Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لنا عبد الرحمن تجعل من الجمال ضحية أبدية

رواية "بودا بار" تقدم وجوهاً من شوارع بيروت الشعبية

الروائية لنا عبدالرحمن (فيسبوك)

يُفاجأ قارئ رواية "بودا بار"، للكاتبة اللبنانية المقيمة في مصر، لنا عبد الرحمن (منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، 2020)، بأنها ترمي في وجهه جريمة قتل منذ صفحتها الأولى، منذ أسطرها الأولى بالأحرى. فيتجلى السرد منذ البداية تصاعدياً مضطرباً محفوفاً بالإثارة والتشويق: من قتل جمانة؟ لماذا قُتِلت؟ من هي جمانة فعلاً؟ أين اختفت جثتها؟ لماذا هي بالتحديد؟ لماذا في هذا اليوم الصيفي الغائم "على غير عادة" في بيروت؟ ما علاقة مروان زوجها بالموضوع؟ ما علاقة الخادمة؟ ما علاقة الجيران؟ ودورا هذه الفتاة اللبنانية القادمة حديثاً من أستراليا كيف ستتأقلم مع هذه المدينة المتوترة المتلعثمة المحفوفة بالمخاطر والمآسي؟

المدينة المغتالة

تقدم لنا عبد الرحمن في روايتها السادسة هذه، بعد "حدائق السراب" (2006) و"تلامس" (2008) و"أغنية لمارغريت" (2010) و"ثلج القاهرة" (2013) و"قيد الدرس" (2016) نماذج متعددة ومتنوعة عن وجوه بيروتية. فتروح الشخصيات تمثل نواحي متعددة من هذه المدينة الحافلة بالتناقضات، ويتنقل السرد بين نازحين سوريين وشباب راغب في الهجرة وجيل حرب وجيل يخشى الحرب وحيوات كثيرة مهزومة تلتف جميعها على بعضها لتعيش في حي شعبي بسيط من أحياء بيروت ما بعد الحرب.

تجعل عبد الرحمن بيروتها مدينة تخلط ما بين الروحانية والمادية، ما بين التقاليد والأعراف والطيبة، وما بين الحداثة والسرعة والجرائم، فتختلط الأوجه كلها في عنوان جامع هو "بودا بار" على اسم بار حقيقي كان موجوداً في بيروت وتشرح عبد الرحمن معناه في صفحات روايتها: "مضت دورا في طريقها وهي تفكر بكلمة "بودا بار" وتجاور كلمة "بودا" مع كلمة "بار" جمعهما معاً في مفردة واحدة تكون دلالة على ذروة الروحانية والمادية في آن". (ص: 33) وكأن هذا البار وهذا الحي وهذه المدينة تجمع البراءة إلى جانب الجريمة، تجمع المقدسات إلى جانب المدنسات، فإلى أية جهة تميل الكفة؟

يلاحظ القارئ الرمزية التي تلعب عليها الكاتبة، ويكتشف أن الجمال مصيره أن يُغتال في بيروت وفي مدننا العربية عموماً، فيرد على لسان إحدى الشخصيات: "الجمال الفائض لعنة لأنه يقترن بسوء الحظ". (ص: 99) إن ذنب جمانة الوحيد هو أنها كانت بارعة الجمال فاتنة فقُتلت، وكذلك هي حال غزال والدة دورا الشخصية الرئيسة، لقد كانت غزال من الجمال بمكان فعُذبت واضطُهدت وعوقبت إلى أن ماتت. فهل تراه يكون الموت والعقاب مصير كل ما هو جميل؟ هل الجمال هو الخطيئة التي لا تُغتفر في مجتمعاتنا؟ هل يجب أن تتحمل المرأة الجميلة عواقب هذه الهبة الربانية؟ وبيروت؟ هل هي الأخرى معاقبة في رواية "بودا بار"؟

بيروت في وجوه أهلها

"لا أريد البقاء هنا... هذه المدينة لا تغريني بالبقاء، ليس فيها ما يرضي طموحي". (ص: 37) يكتشف القارئ في الفضاء السردي لهذه الرواية نماذج لشخصيات لبنانية وبيروتية تحديداً، كما يكتشف بشكل رمزي سريع أبرز هموم المجتمع اللبناني وقضاياه. فهناك أولاً صراع الأجيال ورغبة الجيل الشاب في الهجرة والرحيل، فيتجلى هذا الأمر في المشادات اليومية القائمة بين يوسف الجد الطبيب التقليدي الهادئ الرصين المتمسك ببيته ومدينته وعاداته، وبين يوسف الحفيد العاشق للموسيقى الشغوف الطموح الذي يريد السفر والرحيل واكتشاف العالم وكل ما هو جديد.

قضية أخرى تظهر وهي اليوم متجذرة في نسيج المجتمع اللبناني وهي قضية المرأة عموماً والمرأة المطلقة خصوصاً، من حيث التضييقات التي تصيبها والمواقف المحرجة التي تتعرض لها وبخاصة من طليقها. فإيمان امرأة نشيطة قوية عاملة، أم لثلاث بنات، إنما مطلقة ولا تعرف كيف تنجو من تعنّت زوجها وبراثنه وتصرفاته الرجعية تجاهها، فيرد في أحد مواضع السرد: "استفاضت في الحديث عن مشاكلها مع بناتها الثلاث، وطليقها الكسيح الذي يأتي كل أيام عدة يلوح بعصاه ويهددها بتكسير زجاج المحل إن فكرت يوماً بالزواج". (ص: 23) فكأن مشاكل إيمان وهمومها لم تنتهِ بطلاقها ولم تنتهِ بانتهاء مدة زواج تبدّى فاشلاً، بل تطورت الأمور لتصبح هذه المرأة المناضلة ضحية زوجها وتصرفاته غير اللائقة والتي لا يعاقب عليها قانون ولا شرع ولا مجتمع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشهد آخر من مشاهد الحياة البيروتية هو مشهد النازحين السوريين الموجودين في خيمهم والذين يتعرضون فيها لشتى أنواع التنكيل الجسدي والعاطفي والفكري. فكأن مصائب هؤلاء الهاربين من نيران أرضهم لم تكفِ، فجاءت شرور المحيطين بها لتزيد الطين بلة، فيرد الحديث عن فرح الفتاة السورية التي خسرت عائلتها وحياتها وجامعتها في حلب وهربت مع من هرب إلى لبنان، بالقول: "انقلب عالمها وتحول من النقيض إلى النقيض. انتهى زمن التلميذة البريئة، لقد ماتت البنت التي كانتها، ذهبت مع الراحلين في حلب، وحلّت مكانها فتاة شرسة عليها أن تدافع عن نفسها بكافة السبل كي تعيش؛ أن تضع سكيناً تحت وسادتها، وتنام داخل الخيمة..." (ص: 47).

قضايا متعددة من عمق الواقع اللبناني تطرقها عبد الرحمن بلغة سلسة سهلة تحوّل الرواية القصيرة "بودا بار" إلى قراءة هادئة ممتعة تسلط الضوء على مشاكل يومية يعرفها القارئ ولكنه لا يتنبه إليها دوماً، وذلك كله بهدوء سردي ووصف سريع لا يتخطى المئة والخمسين صفحة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة