Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بريطانيا تمنع اللقاح عن دول ستحتاج لندن إليها بعد بريكست

أعرف كموظف لدى منظمة الأمم المتحدة كم نحرج أنفسنا على المسرح الدولي

جرعات من لقاح كوفيد قد شُحنت إلى مختلف أنحاء البلاد هذا الأسبوع (غيتي)

تتراوح تكلفة لقاح فيروس كورونا بالنسبة الى أبناء القارة الأفريقية الذين يقدر عددهم بحوالى 1.2 مليار نسمة، بين 4 مليارات دولار أميركي (آسترازينكا) و44 مليار دولار أميركي (موديرنا)، علماً أن هذه الأرقام لا تشمل التكلفة اللازمة لإيجاد البنية التحتية المتطورة التي يحتاجها توزيع اللقاح (إعطاءه للمواطنين). وينطبق الأمر نفسه على سكان الهند الذين يبلغ عددهم 1.3 مليار نسمة، وأيضاً على مليار إنسان آخرين يعيشون في الدول النامية حول العالم.

ومالم يتوفر اللقاح للجميع في أنحاء العالم كافة، سيبقى فيروس كوفيد-19 متفشياً في التجمعات السكانية الموزعة هنا وهناك على مستوى العالم، ما يتيح له الفرصة كي يتحول ويظهر بأشكال أخرى من جديد.

وعلى الرغم من أنها تعرف ذلك حق المعرفة، فإن المملكة المتحدة تعمل مع دول متقدمة أخرى لمنع دول نامية من إنتاج اللقاح بطريقة معقولة تستطيع تحمل تكلفتها.

هكذا تسعى حالياً لجان قديمة عبر إجراءات ضاربة في القدم هي الأخرى، من ضمن عمل منظمة التجارة العالمية إلى وضع اللمسات الأخيرة على قرار ينبغي أن يكون بسيطاً يرمي إلى خدمة الصالح العام بطرق بيروقراطية، لكن من شأنه أن يفرض ثمناً مستحيلاً على العودة إلى الحياة الطبيعية.

يُشار إلى أن ماريو كومو، وهو حاكم نيويورك الأسبق ووالد أندرو كومو حاكمها الحالي، لفت ذات مرة إلى أن السياسيين يستعملون الشعر للقيام بحملاتهم الانتخابية بيد أنهم يستخدمون النثر حين يحكمون. ولعل الفجوة بين هذا وذاك قد اتضحت بفضل الضوء الذي سلطته عليها ببراعة كارين بيرس، وهي مندوبة بريطانيا الدائمة لدى منظمة الأمم المتحدة.

ومع ذلك، فإن آلية الحكومة لا تعتبر تغريدات تويتر بمثابة الوثائق الرسمية، لحسن الحظ. والواقع أن ما تفعله المملكة المتحدة من خلف الكواليس هو مختلف تماماً عما تقوله السفيرة بيرس علناً عبر منصات الوسائط الاجتماعية.   

كانت المملكة المتحدة قد رفضت في الآونة الأخيرة طلباً قدمته جنوب أفريقيا، ولقي الدعم من إيسواتيني وكينيا والهند ودول أخرى كثيرة، للسماح بإعفائها من الالتزام بحقوق الملكية الفكرية الخاصة بلقاح كوفيد-19. كانت هذه الدول عملياً تطلب السماح لها بأن تصنع اللقاح بنفسها كدواء عام، بدلاً من أن تُضطر للتقيد بحقوق الملكية الفكرية لشركات الدواء التي أنتجته. ومن شأن هذا الإعفاء أن يجعل إنتاج اللقاح وتوزيعه في المنطقةـ، أكثر سهولة وسرعة وأقل ثمناً، بما يعود بالفائدة على سكان العالم بأسره.

تلك هي المحاولة الثانية من قبل جنوب أفريقيا والهند للحصول على الإعفاء المنشود. فقد قامتا بمحاولتهما الأولى في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي ذلك الوقت، وصفت مجلة " لانسيت" (المجلة الطبية البريطانية الشهيرة) رفض الدول المتقدمة منح الإعفاء بأنه عبارة عن "خطوة إلى الوراء على طريق مكافحة عدم المساواة في اللقاحات على مستوى العالم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا السياق، إن الدول النامية تطلب فعلياً التنازل عن متطلبات الملكية الفكرية الخاصة بمنظمة التجارة العالمية، والتي تمليها اتفاقية "تريبس" (اتفاقية حول جوانب الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة) Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights والمعروفة بـ TRIPS، وذلك كي يصبح بمقدور الدول المعنية أن تنتج اللقاح محلياً من دون الحاجة لانتظار دول أخرى حتى تمدها به.

وتنصّ قواعد "منظمة التجارة العالمية" على أن أمام مجلس اتفاقية "تريبس" 90 يوماً كي ينظر في اقتراح جنوب أفريقيا، ويقدم توصيته إلى المجلس العام في "منظمة التجارة العالمية". الجدير بالذكر أن مهلة الـ90 يوماً هذه تنتهي في 31 ديسمبر ( كانون الأول) الحالي، وهو التاريخ الذي يمثل الفرصة الأخيرة للمنظمة كي تتخذ قراراً رسمياً بهذا الخصوص. وفي حال وجود عائق ما يمنع المضي بالعملية إلى نهايتها، يمكن للدول ذات العلاقة أن تعيد تقديم الاقتراح، ما يرجع العملية إلى المربع الأول.

هكذا ومن خلال رفض التنازل عن شرط يعتبر الكثيرون أنه يصب في المصلحة العامة، تجد الدول النامية نفسها أمام خيار مستحيل: انتهاك القانون الدولي القائم وإنتاج اللقاح بنفسها، أو الوقوف جانباً موقف المتفرج فيما تستمر معاناة أولئك الذين لايزالون على الخطوط الأمامية فيها لمواجهة الوباء. وهذا ليس خياراً معقولاً ينبغي لأي دولة الاضطرار إلى اتخاذه. لكن سيتحتم على أخرى كثيرة فعل ذلك حالياً.

الواقع أن مجلس "تريبس" TRIPS سيكون ذا أهمية بالغة بالنسبة لحكومة المملكة المتحدة لجهة حماية ملكيتها الفكرية في أعقاب خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. وهي ستحتاج الى دعم دول أخرى كي تحقق هذا الهدف، غير أن الخطوات الدبلوماسية الناقصة التي تخطوها على الدوام تجعل النجاح في كسب هذا الدعم غير ممكن. ويشعر الدبلوماسيون في أروقة الأمم المتحدة و"منظمة التجارة العالمية" سلفاً بالصدمة بفعل النهج "الترمبي" (نسبة إلى الرئيس دونالد ترمب) Trumpian approach  ذات المعايير المزدوجة الذي يتبّعه السياسيون البريطانيون في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، مع التشديد المحير على "الفوز" الذي يبدو عديم المعنى من الناحية الموضوعية.

هكذا، إن المملكة المتحدة تفقد على نحو سريع علامتها الفارقة على المستوى الدولي كبلد كان يُعتقد أنه يمكن التعامل معه.

ستكون كل من الهند وجنوب أفريقيا شريكاً تجارياً رئيساً للمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ولا يسع المرء إلا أن يتخيل كم سيكون حجم الضرر الذي سيلحقه بهذه العلاقات رفض المملكة المتحدة المساعدة في وضع القواعد الأساسية لإنتاج اللقاح. وقد يمثل واحدة من أشد الخطوات الدبلوماسية حماقة حتى الآن.

يصارع دبلوماسيون بريطانيون، من أمثال كارين بيرس، للتغلب على العناد وعلى الغياب المحرج للتوجيه من قبل وزارة الخارجية، الأمر الذي يجعلهم يتحدثون عن القيم البريطانية في العلن ثم لا يلبثون أن يروا كم هي كلماتهم فارغة من المعنى على المستوى العملي. إن الدول التي ترفض المملكة المتحدة مساعدتها الآن لن تنسى بسرعة، وستبقى ذكرياتها عن هذه المرحلة حية لفترة أطول بكثير من المدة التي ستستغرقها الجائحة الحالية.

(أمين باشا هو الاسم المستعار لدبلوماسي بريطاني يعمل في الأمم المتحدة في نيويورك)

© The Independent

المزيد من آراء