح الشرق الأوسط، وقلبه المنطقة العربية، هو تغيير عاصف وجذري لم تتضح نتائجه بعد، وأن ركائزه الحالية تجعل القادم أكثر غموضا، فما بعد السقوط ما زال جنينيا في تكوينه الأول. وفي ظني أن الحروب، والأهلية منها، هي الناتج الطبيعي لكل سقوط مدوٍ بفعل الثورة، ما تقودها مجموعات غاضبة لا تبصر الطريق، وإن تدرك الطريقة، تعرف ما لا تريد ولا تعرف ما تريد، وهكذا كل محرقات التاريخ.

في (خريف البطريرك) للروائي ماركيز يهرم الديكتاتور ويفقد الفعل، لكنه يبقى مهيمنا. المهيمن ليس بإرادته، لكن بإرادة حياة لم تنتهِ بعد، وحيث أن (الرئيس) إن استقال فإنه لم يمت بعد.

المزيد من آراء