تخبرنا رواية "الحارس الأخير للقاهرة القديمة" للكاتب الأميركي مايكل ديفيد لوكاس (صدرت مترجمة إلى العربية عن دار آفاق بتوقيع إيناس التركي)، بأن ذلك الحارس الأخير يفصله عن الحارس الأول نحو ألف سنة، ولم تكن مهمة أي منهما، أو عائلة "الراقب" المسلمة، التي ينتميان إليها، هي حراسة القاهرة القديمة، بحسب العنوان، بل حراسة معبد يهودي كان يقع قديماً على أطراف المدينة، ويغشاه الآلاف من أبناء الطائفة اليهودية المصرية. وبات الآن في قلبها، مجرد مزار سياحي، جرى إخلاؤه على مدى سنوات طويلة من وثائق توراتية نادرة، في حين أن الطائفة نفسها لم يعد لها وجود، ومن ثم باتت حراسة ذلك المكان، على ذلك النحو، بلا معنى.
وربما قصد الكاتب أن معبد بن عزرا يمكن أن يرمز للقاهرة القديمة التي عاشت فيها طائفة يهودية كبيرة لألف سنة، بحسب الرواية، في أمان بات مفقوداً، خصوصاً بعد اشتراك إسرائيل مع كل من بريطانيا وفرنسا في الحرب على مصر في عام 1956، ما ترتب عليه اضطرار المنتمين إليها إلى النزوح من بلد آبائهم وأجدادهم، إلى بلدان شتى. ومن ثم فإنه افتتح روايته رجل الدين اليهودي القديم بقول موسى بن ميمون: "في العصور الخالية، عندما تهددتنا العواصف، ارتحلنا من مكان لآخر؛ لكن برحمة ربنا تمكنا من العثور على مستقر في هذه المدينة".
تبدأ الرواية بحريق معبد بن عزرا، وقد كان قيد الإنشاء ليعيد سيرة معبد أنشئ في أواخر القرن التاسع الميلادي حمل الاسم نفسه، ولكن جرى تدميره في زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، الذي تقول الرواية إنه كان يكره اليهود، على عكس خَلَفه المستنصر بالله. ستتجاوز الطائفة اليهودية ذلك الحريق الذي يبدو أنه لم يكن مدمراً وستكمل بناء المعبد اليهودي الأقدم في مصر في أواخر القرن التاسع عشر، وستعهد لشاب مسلم بحراسته، وستتوارث أسرته العمل نفسه لنحو ألف سنة.
الحارس الأول
"علي المرواني"، كان قبل أن تسند إليه حراسة المعبد، الواقع في الفسطاط (تحديداً في النطاق الذي يعرف حالياً بمصر القديمة، جنوب القاهرة)، وهو في نحو الثالثة عشرة من عمره، يعمل سقاءً، ثم اكتسب بعد سنوات من عمله الجديد لقب "الراقب"، وتوارثته أسرته كما توارثت المهمة ذاتها. أما سبب اختياره هذه المهمة على الرغم من أنه ليس يهودياً، فيرجع إلى ملاحظة القائمين على المعبد أمانته في نقل رسائل متبادلة بينهم وبين "أبي سعد"؛ كبير مستشاري الخليفة، الذي كان اليهود يعتبرونه أهم حليف لهم في دائرة حكم مصر آنذاك. أما "علي المرواني" فقد قبل ذلك العمل، لأنه سينال عنه أجراً شهرياً يفوق ما يحصل عليه من عمله الأصلي في ستة أشهر، ومن ثم سيتمكن من الاتقاء اجتماعياً.
أحداث الرواية موزعة على ثلاث حقب زمنية، الأولى تخص زمن الحارس الأول وتطور علاقته بمجلس إدارة شؤون الطائفة اليهودية، وخصوصاً هيامه بابنة أحد أعضاء ذلك المجلس من "آل شيماريا"، ما أدى إلى تورطه في التغاضي عن قيام شخص يهودي يعمل في السحر بسرقة أكوام من أوراق الجنيزة من داخل المعبد بعد أن هدده بأنه سيفضح أمر لجوئه إليه لصنع تمائم أوهمه أنها ستجعل تلك الفتاة تبادله الغرام. في النهاية يعلم المجلس بما حدث، ولكنهم يقررون على الرغم من ذلك استمرار "علي الراقب" في عمله، بشرط أن يتوقف عن التطلع إلى الزواج من الفتاة اليهودية، ويبحث لنفسه عن زوجة، خلال مهلة زمنية محددة، وبالفعل يتزوج من ابنة خاله قبل انقضاء المهلة.
أما الحقبة الزمنية الثانية فتخص جهود شقيقتين إنجليزيتين مع مستشرق يدعى سولومون شيهتر، من أجل الاستيلاء على وثائق يهودية كانت في المعبد وأخرى جرى اكتشافها في دير سانت كاترين بسيناء، فضلاً عن وثائق كانت مخبأة في مقابر اليهود في منطقة البساتين في جنوب القاهرة، ونقلها إلى جامعة كامبريدج، بمساعدة حاخام الطائفة وقتئذٍ، واللورد كرومر الذي كان بمثابة الحاكم الفعلي لمصر، الواقعة تحت الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت. والحقبة الثالثة تخص الحارس الأخير "أحمد الراقب"، ويسردها ابنه يوسف، الذي كان ثمرة علاقة والده بفتاة يهودية هاجرت مع أسرتها من مصر إلى فرنسا عقب حرب 1956. ويتصل السرد الخاص بتلك الحقبة إلى ما بعد ثورة 2011 التي أسقطت حكم الرئيس حسني مبارك، وفتحت المجال لوصول جماعة "الإخوان المسلمين" للحكم للمرة الأولى في تاريخها.
بين هويتين
ولا يسير السرد بهذا الترتيب، إذ تتداخل الحقب الزمنية خلال 16 فصلاً، لنعرف في النهاية أن ذلك المتن الذي شغل 319 صفحة من القطع الوسط في الترجمة العربية، سيكون محتوى كتاب أنجزه "يوسف الراقب"، عقب زيارة لمصر قبل الثورة، استغرقت نحو ثلاثة أشهر حرص خلالها على التعرف من خلال من تبقى من عائلة أبيه ومن تبقى من طائفة اليهود، وعددهم لا يزيد على عدد أصابع اليدين، على ذلك التاريخ الذي كان هو شخصياً ثمرة له، تتأرجح ما بين هويتين دينيتين، اليهودية والإسلام. في ختام تلك الزيارة، وقبل أن يعود إلى أميركا، حيث نشأ في كنف والدته وزوجها، نجح "يوسف" في زيارة قبر أبيه الذي كان ضمن حيز في مدافن اليهود مخصص لغير التابعين لملتهم. كان عليه أن يقفز من فوق سور يحيط بتلك المقابر، وتمنع السلطات اجتياز بواباته المغلقة بإحكام: "كان القسم المخصص لغير اليهود محاطاً بسور قصير من الطوب، ويقع في الركن البعيد من البوابة الرئيسة وضريح موريس قطاوي. كان قبر والدي في الخلف، له شاهد بسيط أسود اللون وقد نقش عليه اسمه وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته، بالإضافة إلى آية من القرآن (وكان الله على كل شيء رقيباً). في طريقي للخروج وجدت شاهدي قبر جدي والدتي". أما أهم ما خرج به من تلك الزيارة، فكان تيقنه من أن لفافة يقال إن النبي عزرا كتب عليها النسخة الأصلية للتوراة، لا تزال محفوظة في جنيزة معبد بن عزرا، بينما مات والده وهو يظن أنه قصر في حمايتها وتسبب في فقدها. هذا ما أخبره به يهودي عجوز يدعى "موصيري"، مذكراً إياه بأنه كان يفترض، وفق التقليد المتوارث، أن يتولى بعد وفاة أبيه، مهمة الحراسة الليلية لمعبد بن عزرا... "قال لي امسكها، كما تمسك طفلاً رضيعاً. لم يسبق لي أن حملت رضيعاً من قبل، لكنني كنت أعرف الفكرة الأساسية: أن أمسك الرأس بيد، وأسند باقي الجسد بالأخرى. استشعرت وجود كل أولئك الذين سبقونا؛ كل آل شيماريا وآل الراقب الذين تمحورت حياتهم حول هذا المكان (معبد بن عزرا)؛ أولئك الذين قاموا بالصلاة في المعبد وأولئك الذين قاموا بحراسته" ص 291.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السنوات التالية، عاد "يوسف" لزيارة القاهرة "مرات أكثر من أن أحصي عددها"، بحسب تعبيره، سواء للبحث العلمي، أو للمتعة "ولدراسة شعر العربية اليهودية، ولزيارة السيد موصيري ولرعاية قبور آل شيماري (أهل أمه) وآل الراقب (أهل والده)، وبمرور السنوات أتقنت اللغتين العبرية والعربية، وأصبحت على دراية بالقواعد النحوية للعربية اليهودية، ومن ثم وجد نفسه متحمساً للعكوف على ذلك التراث اليهودي المحفوظ في جامعة كامبريدج لدراسته على الرغم من تيقنه من أن ذلك يحتاج إلى سنوات تفوق بكثير المتبقي من عمره، هو المولود في 1976.
مايكل ديفيد لوكاس روائي أميركي يهودي يعمل في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وفد إلى القاهرة للدراسة في الجامعة الأميركية عام 2000 عندما كان طالباً في السنة الأولى في جامعة براون. فازت روايته "الحارس الأخير للقاهرة القديمة"، بالجائزة القومية للكتاب اليهودي لعام 2018، وبجائزة "سامي رور" للأدب اليهودي عام 2019، بالإضافة إلى جائزة صوفي برودي الممنوحة من جمعية المكتبات الأميركية للعام نفسه.